نتسامح.. ولا ننسى

حديث الشهر

الهول المفاجئ الذي اجتاح الكويت وأهلها في صبيحة الثاني من أغسطس (آب) 1990، هول لا يمكن أن يوصف بكلمات، ولا تستطيع إلا العقول المريضة أن تجد له مبرراً.

الهول ذاك كان في الدوافع والمقدمات والأفعال والنتائج، حمل العالم كله على كف الخطر والمخاطرة، وسيبقى تاريخ العرب الحديث، يبحث عن جذور هذا الحدث الأعظم، يقدم التأويلات ويبحث عن الأسباب ويجدُّ في سبر التفسير لهذه الكارثة التي تسبب فيها النظام العراقي، فكانت وبالاً على العرب وعلى العالم أجمع ودفع ثمنها من أهلنا ضحايا مازالت قبورهم طرية.

قلنا إنه كارثة لأنه لم يحدث في السابق - وليس من أحد منا إلا وقد قرأ التاريخ - أن عرف العالم له مثيلاً، اعتداء أثيم من دولة عربية قدم لها العرب وقدمت لها الكويت على وجه الخصوص، كل عون في ساعة العسرة، ينقلب حكامها على ذاك المعروف، وعلى قيم وقواعد القوانين الدولية، وعلى كل المواثيق العربية المكتوبة أو المتعارف عليها فتشن حملة احتلال دون إنذار على بلد آمن، وبمبررات تافهة صغيرة، ويعيث جيشها في الأرض فساداً، وعلى مدى سبعة أشهر في كل يوم وليلة يُقتل الأطفال والنساء والرجال، كباراً وصغاراً، لا لذنب جنوه إلا لحبهم لأرضهم وبلدهم، ونظامهم الذي ارتضوه.

نتائج هذه الكارثة ما زالت تنزف ألماً وحسرة وناراً في القلوب وليس فقط في آبار النفط المحترقة، وهي إهدار غير مسبوق لثروة وطنية، وتدمير غير مسبوق للبيئة العالمية.

المبررات والادعاءات التي ساقها النظام العراقي في الطريق إلى الكارثة مبررات هي أكثر هشاشة من أن تعاد على مسامع الأذكياء من الناس، وقد تم تفنيدها في أكثر من مكان، ولكن الأهم من ذلك أن كل المبررات التي ساقها النظام العراقي محاولاً تبرير فعلته الشنيعة رجع بعد ذلك وسحبها هو نفسه، واحدة بعد أخرى، إما عن طريق تصريحات مضادة أو على شكل أفعال حقيقية على أرض الواقع، وذاك ما يكشف عن مدى العبث والخفة وغياب المسئولية في نظام يفترض فيه أنه جزء من المنظومة الدولية.

لقد كانت النيات مبيتة والدوافع العراقية للعدوان جاهزة، وقد ظهرت بالتلميح تارة، وبالتصريح تارة أخرى.

الهدف كان التوسع العراقي، والدافع كان هو الفشل الذريع في الحروب التي خاضها ذاك النظام، والفشل في التنمية التي وعد بتحقيقها، إن هدف التوسع لدينا عليه شواهد وشواهد، منها هذه القصة، فقد سرد رئيس النظام العراقي قبل أشهر من الغزو الآثم لأحد كبار المسئولين في إحدى الدول الخليجية قصة فحواها، أن إمبراطوراً ضاق ذرعاً بالدول الصغيرة المحيطة به، فقرر أن يغزوها ويضمها إلى مملكته وأمر قائد جيشه بتنفيذ ذلك، وقد تم، وعندما رجع قائد الجيش، سأله الإمبراطور: هل ضممتم بابل أيضاً؟ فنفى القائد ذلك، فقال له الإمبراطور: عليكم ببابل فهي مفتاح إمبراطوريتي.

وعندما انتهى رئيس النظام العراقي من سرد تلك القصة، سأل ضيفه الكبير من تلك الدولة الخليجية العربية: هل تعرف من هي بابل في عصرنا الحديث؟ وعندما أجاب الضيف بالنفي قال له: إنها النفط!

ذكرني محدثي الكبير بتلك القصة بعد الغزو العراقي للكويت، وهو يقول: "لم يتبادر إلى ذهني قط أن هذا النظام ورئيسه الذي وثقنا به وقدمنا له كل ما نستطيع من دعم كان يريد اجتثاثنا جميعاً".

ولم تكن نوايا النظام العراقي في السيطرة والتوسع تتوقف عند حدود الكويت وحدها، وقد ثبت ذلك بالنية وثبت بالدليل القاطع، فقد ترك الجيش العراقي الغازي من ضمن ما ترك عدداً كبيراً من الوثائق والمستندات، من بينها شريط مسجل للقاء تم بين رئيس النظام العراقي وضباطه الذين كانوا في الكويت، وتاريخ ذاك الشريط هو النصف الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 1990، ولقد حمل هذا الشريط الذي وزع على نطاق واسع بعد التحرير إشارات أكيدة تبين نية التوسع العراقي تجاه المملكة العربية السعودية، كما أن رسالة صدام حسين التي كشفت عنها القيادة الإيرانية لا تترك مجالا للشك في أن "بابل" كانت تضم كل دول الخليج العربية.

فإذا كان ذلك هو الهدف فما هي الدوافع..؟

دوافع العدوان

أما دوافع ذاك العمل المشين، وهو غزو الكويت، وتشريد أهلها، فقد كان الفشل الذريع في حروب النظام العراقي، والفشل الذريع في تحقيق أي نوع من التنمية التي كان يرجوها المواطن العراقي المقهور. لقد انتهت الحرب العراقية الإيرانية دون أن يحقق النظام العراقي ما يريده من تلك الحرب، على الرغم مما دفع فيها من ثمن باهظ بشري ومادى خَلَّف عشرات الآلاف من القتلى والمعاقين وترك خزينة العراق خاوية من جراء الصرف العبثي على مشاريع تسليح وهمية وحوالي مليون مجند في الجيش، وكان أمام النظام - والعالم يشهد انهيار الديكتاتورية في أوربا الشرقية، وتفكك الاتحاد السوفييتي - كان عليه إما أن يسير نحو التعددية وإعطاء حقوق سياسية أكبر للشعب العراقي وإيجاد سبل العمل الشريف والمنتج لمئات الآلاف من المسرحين من جيش لم يعد في حاجة إليه، أو المخاطرة بسقوط النظام واهترائه من الداخل إن لم يفعل ذلك، ولكن النظام العراقي اختار طريقا ثالثاً هو طريق المغامرة - وهي من سماته الأساسية - فكان غزو الكويت، لعل ذلك في نظره يخفف من الضغوط الداخلية، ويغري الشعب العراقي، الذي غرر بمعظمه الإعلام اليومي المنظم القائم على تعظيمٍ وتأليهٍ لشخص الرئيس وتزيين صورته بمشاريع الضم والعدوان.

لا أستطيع أن أقول "لا"

الحوادث والمؤشرات كثيرة ومتتابعة، وما فعلته القوات العراقية بالآمنين من الكويتيين تعجز الأقلام عن وصفه، ولكنني استسمح القارئ قليلاً لعرض وثيقة وصلت إلى يدي من بين مئات الوثائق التي تركتها القوات الغازية عند انسحابها على عجل من الكويت، هذه الوثيقة طريفة وجديدة، ولم تنشر أو يشر إليها أحد من قبل، وهي عبارة عن يوميات ضابط عراقي في الكويت كتبها في الخفاء في أجندة تركها - كما يبدو - خلفه بعد الانسحاب على عجل.

تقول هذه الوثيقة من ضمن ما تقول وأنا أثبتها هنا حرفياً: (اليوم الاثنين المصادف 10/ 9/ 1990 الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، بعد قراءتي رواية "أنا لا أحب الغربة أبداً" راودتني كتابة بعض الكلمات التي ينبغي علي كتابتها وأنا في بلد غريب، بلد جميل كل ما فيه منظم، بلد يعتز أهله بوطنيتهم وأرضهم، كنت أفكر أن هذا البلد قد انتهى وقد دمر، ولكن رغم كل الأحداث، وكل الأعمال الوحشية التي قام بها الكثير من المتخلفين الذين لا يفهمون ولا يدركون، إنهم ناس لا عقول لهم ولا ضمير لهم ولا روح لهم، إنهم وحوش كاسرة، وحوش لا تعرف معنى الإنسان ومما خلق، وأنا أقول إن هؤلاء ليس ذنبهم إنه ذنب التاريخ وذنب الطبيعة المتوحشة التي تربوا (عليها). هل أنا أنتمي لهذا الشعب الشقي الذي عرف بطبيعته وكرمه، بلد فيها النهرين اللذان لا يبخلان على أبنائه، كنت أسائل نفسي وأنا أقف على أعتاب الكثير من البيوت (في الكويت) والأطلال المدمرة والمنهوبة - أجلس في الغربة وأتأمل كل ما حولي وأنا أنظر إلى غرفة مليئة بألعاب الأطفال المكسورة والمطروحة أرضاً أنظر إليها وأحس أنها تقول لماذا دمروني ولماذا فعلوا بي هذا، هل هي عدالة الأرض التي وضعها الإسلام لهذه الأمة، كيف أنظر إليها ولا أستطيع أن أقول حتى مع نفسي: لا؟).

هذا مقتطف مطول من صفحة واحدة فقط من يوميات ذاك الضابط العراقي في الكويت، نقلتها كما هي دون تحوير أو تغيير حتى للأخطاء اللغوية، كي تقف شاهداً تاريخياً وعلى لسان ذاك الضابط في الأرض الغريبة عليه التي يعترف فيها أنه لا يستطيع أن يقول حيال التدمير الذي رآه كلمة "لا".

المقدمات

لقد كان فعل الغزو والاجتياح والتخريب درامياً من مبدئه إلى نهايته، فقد بدأت الشرارة المباشرة بمجموعة من التصريحات والإشارات، ففي منتصف يوليو (تموز) 1990 ذهب وفد شعبي كويتي "ليهنئ الدولة الشقيقة بعيد الثورة!" فإذا به يفاجأ بأن وزير الإعلام العراقي السابق يستدعيه ويصب جام غضبه عليه - وهو الزائر - في حديث قاس ومؤلم هدد في نهايته باستخدام الكيماويات والصواريخ بعيدة المدى، وقال إن (الكاكي) ما زال معلقاً في مكتبه - إشارة إلى استعداده لخوض حرب ضد الكويت - وهذا النوع الصبياني من الإشارات استمر من رأس النظام إلى أصغر مسئول فيه طيلة الأسابيع اللاحقة. ولقد انصبت تلك التلميحات والتصريحات العراقية في مسرحية سياسية غير مسبوقة على ادعاءات عراقية على الكويت، ملخصة في جملتها قصة الذئب والحمل المعروفة، فعندما اتهم الذئب الحمل عدة اتهامات عرف أنها غير موضوعية قال له الذئب في نهاية الأمر إني عزمت أن أفترسك لأنك عكرت علي مياه النهر الجاري (!)، فكان الغزو..

باكورة المذكرات المشبعة بالتهديد هي مذكرة طارق حنا عزيز بتاريخ 15/ 7/ 1990 والتي وجهها إلى الأمين العام للجامعة العربية، وهي مذكرة طويلة ذات ديباجة كلامية سمجة، اتهم فيها الكويت بأنها (استغلت انشغال العراق كي تنفذ مخططاً في تصعيد وتيرة الزحف التدريجي والمبرمج باتجاه أرض العراق فصارت تقيم المنشآت العسكرية والمخافر والمنشآت النفطية والمزارع على أرض العراق) كما اتهمت المذكرة الكويت بأنها (تسرق النفط العراقي) فقد ادعت أن الكويت (قد نصبت في الأراضي العراقية - مستغلة ظروف الحرب مع إيران - منشآت نفطية على الجزء الجنوبي من حقل الرميلة العراقي (!) وصارت تسحب النفط منه).

ثم أضافت المذكرة أن أسعار النفط المتدنية في الأسواق العالمية سببها الكويت والإمارات، أما المساعدات التي قدمتها الكويت للعراق فهي مساعدات (لمعركة قومية تولى فيها العراق الدفاع عن البوابة الشرقية)! وقد تنازل النظام العراقي بعد أشهر قليلة عن كل ادعاءات له في (البوابة الشرقية)!

كانت روح تلك المذكرة استفزازية إلى أبعد درجات الاستفزاز، وكان ظاهرها محاولة لخلق أسباب العدوان وإثارة الموضوع بحجم أكبر بكثير من حجمه الحقيقي.

وتدور الأيام وتقع الكارثة ويتم التحرير وتأتي لجنة محايدة من الأمم المتحدة لترسيم الحدود بين العراق والكويت على أساس الاتفاقات والمعاهدات الدولية الموقعة بين البلدين، وتكتشف هذه اللجنة أن جزءًا كبيراً من الأراضي الكويتية كان تحت السيطرة العراقية، بل إن مطاراً عسكرياً كبيراً دخل في الحدود الدولية الكويتية لصالح الكويت وكذلك عدد من المنشآت والآبار النفطية، وأقرت اللجنة الدولية المحايدة كل ذلك كجزء من الأراضي الكويتية، بمن فيها العضو العراقي المسمى رسميا من نظامه. إحدى القواعد التي اعتمدت عليها اللجنة، بجانب الرسائل المتبادلة بين حكام الكويت والأنظمة العراقية المختلفة والاتفاقيات الموقعة بين الدولتين، خرائط قدمها العراق إلى عصبة الأمم عندما قدم أوراقه للانضمام إليها اعترف فيها بحدوده الجنوبية مع الكويت.

إذن فإن مخطط الزحف التدريجي والمبرمج كان من جانب العراق لا الكويت، وهو منسجم مع منطق الأشياء، إلا أن الادعاءات الكاذبة، والفُجْرَ الصريح كان وما زال من شيمة النظام العراقي.

تلك المذكرة تبعتها مذكرة أخرى في 21 يوليو (تموز) 1990 وأيضاً للأمين العام للجامعة العربية وكانت كسابقتها وعلى السياق نفسه استفزازية، ترد بلهجة عدائية على المذكرة التي بعثتها الكويت استجابة للمذكرة الأولى، وكانت كما هو متوقع إصراراً من الجانب العراقي على تصعيد الموقف إلى درجة الانفجار.

الكارثة

جيلنا الحالي في الكويت بل والجيل العربي كله سيظل يذكر غزو العراق للكويت بكل تفاصيله، وسيذكر الكل أين كان صبيحة يوم الخميس الأسود الثاني من أغسطس (آب) 1990، وسيذكر مسيرة السبعة أشهر الصعبة بين يوم الاحتلال ويوم التحرير في 26 فبراير (شباط) 1991، سيذكر المعاناة والبطش والتنكيل والإرهاب والملاحقة والقتل، ونادراً ما تعرض شعب لمثل هذه المعاناة الهائلة وفي هذا الوقت القصير من جار إئتمنه وركن إليه، كما تعرض شعب الكويت.

عيون النساء والأطفال والدمعة حائرة في مآقيهم من هول المفاجأة سأظل أذكرها بتفاصيلها، رجال مقعدون على كراسيهم يشاركون في مسيرات دعت إليها اللجان الشعبية الكويتية في القاهرة ولندن والرياض وأماكن أخرى كثيرة احتجاجاً واستنكاراً للغزو. شهادات عن التعذيب والقمع يسردها أهلنا أمام لجان الكونغرس الأمريكي وأمام العالم أجمع، مسئولونا الكويتيون وهم يتنقلون بين مدينة ومدينة، وبلد وبلد، متابعين القرارات الدولية.

ضياع وحيرة وتشي في المنفى الذي كان يبدو للبعض ليلاً ليس له آخر. المخاطرة التي تحملها أهلنا في داخل الكويت وهم يقاومون بأشكال مختلفة من المقاومة، بما فيها العصيان المدني الذي كان أوسعها انتشاراً، أنت متهم لأنك كويتي، لأنك مواطن، تتابعك عيون الجيش والمخابرات العراقية، لا يغفو لك جفن وأنت في منزلك، لا لأنك خائف على نفسك، ولكن لأنك لا تعرف متى يطرقون الباب عليك كي ينتزعوا من دفء بيتك فتاتك اليافعة، أو ابنك الشاب. لقد كان الموت - نعم الموت - أعذب وأحب إلى كثيرين من ذاك العذاب المقيم، رعب وإرهاب واغتصاب. كان مجرد وجود صورة الأمير - رمز الدولة - أو ولي العهد أو علم الكويت في بيتك يعني الإعدام دون مساءلة.

كان الجلادون يدخلون أي مؤسسة عامة أو بيت مصان ويفتعلون أي سبب، ويقتادون من قرروا تعذيبه إلى أقبيتهم وبعد أيام يصلبونه، وهو على الرمق الأخير، أمام منزله أو منزلها، ويطلقون عليه أو عليها الرصاص. مرَّ أب، وهو ذاهب يصلي العشاء، على جثة فلم يتبين أنها لفلذة كبده إلا بعد أن عاد من الصلاة، وشك في الأمر، ثم غسل وجه الجثة بالماء لإزالة الدماء التي غطته، فظهر له وجه ابنه الذي اقتاده القتلة منذ أيام بعيداً عن المنزل، كان أتفه سبب يدعو إلى الإعدام، وسارت كوكبة طويلة من الشهداء رجالاً ونساء وفتيات في عمر الزهور وشباباً غضاً، إلى بارئها فداء لوطنها.

وعندما شعر المحتل بقرب خروجه من الكويت التي استعصت عليه، أطلق زبانيته في شوارعها يجمع كل من كان فيها لسبب أو لآخر ويختطفهم، بل وقفت الشاحنات أمام المساجد تتلقف المصلين في يوم جمعة لأخذهم أسرى ومعتقلين، وما زال المئات منهم هناك رهائن وراء سجون النظام العراقي، الذي يرفض حتى التبليغ عن أسمائهم وعددهم للمنظمات الإنسانية الدولية.

دفن الشهداء في مقابر جماعية بلا اسم ولا هوية ولا حتى شعائر، ومات العشرات في هجير الصحراء في الأسابيع الأولى هرباً من الجحيم، ومات الرضع عطشاً بين أيدي أمهاتهم عندما ضلت عشرات السيارات طريقها في الصحراء متجهة إلى المملكة العربية السعودية.

على شاكلته

كان المحتلون - مثل صدام نفسه - لا تعرف قلوبهم الشفقة أو الرحمة، وكم كان مثيراً للاشمئزاز ومروعاً أن يغتال العربي أخاه العربي، دون سبب يذكر إلا الجشع وحب التوسع، لقد شهدت مستشفيات الكويت وبيوتها وشوارعها ضحايا التعذيب وتنفيذ أحكام الإعدام الفورية، إلا أن وحشية ذلك الاحتلال لم توهن عزيمة أهل الكويت، ولا رغبتهم العارمة في التحرر من كابوسه، وعلى الرغم من قوة الجيش العراقي ومخابراته وأساليبه في التصفية والملاحقة، المستمدة من أعتى مدارس الإرهاب التي راكمت خبرتها لسنوات طويلة في العراق نفسه حتى ما عاد المواطن العراقي العادي يستطيع أن يستخدم كلمة لا!، على الرغم من كل ذلك فقد هب الكويتيون والكويتيات لنجدة وطنهم واستخدموا طرقا شتى للمقاومة، فسيروا المسيرات على الطرقات ومفارق الشوارع، ولعبت النساء الكويتيات دوراً في توصيل الرسائل وتهريب المتفجرات، بل اقتحمن مناطق تمركز الأعداء بالسيارات المفخخة، ونشطت جمعيات النفع العام، ونظمت اللجان الشعبية للتكافل، ووزع المال على الأسر الكويتية المحتاجة وغيرها من الأسر الصامدة، ونظم العمل في الجمعيات التعاونية، وعمل الكويتيون خبازين ومنظفي طرق وسواقين لسيارات القمامة، وعملت السيدات ممرضات، وساعدن الجهاز الطبي الصغير المكون من مجموعة كويتية صغيرة وإخوة عرب أبوا إلا أن يشاركوا الكويت صبرها ومقاومتها.

ولم ينقطع اتصال الكويت بالخارج فقد استخدمت التقنية الحديثة، خاصة الهواتف المتنقلة عبر الأقمار الصناعية والمرتبطة بالكمبيوتر لتوصيل المعلومات من الخارج إلى الداخل ومن الداخل إلى الخارج، ووفرت وسائل الاتصال هذه المعلومات الدقيقة وصوراً قريبة للواقع عن الداخل، ومكان تمركز وحدات العدو حيث قدمت للحلفاء معلومات ذات قيمة استراتيجية عالية ساعدتهم في وضع خططهم الناجحة لتحرير الكويت.

وتجلد الشعب الكويتي بالفن أيضاً، فقد شاعت بين الكويتيين أشرطة تفيض أغانيها عذوبة بحب الوطن والتمسك بترابه، حتى صار المنشور والشريط في نظر الغازي كالبندقية والمدفع، ودفعت المقاومة الكويتية التي انتشرت في كل مكان وجاءت من كل فئات المجتمع ومختلف مهنه ومستوياته، دفعت ثمناً باهظاً لموقفها الوطني، من التعذيب وحتى الموت والشهادة.

وفي خارج الوطن نظم الكويتيون أنفسهم بشكل دقيق في لجان عديدة، وطفقوا يدعون لقضيتهم كل من يريد أن يسمع، ويشرحون لكل من يريد أن يرى شطط المحتل وكفره بكل القيم الإنسانية، ونشطت صحف الكويت في القاهرة ولندن وجدة، وتجمع الكويتيون في الخارج في مؤتمر شعبي موسع في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) 1990 في مدينة جدة، وأعلنوا للعالم تمسكهم بشرعيتهم ووطنهم ووحدتهم وأهلهم في الداخل.

وقامت الحكومة الكويتية التي اتخذت لنفسها مقراً مؤقتاً في الطائف بتنظيم أمور معيشة الكويتيين في الداخل والخارج، ومهمة الاتصال الدبلوماسي على أوسع نطاق بدول العالم كافة في مشارق الأرض ومغاربها، وكان الإصرار الكويتي على التحرير يهزم شيئاً فشيئاً شبح الديكتاتورية والفوضى والاحتلال.

العسف العراقي

لقد هاجم الاحتلال العراقي كل شيء في الكويت، هاجم المجتمع بأسره، بكل مؤسساته، فتمت سرقة ونهب المؤسسات العلمية والبنوك ودور الصحف والمتاحف والمدارس، حتى الكتب لم تسلم من السرقة المنظمة، وكان من المضحك المبكي أن يخرج التليفزيون العراقي على الناس بإعلان - بعد نهب إحدى المؤسسات - يقول فيه إن هذه المؤسسة قد (تبرعت) بموجوداتها إلى مؤسسة مشابهة في بغداد أو البصرة! لقد نهب العراقيون مجلة "العربي" وكان أرشيفها الغني الذي جمع على امتداد خمس وثلاثين سنة فيه من الصور والمعلومات ما لا يقدر بثمن، ولقد نهب العراقيون موجودات المتحف الوطني الكويتي الذي جمعت موجوداته من أنحاء العالم وهي أيضاً لا تقدر بثمن، كذلك موجودات جامعة الكويت ومعهد الأبحاث العلمية ومعهد التخطيط ودور الصحف وكل شيء له علاقة بالعلم والثقافة والحضارة، وأحرق الغزاة العراقيون المدارس والمستشفيات والمستوصفات الطبية ودور العبادة والمباني الحكومية ودور السكن الخاصة، وخربوا مولدات الكهرباء ومحطات تنقية المياه، ومراكز كانت جريمة العصر هي تفجير جنود صدام لأكثر من ألف رأس من رءوس آبار النفط شبكات الاتصالات الهاتفية، والمخازن العامة، والمصانع، والمحلات التجارية، ومباني المطار وحظائر الطائرات، وسرقوا الأغذية والذهب، وكل شيء استطاعوا وضع يدهم عليه، ولو استطاعوا طي الشوارع والبيوت ونقلها إلى بغداد لما ترددوا في ذلك.

لقد نهبوا المدينة ثم أشعلوا فيها النار، ولكن التدمير الأكبر هو الذي وقع على نفسية الإنسان الكويتي، الذي آمن بالعروبة وعمل من أجل أهدافها، وبذل لها الغالي والنفيس، وكان له دور عربي وإسلامي مميز، كان هذا هو التدمير الذي استهدفه الغازي، والشعب الكويتي مصمم على أن يفشل هذا الهدف كما فشلت كل أهداف الغزو.

جريمة العصر

كانت قمة الجرائم، بل جريمة العصر، هي تفجير جنود صدام المتعمد لأكثر من ألف رأس من رءوس آبار النفط عشية الانسحاب المهين للجيش الغازي، لقد بذل المهندسون والضباط والجنود العراقيون جل جهدهم في تدمير منابع النفط، ومع أولى الصواعق التي تفجرت في رءوس آبار النفط شب أكبر حريق عرفته البشرية حتى الآن وستظل آثار الكارثة غير المسبوقة في حجم التدمير في التاريخ الإنساني تذكّر بهمجية وبربرية الغازي. لقد قام العراقيون في الوقت نفسه بسرقة المعدات الضرورية للعمل في حقول الآبار النفطية خاصة مهمات مقاومة الحرائق، ونثروا أعداداً ضخمة من الألغام حول حقول النفط، وتدفقت ملايين الأطنان من النفط الخام حول تلك الحقول فشكلت بحيرات ضخمة تعرقل وصول فرق الإطفاء لها.

لقد لوث هذا العمل التربة والمياه الجوفية والهواء وتراكمت في سماء الكويت وجيرانها طبقة كثيفة من الغيوم المكونة من الدخان وجزيئات الكربون حتى غدا النهار ليلاً، ووصلت هذه الملوثات إلى أماكن بعيدة حيث تساقطت ثلوج سوداء على سفوح جبال الهملايا. إن النيران التي أشعلها طاغية بغداد في الكويت، كما تقول التقارير الدولية، هي من (أكثر الكوارث البيئية التي تسبب فيها الإنسان خطورة في التاريخ) كما أن آثار هذا التدمير، على البيئة وعلى صحة الإنسان وعلى الحياة عموماً، خطيرة بمقدار ما هي مجهولة النتائج. لقد لوث - النظام العراقي - الجو والبحر والماء والتربة والإنسان، حاضراً ومستقبلاً، واستحق عن جدارة لقب "مجرم العصر" إن لم يكن مجرم كل العصور.

شعبنا يتعافى

وعلى الرغم من هذه الكارثة وآثارها المدمرة، معنوياً ومادياً وبيئياً، فإن شعبنا - شعب الكويت - يتعافى، فلقد وقفت معه في ساعة محنته شعوب شقيقة وحكومات ملتزمة بالمبادئ والقيم العليا، ورجال ونساء جهروا بالحق في كل مكان، وها هي ستة أشهر فقط تمر على يوم التحرير وتعود الكويت تقريباً إلى سابق عهدها، نعم هي محملة بالألم ومثقلة بالجراح ولكنها أيضاً مليئة بالأمل مستبشرة بالمستقبل، فقد عانت ما لم يعانه بلد في العصر الحديث، ومر شعبها بتجربة مريرة صهرته وأظهرت معدنه الأصيل، ولقد كانت إرادة المقاومة لدى الكويت والكويتيين منذ اللحظة الأولى إرادة صلبة، فقد وجه أمير الكويت كلمة إلى الشعب الكويتي بعد العدوان قال فيها "إذا كان العدوان قد تمكن من احتلال أرضنا فإنه لن يتمكن أبداً من احتلال عزيمتنا، وإذا كان المعتدون قد استولوا على مرافقنا ومنشآتنا العامة فإنهم لن يستطيعوا أبداً الاستيلاء على إرادتنا" وتم ذلك بالفعل.

بهذه الإرادة والعزيمة نهضت الكويت كطائر الفينيق من رمادها كي تكون أحلى وأعز وأجمل، وحتى تبقى شاهداً على بربرية نظام حمل أحط القيم وأرذلها، ولوث تاريخ البشرية بأبشع الجرائم.

ويقدم الكويتيون اليوم المثل الرائع على التسامح، فليس المهم البكاء على ما فات، الأهم من ذلك كله هو بناء دولة قائمة على العدل والتنمية والتسامح وبناء علاقات عربية جديدة قائمة على التعاون والعدل والتآزر، ونبذ الإرهاب.

والتسامح هو قيمة من قيم الإنسانية الأساسية وهو قيمة إسلامية عظيمة، وقيمة حضارية دائمة، وأن نتسامح يعني أن نغلب المحبة على الحقد، وأن نعزز مساحات الضياء في حياتنا على حساب مساحات الظلمة والظلام، وأن نساهم في البناء وفي نشر العمل الطيب في جميع أرجاء أمتنا العربية والإسلامية والعالم أجمع. ولكننا بالتأكيد نتسامح ولن ننسى، لا نحن ولا أجيالنا القادمة ولا كل الخيرين في العالم، الفعل المتوحش الذي قام به النظام العراقي، ولن يهدأ للعالم بال إلا بعد سقوطه وهو ليس ببعيد