معرض العربي.. بول ديلاروش (إعدام الليدي جاين غراي)

درس بول ديلاروش فن الرسم في محترف بارون غرو الذي غذّى عنده الميل إلى المواضيع التاريخية. وبسرعة، أصبح التلميذ أستاذًا مساويًا لصديقيه تيودور جيريكو وأوجين ديلاكروا في قيادة تيار رسم الأحداث التاريخية، وخاصة الدرامية منها، الذي تفشى في فرنسا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.

 

تصوّر هذه اللوحة إعدام الليدي جاين غراي، وهي الملكة التي خلفت إدوارد السادس على عرش إنجلترا، وحكمت تسعة أيام فقط، ثم أزيحت لصالح الملكة ماري التي أمرت بإعدامها في فبراير من العام 1554م، تنفيذًا لحكم كان قد صدر بحقها في العام السابق بتهمة الخيانة.

رسم ديلاروش هذه اللوحة بعد مرور نحو ثلاثة قرون على هذا الحدث، وتحديدًا في العام 1833م، أي بعد ثلاث سنوات من ثورة يوليو الفرنسية التي أطاحت بالملك شارل العاشر، كما أن ذكرى إعدام الملكة ماري أنطوانيت كانت لاتزال حية في ذاكرة الفرنسيين، فاستقبلوا هذه اللوحة بكثير من الضجيج والانفعال والإعجاب. ولكن أهمية هذه اللوحة لا تُختزل بتوقيتها السياسي فقط.

في الجانب التاريخي، من المؤكد أن الرسام أجرى بعض البحث سعيًا إلى أن يكون أمينًا للواقع. فالملكة الشابة (في السادسة عشرة من عمرها) كانت بالفعل مصحوبة بوصيفتين نراهما هنا تنتحبان. كما أنه من المؤكد أن الملكة طلبت أن تُعصب عيناها قبيل قطع رأسها، وأن حاكم برج لندن البارون شاندوس ساعدها على الاهتداء إلى حيث يجب أن تضع رأسها.. ولكن إن شاء مدقق أن يحاكم اللوحة كوثيقة تاريخية فسيكتشف أخطاءً عديدة. وأبرزها أن الملكة أعدمت في باحة خارجية وليس في مكان مغلق كما يبدو هنا. كما أن هندسة البناء في هذه الغرفة المستوحاة من الهندسة النورماندية هي متخيلة، وتعود إلى أن الرسام كان يعرف أن وليم النورماندي هو باني برج لندن. ونشير أيضًا إلى أن منصة الإعدام مستوحاة بالكامل من منصات الإعدام الفرنسية في العهد الملكي. ومع ذلك، فإن أهمية اللوحة هي في مكان آخر.

في هذا المحيط المظلم المادي الداكن والكئيب، صبّ الفنان عبقريته في التلوين على الشخصيات وملابسها فقط ليسلخها عن محيطها، ولتشكل مساحات انتقالية من سواد الظلام إلى اللون الوردي في بشرة الملكة، وصولًا إلى البياض الناصع في ثوبها، والعصبة على عينيها، ليأسر به النظر طالما أنها هي الموضوع الأول والأخير، وكل ما عداها هو حواشي وتفاصيل. ويزداد وقع هذا المنطق التلويني بفعل تقنية ديلاروش المميزة بتوزيع الألوان على سطح اللوحة بالكثافة نفسها، بحيث تبدو ملساء تمامًا، وكأنها مرآة.

صحيح أن الشخصيات ووضعياتها تكاد هنا أن تكون مسرحية باردة، ولكن الرسام عرف كيف يضيف بعض العناصر لتعزيز مأساوية الحدث. فبياض الثوب والقش النظيف الموضوع على الأرض ليمتص الدماء، يحركان خيال المشاهد صوب ما سيكون عليه حالهما بعد لحظات.. وهنا تستتر الشحنة العاطفية الكبيرة في هذه اللوحة.
---------------------------------------
* ناقد تشكيلي من لبنان.

 


بول ديلاروش (1797-1856م)، «إعدام الليدي جاين غراي» (1833م)، زيت على قماش، (246×297 سم)، ناشيونال غاليري لندن