تعقيب: بين تطرّف المبدع وواقعية الناقد نعمان صارب

(تعقيب على مقال أسطورة العربي)

"للكاتب الكبيرعباس محمود العقاد قول فيه شيء من الطرافة مع أنه يحمل جانباً كبيراً من الحقيقة يقول العقاد: (عندما أسمع النقاد يتحدثون عني أظن أنهم يتحدثون عن شخص آخر لا أعرفه ولا تربطني به أي صلة).

وبطبيعة الحال فإن العقاد لم يرد أن يقلل من دور وأهمية النقد، إلا أنه أراد أن يدلل على اتجاه بعض النقاد إلى تحميل النص الأدبي ما لا يحتمل.

ومع أن كاتب المقال قد أضاء لنا جوانب جمالية من بيت المتنبي الشهير:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

إلا أن بيتا واحدا أو حتى قصيدة بكاملها ولو كان قائلها المتنبي بكل عظمته، لا تصلح لأن نتخذ منها متكأ لتقرير ليس فقط ما يتعلق بدخيلة الشاعر وما استقر في ذاته، بل وخصائص أمة وما ثبت في وجدانها الجماعي وهو ما انتهى إليه الكاتب.

ردود أفعال لمؤثرات نفسية

ولعلني أعزو ذلك إلى أن الشعراء أكثر الناس حسا ورهافة شعور بل وتطرفا أيضا، وبالتالي فإن نتاجهم الإبداعي المتمثل بما يكتبونه من شعر ليس إلا ردود أفعال لمؤثرات نفسية ووجدانية، وبالتالي فإن ردود الأفعال هذه ستختلف حدة واتجاها بتنوع هذه المؤثرات وتباينها.

طبعا لست أريد أن أدلل على أن الشعر مستقل عن الوعي ومناقض للعقل، إلا أن ما أريد أن أبينه أن خصوصية وتفرد نفسية الشعراء تدعونا لأن نقف طويلا قبل أن نجعل من بيت واحد أساسا في استقراء واستنتاج الأحكام.

ولعلني استشهد بقصة معروفة صاحبها الشاعر الكبير بدوي الجبل، فللبدوي هذا بيت في إحدى قصائده يقول فيه:

أنا أبكي لكل قيد فأبكي

لقريضي تغله الأوزان

فظن البعض أن الشاعر في هذا البيت يتنكر للأوزان الشعرية وهو المعروف بتمسكه بتراث الشعر العربي بحورا وقافية. وعندما سئل عن ذلك أوضح أن مثل هذا القصد لم يكن في خاطره أصلا، وإنما هو الشاعر يذهب في إيضاح وتبيان غرضه كل مذهب.

سجن القوافي والعروض

ونقطة أخرى يقتضي أن تؤخذ بالاعتبار وهي لا تتعلق بشاعر بذاته، بل بالشعر كله وتحديدا الموزون منه، فرغم إعجابنا وتمسكنا بالأوزان العروضية ووحدة القافية، إلا أن ذلك يجب ألا يمنعنا من الإقرار أن الالتزام بهما من قبل الشاعر يفرض عليه كلمة معينة أو عبارة محددة بهدف عدم الإخلال بالتزامه.

مرة ثانية هذه ليست دعوة لنبذ أوزان الشعر وتنحية قوافيه جانبا، لكنها ناحية تجدر مراعاتها عند إعمال أدوات التحليل النقدي في بيت من الشعر أو في قصيدة من ديوان شاعر. وعودة لتحليل الكاتب لبيت المتنبي الشهير، فالكاتب يرى فيه ظاهرة متميزة لأنه يشكل نصا مكتملا من حيث شروط النص وتراتب عناصره والاكتمال الدلالي التام. وأعتقد أن هذه الظاهرة لا ينفرد بها المتنبي وحده كشاعر، ولا هي من الخصائص النادرة في شعرنا العربي، بل أكاد أقول إن الشعر العربي على امتداد مساحته الزمنية من الجاهلية إلى اليوم حوى الشاهد تلو الشاهد على هذه الظاهرة، حتى أن دعاة المذاهب الشعرية الحديثة يعتبرونها - أي هذه الظاهرة - من المآخذ على الشعر العربي التقليدي.

الليل والبيداء

وإذا تابعنا كاتب المقال في تحليله لبيت المتنبي متوقفا عند المفردات، فسنلاحظ أن كلمة الليل جعلته يعتقد أن الشاعر يرمز من خلال هذا اللفظ المحدد إلى المرأة... ! ثم تتغير وجهة نظر الناقد عندما يبدو له أن ليل الشاعر الطويل لم يكن ليل الوجد والسهر الذي تكون المرأة الحاضر الغائب فيه، (لأن طبيعته البدوية لا تسمح للمرأة أن تدخل معه كطرف محاور) إنما ليله هو ليل استحضار الكلمات واستدرار معين القوافي، وقبل أن يتيح لنا الكاتب برهة لتأمل هذا الطرح الجديد فإذا به ينقلنا مرة ثانية ليدلنا على أن ليل الشاعر هو البيداء برحابتها وترامي أطرافها وسكونها. فكلمة واحدة أوحت إلى كاتبنا بثلاث دلالات، رأى أن الشاعر ربما كان يدل عليها. ومن حقنا أن نتساءل أكانت واحدة من هذه المرامي في ذهن الشاعر عندما كتب ما كتب.

نقطتان

بقيت نقطتان:
الأولى منهما هي تركيز وتلخيص لما ورد. فعندي أن البيت الواحد أو القصيدة المفردة ربما تصلح في معيار النقد لتبيان الجوانب الجمالية والقدرات الشعرية للشاعر، لكنها - برأيي - لا يمكن اعتبارها أداة لاستكشاف ما انطوت عليه ذاتية الشاعر من قيم سلوكية أو مؤثرات اجتماعية. والثانية: إن ما دعاني إلى كتابة ما كتبت هو ما عبر عنه الكاتب في آخر مقاله بترحيبه بكل حوار وتشديده على حق القارئ في رفض أو قبول ما قرأ، وهو المدخل الصحيح والسليم لخلق مناخ تكون فيه الكلمة المبرأة من كل قيد أداة للتغيير.

 

نعمان صارب