ألمانيا الموحدة الحلم والكابوس! سليمان مظهر تصوير: سليمان حيدر

 لم تكن أول مرة أزور فيها ألمانيا، فقد أتيح لي أن أزورها - شرقا وغربا - وهي تلعق جراحها وتعيد بناء نفسها بعد أن دمرتها الحرب وقضت على مدنها وقراها وناسها، كما طفت مرة أخرى بمختلف أرجائها حين كانت المعاناة وقسوة الحياة من نصيب الشرق، وكان الرخاء والرفاه وقفا على الغرب . ثم كانت الزيارة الأخيرة بعد أن تحققت أحلام الوحدة، ولم يعد هناك شرق ولا غرب، ولكن ألمانيا موحدة، برغم ما يتهامس به الناس في الشرق والغرب من أن الوحدة كانت ورطة وبريقا زائفا، وأن الحلم الناعم تحول إلى كابوس.

في الشرق الذي وضع مواطنوه آمالا كبيرة في الوحدة، وصدقوا أنها ستجعلهم يعيشون حياة أفضل، وأن مستوى المعيشة سيرتفع باستمرار في ظل الرخاء والازدهار، فوجئوا مع مضي عامين على الوحدة بأن حياتهم أصبحت أشد بؤسا ومعاناة وفقرا في ظل ارتفاع رهيب في نسبة البطالة، وأزمة بشعة في الإسكان، وخراب مدمر في المصانع، وانهيار مثير في الأسواق، وغلاء فاحش في الأسعار.

أما في الغرب الذي كان يحلم بمزيد من الثراء والنعمة في ظل الوحدة التي قيل للناس إنها لن تعود إلا بالخير على مستوى حياتهم وصناعاتهم وأموالهم، فقد وجدوا أن كل ذلك لم يكن سوى أوهام، بعد أن تراكمت الديون بطريقة تكاد تصل إلى حد الانفجار، وفوجئوا بأن الوحدة الاقتصادية تزداد كلفة وأعباء يوما بعد يوم، وتتطلب ضرائب وأموالا باهظة تقع كلها على كاهلهم، وأن عليهم التنازل عن جزء كبير من رخائهم الذي عاشوه من قبل.

أحسسنا بالمفارقة واضحة مثيرة ونحن نتحرك ونعيش مع الناس بين شطري ألمانيا في الغرب والشرق، خاصة في برلين أثناء الاحتفال بمرور عامين على الوحدة الألمانية، كان مناخ اليأس والإحباط يسيطر على الوجوه في الشطر الشرقي في ظل بطالة تبلغ نسبتها 40%، وهبوط رهيب في معدل النمو، وارتفاع زائد في معدل الجرائم والمخدرات. وكان هناك حقد مكتوم يبدو واضحا في أعماق الشرقيين ضد أهل الشطر الغربي الذين يرونها ناعمين بالغنى والنعمة والرفاه، وهم لا يدرون أن هؤلاء أيضا تملؤهم كراهية ضد من سلبوهم رخاءهم وحملوهم أعباء متزايدة للارتفاع بمستوى الشطر الشرقي. ولا شك أن كل ذلك كان وراء الاستقبال الفاتر في بعض المدن، والاستقبال الذي اتسم في البعض الآخر بالحدة والعنف والاعتداء بالضرب وبالبيض في مواجهة كبار رجال الدولة خاصة المستشار هلموت كول خلال إلقاء الكلمات والخطب بمناسبة عيد الوحدة.

ولم يكن غريبا أن يعترف كول بنفسه بأن تطلعاته كانت أكبر مما تحقق بالفعل، وأن الإسراع بالوحدة دون التمهيد اللازم أدى إلى كثير من الأخطاء، وإن كان يرى أن الشعب الألماني بما عرف عنه من قوة قادر على التحمل للسير بالوحدة على الطريق الصحيح. وأبرز ما اعترف به المستشار الألماني أنه كان خطأ كبير الاستجابة لتوقعات الناس وتطلعاتهم بدل التصدي لها، ولكنه يدرك أيضا أن على الألمان الغربيين أن يضحوا من أجل إخوانهم في القطاع الشرقي الذين توجه إليهم الحكومة الفيدرالية حوالي 30% من إنفاقها المباشر.

بل إن ريتشارد فايسكر الرئيس الألماني نفسه يقر بأنه لا مفر من أن يتحمل القطاع الغربي المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد، مشيرا إلى أن هناك "هما أهم من هم" فأكبر ضحايا الوحدة هم جمهورا ضرائب والمعاشات وسكان البيوت مرتفعة الإيجار، وهم من أبناء القطاع الشرقي.

الأخ الفقير والأخ الغني

مع ذلك فمن خلال اللقاءات والأحاديث مع عدد من أبناء القطاع الغربي نسمع الكثير، إنهم مقتنعون أن على الأخ الغني أن يتنازل من أجل الأخ الفقير، وأنهم بالصبر والتطلع إلى المستقبل لا يمانعون في مزيد من تحمل الأعباء للوصول معا إلى بر الأمان، ولكنهم يرون أن هناك مبالغة من جانب الحكومة في فرض أعباء متزايدة مع كل مطلع شمس على أهل القطاع الغربي. ويتمثلون في ذلك بفرض نسبة 5% على أرباح الشركات لإنعاش اقتصاديات القطاع الشرقي، وتطبيق هذه النسبة على الشركات التي يزيد عدد موظفيها على 20 موظفا في غرب ألمانيا، وهي الضريبة نفسها التي يجري تطبيقها على كل المواطنين الذين تزيد دخولهم على خمسة آلاف مارك شهريا، إذا لم يكونوا قد اشتروا سندات التضامن الشرقية التي أصدرتها الحكومة الاتحادية.

في لقاء مع " كارل أوتوهل " أحد كبار رجال المال والبنوك في فرانكفورت قال لنا: لقد بلغت المبالغ المحولة إلى الولايات الشرقية حوالي 150 مليار مارك خلال عام واحد، والمبالغ التي تنفق سنويا من الميزانية الفيدرالية تصل إلى 180 مليار مارك أي 120 مليار دولار، هذا بخلاف الاستثمارات الخاصة في الميادين الصناعية والزراعية والتجارية. وكان طبيعيا أن يشعر الجميع بتكاليف الوحدة، فالمواطن في الغرب يعاني من زيادة نسبة الضرائب وانخفاض صافي لا يحصل عليه من دخل، بالإضافة إلى زيادة تكاليف الطاقة وارتفاع معدلات الفائدة.

وفي ظل هذا الوضع لم يبق أمام الدولة مجال آخر سوى الإنفاق بنفسها وعلى حساب الضمانات الاجتماعية، فالقسم الأعظم من المليارات التي تنفق في الشرق يذهب لدفع مخصصات البطالة للعاطلين عن العمل، وللمساعدة الاجتماعية، وللدعم الذي تقدمه الدولة لأجور الشقق.وإضافة إلى ذلك فإن على الدولة أن تعبد الشوارع وتقيم شبكات الهاتف المنهارة وتبني البيوت والمساكن، وتعيد بناء البنية الأساسية المخربة.

ذلك ما سمعناه في الجانب الغربي، أما في الجانب الشرقي فنقرأ في تقرير صحفي أن معاناة المواطن وأكثر صعوبة، فالحياة التي ألفها لأكثر من أربعة عقود تتغير بسرعة، بل إن هذا التغيير يمثل انقلابا حياتيا كاملا، وفي ظل هذا التغيير يفقد الملايين أعمالهم حتى وصل رقم المتعطلين إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين من عدد سكان الشرقية البالغ حوالي 17 مليون مواطن، والذين يعملون يحصلون على ما يتراوح بين 60 و 70% من دخل أشقائهم في الغرب، أي أنهم يحصلون على دخل أقل لا يتناسب وزيادة أسعار الطاقة، والتعامل مع كل السلع والخدمات بسعر السوق الجديدة.

العودة إلى الطريق

الأدهى من ذلك، كما قالت لنا كريستينا ذات العشرين ربيعا: " ليس هو تضاعف إيجار المساكن خمس مرات، بل هو إخراج الناس من بيوتهم التي كانوا يسكنونها في ظل النظام الاشتراكي بعد أن عاد أصحابها من غرب ألمانيا وبرلين بالذات، وبدأوا يضعون أيديهم على ممتلكاتهم، فهؤلاء لديهم مستندات الملكية الثابتة، بينما الشرقيون لا يملكون ما يثبتون به أي حق لهم في مساكنهم. والنتيجة دائما هي إلقاؤهم وأبنائهم ومنقولاتهم في الطريق".

كريستينا تؤكد أن تلك المشكلة تؤرق الجميع في شرق ألمانيا، في برلين ودرسدن وليبزج وغيرها، فالممتلكات التي كانت مهجورة من أصحابها الذين فروا إلى الغرب هربا من الشيوعية من الأحق بها الآن؟ هل يجب أن تعود هذه الممتلكات إلى أصحابها العائدين بعد حوالي نصف قرن، أم يجب عليهم أن يتركوها في أيدي الوكالات والعائلات التي امتلكتها أو احتلتها طوال هذه السنين.

في الوقت نفسه فإن كثير من الألمان الغربيين يعودون إلى البيوت التي كانوا يعرفونها أو يملكها آباؤهم. وفور وصولهم عادة ما يكتشفون أن المكان ليس فسيحا مريحا بالشكل الذي كانوا يتصورون. ومع ذلك فهم ينازعون سكانها الملكية ويطردونهم ليغلقوا هذه البيوت ويعودوا إلى حيث اعتادوا حياة الرخاء بعد أن يكونوا قد ألقوا المساكين في الطريق.

الدعاوي لاسترداد الملكيات المهجورة في الشرق لم تأت فقط من ألمانيا لكن من كل مكان في الدنيا. أحد الأمثلة ألبرت برنز فون ساسن من أثرياء ساكسوني، جاء يحاول استرجاع 28 ضيعة في منطقة درسدن من ضمنها قلعة تبلغ قيمتها أربعة ملايين مارك ألماني. وأمريكي آخر كتب للمسئولين يقول لهم إنه صاحب 69 عقار، في ليبزج.

قال جنتر روليمان الموظف المسئول عن تسليم الدعاوي الخاصة بالملكية في برلين الشرقية: "نحتاج إلى براميل غسيل للاحتفاظ بالدعاوي التي نتلقاها، كل طلب سيفحص على حدة، ولو وجد أي دليل على أن صاحبها كان يملك المكان من قبل، فسوف نضطر لتسليمه حقه، وإن كان من المحتمل أننا سنضطر إلى تقديم بيت أو أرض بديلة كتعويض ".

من الأعماق يتكلمون

ليست كريستينا وحدها التي تكلمت وسمعنا مأساتها، فكثيرون غيرها يحكون أشياء مثيرة مشحونة بالآلام.

" بيتر هاك " جندي سابق من جنود ألمانيا الشرقية، إنه الآن بلا عمل باستثناء أعمال خاطفة يلتقي بها مصادفة، إنه لم يتجاوز بعد سن الثلاثين، ولكنه يبدو كمن يحمل أثقال أجيال من القلق.

قال: يجب أن تعرف أنه لم تكن هناك بطالة في ألمانيا الشرقية، أما الآن بعد الوحدة فهناك كثيرون بلا عمل، وحتى لو فرضنا أنك تحظى بعمل الآن، فلن تكون على ثقة بحال من أنك ستجد هذا العمل في صباح الغد، لقد قدم لنا الورد يوم أن حطمنا السور، ولكن لم يبق لنا الآن إلا الأشواك. ومن بين القوى العاملة" التي يتراوح عددها بين ثمانية أو تسعة ملايين، هناك ما يقرب من خمسين في المائة عاطلون. الرقم مفزع بلا شك عندما يقارن بحقيقة أنه على مدى أربعة عقود، وحتى العقد الأخير بالذات، كانت هناك وظائف للجميع في ألمانيا الشرقية.

ويكمل زميله في مرارة: كان للألمان الشرقيين معسكرات ترفيهية وأجور لا بأس بها، وكانت هناك عناية طبية وعيادات أسنان مجانية، إلى جانب مباهج أخرى كانت تساعد على غض الطرف عن الحياة الخانقة داخل المجتمع المغلق، ولكن كان الكل يعمل، والوظائف متاحة، ولا نعني بذلك أن العمل كان عادة سهلا، وجودته عالية وكمه وفير، ولكنه كان على الأقل يوفر لنا الراتب الذي يكفينا ويقيم أود أسرنا. وأقولها بصراحة لقد كان الأمر يبدو كأن الدولة تتظاهر بأنها تدفع، والعمال يتظاهرون بأنهم يعملون، ولكن الجميع يخرجون في النهاية متساوين. ومع ذلك فإن ألمانيا الشرقية كانت قد أصبحت عملاقا صناعيا، ورغم كل المشاكل فقد كانت هناك دائما تلك الصخرة، صخرة الأمان، لم يكن الناس يحصلون على الكثير، ولكن كان هناك دائما شيء لهم، أما الآن.. فلا شيء.

بالنسبة للنساء بصفة خاصة، كانت الوحدة بالنسبة لهن صفقة خاسرة، كانت لهن أجازة حمل لمدة سنة بأجر كامل، ومراكز مجانية للرعاية اليومية، وعيادات للإجهاض مجانا عند الطلب. كن يعقدن اجتماعات احتجاج ونقاش في أجازات نهاية الأسبوع في كثير من المدن، الآن توقف كل ذلك، ولم يعد هناك سوى البيت والمطبخ والأطفال.

الطعام.. أصبح عملة صعبة

النساء في شرق ألمانيا معتادات على العمل. هكذا قال صحفي من مدينة ميونيخ: " سواء كان شيئا جيدا أو سيئا إلقاء الطفل في مركز من مراكز الرعاية اليومية في السادسة صباحا حتى تتمكن الأم من الذهاب إلى العمل أو المصنع، فليست هذه هي القضية. القضية هي أنهن يسعدن بالعمل وأن هذا حقهن كإنجاز يتساوين فيه مع الرجال. الآن يملؤهن الغضب والسخط، بل والخوف أيضا، فالوحدة أصابت حياتهن وحياة رجالهن بالشلل، لقد هبت الريح على الصناعة واقتلعت جذورها، فمع إلغاء ألمانيا الشرقية ألغت الدولة المسيطرة عملتها وأصبع التعامل بالعملة الغربية الصعبة، وتوقف الإنتاج في آخر يوم من عام 1990"

بيانكا زيمول من هالي قالت: إنه والحق زمن سيئ لكسب العيش، لقد كنت أعمل جرسونة، وكان هذا شيئا محترما في ألمانيا الشرقية، وكان علي أن أخدم سنتين تحت التمرين، ولم يكن الأمر يبدو لي كأني خادمة، فالناس كانوا يعدونني بزوج من الجينز لو استطعت أن أحصل لهم على مائدة في المطعم. كنت أحصل على مكاسب جيدة. لو أن ساعتي كسرت لكان في مقدوري إصلاحها في الحال عند مصلح الساعات الذي يعمل على مائدة في ركن الطريق- الآن لا أستطيع أن أصلحها، فالإصلاح أصبح غالي الثمن، ولم يعد لدي من المال ما يكفي. وحتى المطاعم أغلقت أبوابها لأنها لم تعد تجد الزبائن الذين يدفعون ثمن الوجبة بعد أن ارتفع سعرها، الآن أشم من بعيد رائحة البخار الصاعد من طاسات شوربة العدس، ولكني أعجز عن الدخول ودفع قيمة الوجبة، فالأسعار القديمة المدونة بقوائم الطعام شطبت بالحبر الأحمر وحلت محلها أسعار أعلى، لم تعد في طاقة الناس العاديين.

الضياع وفتيات المورفين

الشوارع باستمرار تغص بالمحتاجين ومن يمدون أيديهم بالسؤال. قد لا يكونون كلهم من الألمان الشرقيين ولكن أغلبهم من الغجر الرومانيين الذين نزحوا إلى المدن الألمانية. البعض يستجدون حاملين أطفالا مرضى كوسيلة إغراء لاستجداء الرحمة والشفقة. هذا التصرف يكرهه الألمان ولكنهم مع هذا يتلطفون حين يذكرون أن حكم هتلر قد أرسل ما يقدر بنصف مليون غجري إلى حتفهم. الأغلبية في الحقيقة هم من الفيتناميين الذين كانوا قد جاءوا إلى شرق ألمانيا عندما كانت مصانعها في حاجة إليهم، ولكنهم بعد الوحدة وإغلاق المصانع أصبحوا في محنة كالكابوس. تحول بعضهم إلى البيع في الشوارع يقفون طوال اليوم خلف مناضد ذات مساند خشبية محملة بالكاسيتات والميكروفونات والساعات اليدوية والسجائر. هذا إذا لم يتحولوا إلى الجريمة.

شوارع برلين، مثل فرانكفورت وهامبورج وكولون وشتوتجارت لها مشاكلها الكبيرة مع العقاقير والمورفين والأفيون والجريمة، فهناك عاهرات في محطات الأنفاق يلاحقن كل غريب، وهناك فتيات وفتيان ملقون بجوار الأرصفة بعيون زائغة يعجزون عن الوقوف فيتساندون على المارة والجدران، بينما آخرون في الحدائق تحت الأشجار ينصبون حلقات يتلقون خلالها إبر السموم في عروقهم، فإذا جاء الليل فكل الحدائق ومقاعدها تحتويهم حتى الصباح بمن فيهم فتيات في ربيع العمر مهدلات الصدور ضائعات. ونسأل أحد رجال الأمن لماذا يتركونهم على هذا الحال، ونسمع الإجابة:- ماذا نفعل مع قوم يريدون أن يدمروا أنفسهم؟ فليفعلوا ما يريدون.

قصة مدينتين

والمدينتان هما برلين الغربية وبرلين الشرقية، ولكن قبل أن يسقط السور وينهار الستار الحديدي، وتفتح المنافذ بين القطاعين الشرقي والغربي من المدينة التي كانت ذات يوم واحدة من أعظم عواصم الدنيا وأشدها خطرا. وقصة التقسيم إلى مدينتين تنطبق أيضا بشكل أوسع على ألمانيا كلها، إلا أن برلين تعتبر النموذج الذي يمكن من خلاله معرفة ماذا كان يجري في الألمانيتين، وكيف تجري الحياة فيها اليوم.

لا شك أن تقسيم برلين كان أكثر بشاعة من كل تصور في نظر كل من شهده بعينيه ولما بنفسه آثاره. استطعت أن أتصور هذه الحقيقة في برلين الشرقية ذات يوم وأنا أطل في عيون أهلها وهم يرسلون البصر في أسى إلى ما وراء السور الذي يفصلهم بالرغم مخهم عن نصفهم الآخر. فهناك في الجانب المقابل من هذا الطريق على الرصيف الآخر بالضبط، يوجد قريب أو شقيق أو أم أو أب، فرض التقسيم أن يبتعد كل منهما عن الآخر ليحمل ضده السلاح، أو يلقي في وجهه قنبلة أو يطلق عليه رصاصة.

وأقف عند باب بيت كانت تشقه الحدود إلى نصفين، وأشار مرافقي إلى المبنى وهو يقول: هنا كان يقف جنود كانوا ذات يوم إخوة يحملون نفس الجنسية ويشربون نفس البيرة (فالبيرة هي الماء يا كل ألمانيا) فإذا بهم يتواجهون والمدفع في يد والزناد تحت إصبع اليد الأخرى، وكل منهم يعرف أنه قد يصبح الضحية التالية لو غفلت عينه لحظة أو اهتزت أهداب جفونه.

مآسي الشعب

رحت أنصت بأذن مرهفة إلى محدثي من أبناء قطاع شرق برلين وهو يروي عن هذه المأساة وقد وقفنا عند بقايا السور الفاصل وحطامه:

في عام 1948 وبعد مرور أربع سنوات على تحرير برلين من النازية، وتوقيع معاهدة بوتسدام بين الحلفاء، سمحت القوات السوفييتية التي كانت تحتل الجزء الشرقي من ألمانيا لقوات أمريكا وبريطانيا وفرسا بدخول أجزاء من برلين سميت فيما بعد برلين الغربية، واستطاعت قدرات الغرب أن تحولها إلى أرخص قنبلة ذرية لتهديد الشرق، وبدأت هذه القنبلة الذرية تستغل وجودها داخل جسم ألمانيا الشرقية لتنفث فيه إشعاعاتها القاتلة من خلال ما يزيد على ثمانين منظمة من منظمات العملاء والجواسيس يجيد أفرادها عمليات التخريب والتهديد والشغب والتحريض والاستقرار الذي وصل إلى حد استخدام العنف والقتل. في ذلك الوقت كانت الحدود مفتوحة بين الشطرين اللذين قطع أوصالهما سيف التقسيم الملعون، وما كان أكثر المآسي الإنسانية التي عاشها آهل برلين. شقيقان يعيش كل منهما في جانب. ويحدث خلال أحداث الشغب عام 1961 أن يتبادلا إطلاق النار عصر الحدود، كل منهما مع رجال فرقته. ويفاجأ أحدهما في الصباح بصورة شقيقه صريعا في الجانب الآخر برصاصة يمكن أن تكون رصاصته. ضابط صف اسمه " إيمون شولتس" من وحدات حرس الحدود في برلين الشرقية يغتال غدرا وتنشر صورة قاتله في صحف برلين الغربية تحت عنوان " أنا القاتل" مع مقال يحكي بكل التفاصيل كيف اخترق البطل نفقا تحت شارع برناو ليثبت بطولته داخل أراضي الشرق وجود. جناح كامل في مبنى جامعة هومبولت تشتعل فيه النار فجأة فيحترق كله ويصاب خلال الحريق أكثر من عشرة من الطلاب، وينكشف الأمر عن عدد من الألمان الغربيين تسللوا ليقوموا بعمليتهم للتسلية والانتقام. ثم "سلخانة برلين" تفاجأ بعملية تخريب وحريق يشتعل ليأكل السلخانة بكل ما فيها من لحوم، ويتضح بعد ذلك أن العملية تمت كلها لإحداث أزمة في إمداد أهالي الشرق باللحوم.

الحصار

كانت هناك إذن محاولات مستمرة للتخريب والتهريب والحض على العصيان وإغراء الأيدي العاملة المدربة على مغادرة برلين الشرقية إلى الغربية. وترتب على ذلك خسائر قدرت بعشرات الملايين من الماركات باتت تهدد التجربة الاقتصادية للقطاع الشرقي كله بالفشل. لهذا عمدت ألمانيا الديمقراطية إلى فرض سيطرتها على الحدود وباشرت بإقامة السور، أو ما كان يسمى جدار برلين، الذي يحيط ببرلين الغربية ليحكم السيطرة على حركة الدخول منها وإليها، وكان ذلك في 13 أغسطس 1961.

فماذا كان يجري في القطاع الغربي من برلين؟

الحقيقة، لأن برلين شرقها وغربها كانت تقع في ذلك الوقت في داخل ألمانيا الشرقية، فالذي لا شك فيه أن ذلك يعني أن القطاع الغربي كان محاطا من كل الجوانب بأرض ترتفع عليها الأعلام الحمراء. أي أنها بقعة معزولة عن بقايا ألمانيا الغربية، كما أن طرق مواصلاتها كانت كلها مهددة. وقد جرى حصارها أكثر من مرة لعزلها ومنع الإمدادات عنها حتى تستسلم وينتهي وجود هذه البقعة التي تنتمي إلى العالم الحر في داخل الأراضي الشيوعية. وكان أخطر حصار هو ذلك الذي فرضه الشيوعيون عام 1948 حيث جرى قطع الطرق البرية، وكادت برلين الغربية تموت جوعا وخوفا. وخاطر الغرب وخاصة الولايات المتحدة بإقامة جسر جوي لنقل المؤن إلى المدينة المحاصرة. وقد تمكن هذا الجسر رغم كل المخاطر من تحقيق النجاح، وفشل الحصار الأول وبعدها فشل كل حصار.

حمى المنافسة

كان لا بد للغرب بعد ذلك أن يعمل على تحويل برلين الغربية إلى واجهة جميلة للغرب في مواجهة الشرق، وجعلها نافذة عرض لأفضل ما لديه، وشملت خطة تحويلها إلى واجهة جميلة تشجيع السكان على البقاء بها أو الهجرة للإقامة فيها. فوجدت أعداد كبيرة من الألمان قادرة على مواجهة الخوف، ولأن استقرار الأوضاع هو الأرضية الأساسية لأي نجاح، فقد جرى منح امتيازات للمستثمرين فبدأت الشركات تقيم المصانع والمعامل والمتاجر الكبرى.

وشهدت برلين العربية انخفاضا في أسعار البيع قياسا بالأسعار في باقي أنحاء ألمانيا الغربية. ولم يكن الوضع في برلين الشرقية سيئا، ولكن قياسا بالبريق والأضواء والثراء والرفاهية في برلين الغربية كان الوضع يبدو مقبضا موحشا.

ولما كانت حرية الانتقال مكفولة قبل 13 أغسطس 1961 فقد كانت المقارنة مستمرة ويومية، وهي مقارنة دفعت الآلاف من برلين الشرقية إلى الهرب.

وتحولت برلين الغربية إلى سبب رئيسي لزيادة التوتر في الشرقية بل وفي كل ألمانيا الديمقراطية. ولم تكن ألمانيا الشرقية ولا كل العالم الشيوعي بقادر على تحقيق درجة نمو مماثلة لما يجري في برلين الغربية.

ولمزيد من المواجهة بين المدينتين تعمد الناشر الألماني الغربي " اكسل شبرنجر" إقامة دار كبيرة للنشر بجوار السور مباشرة، وارتفع بطوابقها ارتفاعا مثيرا، وأصر على أن تظل مضاءة ليلا ونهارا بصفة مستمرة لإثارة الألمان الشرقيين الذين ردوا على ذلك بأن أعدوا علما أحمر مساحته عشرات الأمتار المربعة، وفي مهرجان كبير أقيم العلم فوق سور برلين بالقرب من بوابة براندنبرج.

وظلت برلين الغربية بالرغم من السور تقوم بدورها كواجهة جميلة للغرب ولم تستطع الشرقية أن تنافسها في ذلك.

وأخيرا مع ظهور العليان الشعبي في الكتلة الشرقية عام 1989، والتحول إلى المطالبة بالديمقراطية ومحاولة الخروج من تحت مظلة السيطرة الكاملة للحزب الشيوعي، وظهور أحزاب اليمين. تمكنت الجماهير من خلال ثورة سلمية في ألمانيا الديمقراطية من تحريك عملية توحيد ألمانيا ودفعها قدما نحو التحقيق، فقد فر آلاف المواطنين والمواطنات من الشرق وأرغموا السلطات على السماح لهم بالسفر بعد أن لجأوا إلى سفارتي ألمانيا الاتحادية في براغ ووارسو، كما تظاهر مئات الآلاف في " كثير من المدن ضد سياسة القسر وغياب الحرية وأجبروا السلطات على فتح بوابات السور حيث ارتفع عدد المعابر من 6 معابر إلى 24 معبرا كما أرغموها على إزالة الحدود القائمة بين الألمانيتين. وفي 18 مارس 1995 شهدت ألمانيا الديمقراطية انتخابات حرة لأول مرة قرر مجلس الشعب المنبثق عنها الانضمام إلى ألمانيا الاتحادية، وفي الثاني من أكتوبر 1990 انتهى وجود جمهورية ألمانيا الديمقراطية وأصبحت ألمانيا دولة موحدة، وأصبح الاعتقاد السائد أن هذه الوحدة تمهد لمستقبل أوربي جديد تحتل مركز القيادة فيه ألمانيا الموحدة بوصفها القوة الأوربية الأكثر تطورا اقتصاديا وسياسيا وربما عسكريا، بعد أن زالت الأسلاك الشائكة وأزيل السور كله وتحول إلى حطام، تعرض أحجاره للبيع غير بعيد من بوابة المرور والانطلاق. بوابة براندنرج.

بوابة براندنبرج

تعال بنا الآن نقف عند بوابة براندنبرج.

لم يكن أهل برلين في كل من الشرق والغرب يستطيعون الوصول إلا إلى جانب واحد من البوابة حين كانت هي الحد الرسمي الفاصل بين برلين الشرقية وبرلين الغربية. الآن نقف عندها ونواجهها من الناحيتين بعد أن توحدت المدينة من جديد. هذه البوابة أقيمت كقوس نصر عام 1791. وتحت هذه البوابة مرت قوات نابليون والقوات الألمانية المنتصرة عام 1891.

وكما شهدت البوابة مرور المنتصرين فقد كانت شاهدا أيضا على هزيمة القوات الألمانية في الحربين العالميتين الأولى والثانية. وعلى الجاكت الشرقي منها انتحر هتلر في آخر معركة، وكان قريبا جدا من البوابة.

ارتفاع بوابة براندنبرج ستة وستون قدما (20 مترا) ومتوجة بتمثال برونزي لربة السلام، وهي صورة طبق الأصل للبوابة البروبيلانية للاكروبول في أثينا، وهي أولى أثر عظيم للكلاسيكية الألمانية.

على الجانب الغربي من البوابة يقوم مبنى الرايخستاج، وهو يطل على ضفة نهر سبري في مواجهة ميدان الجمهورية متاخما للسور بالتصاق قبل إسقاطه. وإذا كان قد شيد بين عامي 1884 و 1894 على طراز النهضة الإيطالية، فإن هذا المبنى الأثري أدى طوال الفترة السابقة للحرب العالمية الثانية دور برلمان ألمانيا القومي بعد أن كان قد أحترق في الثامن والعشرين من فبراير 1933 ثم أعيد بناؤه ليشهد الانحدار في الطريق نحو الدكتاتورية النازية وليعاني من دمار شديد خلال الحرب. وفي حديقة الرايختساج أقيمت مقبرة للضحايا الذين فقدوا حياتهم في أثناء محاولات هربهم. يطل الرايخستاج ناحية الشرق على شارع " انتردن لندن" وتعني " تحت ظلال الزيزفون" الذي يضم أشهر معالم شرق برلين. أما من ناحية الغرب فيطل على شارع 17 يونيو الذي سمي كذلك تخليدا لضحايا ثورة 1953، وهي امتداد لثورة 1948 وما تلاها حين قدم الشعب الألماني في ألمانيا الشرقية مئات الآلاف من الضحايا ذهبوا ضحية القمع الوحشي للثورة الذي خططته ونفذته قوات الاحتلال الروسي وقوات الأمن الألمانية.

القلب النابض

ونتجه صوت حرب " كورفوشتندام " (ويسمى، كودام اختصارا) في هذا القلب النابض للمدينة الغربية نجد أنفسنا غارقين بين فنادق فخمة ودور عرض باذخة ونواد ليلية متلألئة، ومسارح ومطاعم ومقاهي رصيف زاخرة بالرواد ليل نهار. إن كودام وشوارعها الجانبية تعتبر أيضا من أكبر أحياء برلين للبيع والشراء، وهي غاصة بالمخازن والمحلات التجارية والبوتيكات والأسواق المنزلية وقاعات الفنون.

كانت كودام ذات يوم مجرد ممر رملي للركوب يمتد من القصر عند " نهر سبري " إلى مكمن الصيد في غابة جرونوالد. وبعد بلوغ برلين منزلة المدينة الإمبراطورية، شيد شارع متسع غاية في الأبهة على طراز الشانزليزيه في باريس، المباني التي تحيط به كلها مهيبة مقامة على الطراز الأيوكي الجميل، والمقهى الرومانتيكي الفخم الذي يتوسطه أصبح مكان لقاء طليعة فناني المسرح والسينما والرسم والأدب، يحمل له الجميع ذكريات عديدة من الحنين.

منطقة الكودام التي تزيد على ميلين أو أربعة كيلو مترات طولا، تبدأ عند الكنيسة التذكارية التي تنسب إلى القيصر ولهلم، والتي احتفظ بأطلالها إحياء لذكرى الكرامة والدمار. برج الجرس القديم يسمونه " السن الخاوي " بسبب شكله المسنن، يتاخمه مبنى كنيسة حديثة ثمانية الجوانب والزوايا مع برج حديث منفصل، وعلى بعد حفنة خطوات يقوم مركز أوربا وهو مجمع هائل للتجارة والتسويق. ومن فوق قمة هذا المبنى الذي يرتفع إلى حوالي 86 من،إستمتعنا بمشاهدة بانوراما رائعة للمدينة كلها. ومن ميدان أوربا يجري أحد الشرايين الرئيسية للمدينة وهو شارع " صف المحلات " الممتد من الجنوب الشرقي إلى كاديوي في ميدان وتنبرج. وهو نموذج مختصر جامع لمختلف المحلات التجارية في القطاع الغربي ويعتبر أكبر منطقة تجارية في ألمانيا كلها.

برج إيفل برلين

من عند محطة حديقة حيوان بانهوف، حيث تصل القطارات القادمة من غرب ألمانيا، واصلنا رحلتنا إلى بعض معالم برلين الشهيرة باتباع شارع هاردنبرج عبر حي الجامعة. من هنا نصل إلى واحد من معالم برلين البارزة وهو برج الراديو الذي يبلغ ارتفاعه 138 مترا. هذا البرج الحديدي صورة مماثلة مصغرة لبرج إيفل الباريسي. وفي نفس المنطقة من الجهة المقابلة لطريق السيارات بالمدينة يوجد مركز الكونجرس الدولي الذي تم افتتاحه عام 1979 ويشبه مدينة فضاء عملاقة إذا نظرت إليه من بعد. ومع استمرار جولتنا نلتقي بمجموعة من المباني الحجرية الرملية الخفيفة تمثل مدينة خاصة بالبلدية وتقع في ميدان جون كنيدي. ولأن مدينة البلدية تعتبر موطنا لحكومة المدينة والمركز السياسي لألمانيا الغربية، فإنها تقف في مكان بارز وسط كل البلديات الأخرى حيث يرتفع العلم الرسمي حاملا شعار الدب فوق قمة قلعتها المربعة.

برلين الخضراء

من فوق قمة برج برلين الشهير حيث تدور قاعدة المطعم الدوار كانت أنظارنا تشهد مساحات خضراء شاسعة، فثلث المدينة يتكون من غابات وحقول وحدائق وبحيرات وأنهار منها نهر سبري ونهر هافل الذي يبسط نفسه على سلسلة من البحيرات الخلابة، خصوصا بحيرة تيجلر وبحيرة وانس التي تعرف بأنها حوض برلين للاستحمام. وعند ملتقى نهري السبري والهافل تقوم قلعة سباندو المشيدة في القرن 16 وتعتبر قلعة مائية مهيبة. هناك أيضا مشهد آخر عظيم هو جزيرة "الطاووس" وتقع على الهافل، ويتحدثون عنها بصفتها أبرز مكان رومانتيكي في برلين بسبب الدمار الهائل الذي وقع على القلعة في القرن الثامن عشر برغم جمالها الطبيعي.

الرئة الخضراء لبرلين هي منطقة الغابات الشاسعة المسماة "جرونوالد" ومساحتها حوالي 745 فدانا، وتضم خمس بحيرات صغيرة متناثرة تعلوها مباني التويفسبرج بارتفاع 113 من، وهي أعلى بقعة في ألمانيا الغربية. وقد تم تشييدها على أنقاض المباني المهدمة إبان الحرب العالمية الثانية.

أما أكبر منتزه في الجزء الداخلي من المدينة فعبارة عن 600 فدان وتسمى تيرجارتن، وقد كانت فيما مضى أرضا للصيد. هنا بطول أكثر من ثلاثين كيلو مترا بين الطرق والأشجار يوجد العديد من معالم برلين التاريخية. وفي الوسط تماما يرتفع عمود النصر بارتفاع 220 قدما. وقد شيد ما بين 1865 و 1873 تكريما للحملات البروسية ضد الدنمرك والنمسا وفرنسا، أما المنصة التي تعلوه فيقف على قمتها تمثال النصر البرونزي المذهب بارتفاع ثمانية أمتار، أما القصر الكلاسيكي " بيل في " أو المنظر الجميل المشيد عام 1785 على ضفاف نهر سبري القريب فيستخدم كمقر رسمي برليني للرئيس الألماني. في شرق القصر تقوم قاعة الكونجرس الخلابة (1975) والتي يلقبها البرلينيون بالمحارة الحامل والتي انهار سقفها عام 1981.

إن جاذبية برلين تعتمد على دورها كمركز للحياة الثقافية الألمانية، والشطر الغربي لبرلين به 13 مسرحا من بينها مسرح شيلر ومسرح الشوبون. وفي كل ليلة ترفع الستار في الأوبرا الألمانية التي أعيد بناؤها عام 1961 في شارع بسمارك على يد خبراء الموسيقى. إنها تقف في مصاف دور الأوبرا الرائدة في العالم. هنا أيضا نجد جماعات المسرح من الهواة ونلتقي بالراقصين والموسيقيين الذين يقدمون عروضهم على أسطح المصانع وفي قاعات الرقص القديمة. وقد كانت برلين دائما هي مغناطيس الفنانين ذوي الأفكار الجديدة والمبتكرين الذي يضمون ذوي القدرات الابتكارية الكامنة ليكسبوا المدينة حيويتها.

وفي مسرح الفيلهارموني الواقع في ميدان بوتسدام يستطيع محب الموسيقى أن يستمع بحفلات موسيقية يقدمها واحد من أحسن الأوركسترات في العالم وهو أوركسترا فيلهارمونيك برلين.

إن أعلى وأبرز أحداث برلين الثقافية هي الاحتفالات التي تقدم مقاطع للإنجازات الفنية الدولية في سبتمبر من كل عام. أما في فبراير ومارس فتعتبر برلين ملتقى الأنظار خلال مهرجان السينما الدولي الذي تمنح فيه جوائز " الدب البرليني " شعار المدينة.

نفرتيتي وإخناتون

لعل أروع ما يجذب المصري عندما يزور برلين هو مواجهة نفرتيتي في المتحف المصري في برلين، هنا في ضاحية دالم نلتقي بالملكة الفرعونية صاحبة أجمل وأكمل وجه يعبر عن الفن المصري القديم حيث تمثال رأس زوجة إخناتون التي عشقها الألمان بمن فيهم هتلر ورفضوا بكل إباء إعادته إلى مصر رغم كل الجهود التي بذلت في سبيل ذلك. إن تمثالها يتوسط القاعة الرئيسية في المتحف بألوانه الزاهية يستثير جميع الزائرين الذين يدورون حول الصندوق الزجاجي ليتأملوا تفاصيل التمثال الرائع، ثم يستكملون مشاهدة تماثيل ولوحات إخناتون صاحب ديانة التوحيد، ومعالم الفن والتاريخ المصري القديم التي يضمها المتحف تزيد على 1500 قطعة أثرية.

هناك معالم فنية أخرى تزخر بها برلين مثل قاعة الرسوم الملونة المسماة "جيمالد جاليري" حيث تقدم اللوحات والمصورات الأوربية بين القرنين الثالث عشر والثامن عشر بما فيها أعمال بوتشيللي ورافائيل وفان دوك وهوليين ودورو وكراناتشي وقرمير وروبنز مع أكبر مجموعة في العالم لأعمال رمبرانت.

في مواجهة المتحف المصري نزور قصر شارلوتنبرج آخر قلعة كبيرة في برلين من أيام هوهنزلرن، هذه القلعة أو القصر تحولت الآن إلى متحف مفتوح للزائرين. كان البناء قد بدأ في نهاية القرن السابع عشر ليكون مقرا صيفيا للملكة صوفي شارلوت، وكل الملوك الذين جاءوا بعدها حاولوا أن يجعلوها قصرا يضارع قصر فرساي، لهذا ظل القصر يتسع شيئا فشيئا بإضافة أجنحة عديدة تتميز بفنون الباروك. وعندما ندور بين أنحائه نشهد أروع معالم الفن خاصة في برجه المقام على شكل قبة وبستان برتقال وقاعة عدالة، وليس أجمل من قاعاته التاريخية التي تزخر بمجموعات من الرسوم واللوحات الملونة وأواني الصيني التي تعود إلى التاريخ الإمبراطوري القديم.

ليس هذا هو كل ما يمكن مشاهدته من المعالم الفنية والثقافية في برلين، فهناك متحف الأنتيكات الذي يضم خليطا من الأعماق الفنية الإغريقية الرومانية، وهناك أيضا متحف الآلات الموسيقية. على أن شرق برلين يضم الكثير أيضا من المعالم الثقافية التي نشاهدها فور عبورنا بوابة براندنبرج إلى الشرق إلى شارع أنتردن لندن " تحت ظلال الزيزفون" إنه الطريق التاريخي الذي يجتمع للسائر فيه الاستمتاع بالجمال والأناقة المعاصرين وبالجلال الغابر الذي تنم مبانيه عن كثير من أسراره. على الجانبين نشاهد المباني والعمائر الرائعة من عصر الملوك البروسيين، وأشهرهم الملك فردريك درجروس الذي نلتقي به ممتطيا جواده في أعلى نصب يقوم في الشريط الأوسط للشارع المحفوف بالأشجار. أما أوبرا الدولة وأكاديمية العلوم وجامعة همبولت ومتحف التاريخ الألماني فتمت عمارتها كلها إلى فن الباروك والروكوكو والكلاسيكية. وعند النصب التذكاري لضحايا الحرب وضحايا النازية نتأمل الحراس أثناء نوبة التغيير التي تتم كل ساعة في احتفال قصير وهم يخطون خطوة الأوزة البروسية.

جزيرة المتاحف والفنون

في مركز المدينة عند نهاية أنتردن لندن نجد القصر الجمهوري ومبنى مجلس الشعب الملحق به، وهو بناء حديث يمتاز بالأناقة وروعة التصميم، وهو فضلا عن أنه المقر الرئيسي لرئيس الدولة فهو المكان الذي تقام في صالاته الفسيحة الرحبة حفلات ثقافية وعروض مسرحية وغنائية. وفي مركز المدينة أيضا نزور مبنى المسرح الألماني، وهو بناء يشبه في تصميمه دار أوبرا الدولة وكان قد شيد عام 1883 وتم ترميمه وأعيد افتتاحه للجمهور، كما نقف عند الساعة العالمية التي تبين الوقت في مختلف بلدان العالم.

ومن أشهر المعالم التي نزورها مسرح " البرلينر انسامبل " وهو مسرح بريخت الذي يعد مزارا يقصده رواد الفن الجميل من مختلف بقاع العالم. يقع المسرح في أحد الشوارع المهمة هو فردريك شتراوس الذي كان يعرف بشارع الفن في العشرينيات والثلاثينيات، فعلى خشبته عمل كبار المخرجين العالميين: ماكس رينهارت وارفني بسكاتور وغيرهما، وعزفت فيه موسيقى هانزايسلر وردد ألحانه الممثل والمغني العالمي ايرنست بوش، ومثلت عليه مسرحيات جيرهارت هاويتمان وفرانك فيركند.

في فريدريك شتراوس أيضا يقع بيت سكنه بريخت وقد تحول الآن إلى متحف ومركز لدراسات المسرح، كما يقع فيه مسرح المنوعات الشهير وهو نموذج لما تقتنيه المسارح الحديثة من أجهزة تقنية.

وننتقل من المسارح ودور العرض إلى المتاحف التي يبلغ عددها في القطاع الشرقي وحده 24 متحفا. على الجهة اليمنى من شارع فردريك شتراوس تقع جزيرة المتاحف، وفيها متحف بوده الذي يحمل اسم العالم ويلهلم بوده، وهو المتحف المختص بالآثار التي ترجع إلى بدايات العصر المسيحي البيزنطي، وفيه أجنحة يكاد كشف منها يكون متحفا قائما بذاته. وهناك متحف عصر ما قبل التاريخ. وأكثر ما يلفت النظر متحف " برجامون " وهو متحف الشرق الأدنى الذي بني عام 1903 وفيه آثار عربية وإسلامية عديدة، وتعد بوابة عشتار من أهم مقتنيات هذا المتحف. تقول المسئولة في جناح الشرق الأدنى: نقلت بوابة عشتار البابلية إلى ألمانيا في العشرينيات، وأسود بابل هذه أصلية وقد أحيطت ببناء حديث تشبه ألوانه الألوان الأصلية، ونقرأ كلمات لنبوخذ نصر البابلي تقول " أنا الملك الذي بنى هذه المدينة".

النازية الجديدة

خلال جولاتنا في برلين وفي المدن الألمانية كنا نلتقي باستمرار بتحركات وأعمال العنف التي يقوم بها شباب النازي الجديد. وقد كان آخر ما شاهدناه منها هجوم العناصر النازية المتطرفة على فندقين للأجانب حيث اشتبكوا مع النزلاء وحطموا النوافذ والأبواب. كان عدد المهاجمين حوالي مائة من حليقي الرءوس والمتطرفين اليمينيين قطعوا الطرق المؤدية للمنطقة في ساعتين ولم يتفرقوا إلا بعد تدخل الشرطة المحلية التي تعززها قوات من المدن المجاورة.

قال لنا مرافقنا: لقد أصبحت أنباء العمليات الإرهابية التي يقوم بها النازيون الجدد أمرا معتادا، وأصبح الحديث عن النازيين الجدد حديثا شبه يومي. والحقيقة أن نشاط النازيين الجدد كان لافتا للانتباه منذ أول يوم لتوحيد شطري ألمانيا في مطلع عام 1990، كما أن نشاط النازيين في ألمانيا لم ينقطع تماما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة الزعيم النازي السابق أدولف هتلر، وإنما كان تيار النازية يقوى ويضعف من وقت لآخر.

هذا التيار بدأ يتنامى من جديد عندما بدأ تأسيس الحزب القومي الديمقراطي في هانوفر عام 1964 كحزب نازي جديد، اكتسب شعبية كبيرة وأرتفع عدد أعضائه خلال عامين فقط إلى أكثر من 30 ألف عضو، حيث شارك لا الانتخابات العامة التي جرت عام 1966 وفاز بعدد من المقاعد، وكان في برنامجه المعلن يردد الكثير من أهداف النازية وشعاراتها بأن " ألمانيا فوق الجميع ".

ومع تزايد المشكلات الاقتصادية من جديد وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب نتيجة لنزوح شباب دول العالم الثالث للعمل في ألمانيا، بالإضافة إلى من نزحوا إليها من الدول المحيطة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ومن المهاجرين الفيتناميين والرومانيين، كل هذا أدى إلى أتساع خطورة النازيين الجدد الذين ارتفع عددهم في عام 1991 وحده بنسبة 20% في نطاق 76 منظمة نازية. الشعار الجديد الذي يطلقونه وهم يهاجمون تجمعات اللاجئين الأجانب هو شعار " ألمانيا للألمان " و " هايل هتلر " واتجه بعضهم إلى حلق رءوسهم اقتداء بما كان يحدث في أواخر السبعينيات.

ومثل هذا التيار الغاضب تغذيه مشاعر استعلاء ألمانية لا يمكن للعين تجاهلها ولها أسبابها التاريخية والمعاصرة. وقد ازدادت الكراهية للأجانب حتى أن عمليات العنف التي يقوم بها الشباب حليقو الرءوس تجد تعاطفا من المواطنين الألمان الذين تؤكد لهم الأرقام أن اللاجئين الأجانب الذين لم يكن عددهم يتجاوز عام 1983 حوالي 20 ألفا، قد تزايد عددهم ليرتفع إلى 194 ألفا في عام 1990 ليقفز إلى 256 ألف شخص ثم إلى حوالي ثلاثة ملايين. ولتكون النتيجة هذه الأحداث الرهيبة التي يتعرض لها الأجانب في أكثر من 40 مدينة ألمانية ويسقط من بينهم قتلى وجرحى مع إحراق مساكنهم وملاجئهم ومتعلقاتهم.

لقد أطلت النازية برأسها من جديد في ألمانيا.

مآسي النازية

يبدو أن النازيين الجدد يريدون أن يعودوا بألمانيا إلى عهد هتلر وجوبلز وهيس، وإلى ملايين من الضحايا الذين شهدتهم الحرب العالمية الثانية، ونتذكر أننا قرأنا أرقاما مذهلة على مدخل النصب التذكاري في بوتسدام والذي يضم رفات عدد من ضحايا ثلاث وثلاثين دولة، الإحصائية تحدد عدد الضحايا بحوالي 20 مليون سوفييتي، و 6 ملايين بولندي، و 8 ملايين ألماني، ومليون يوغسلافي، و 770 ألف روماني، و 665 ألف بريطاني، و620 ألف فرنسي، و 575 ألف نمساوي، و 790 ألف مجري، و 367 ألف أمريكي، 255 ألف هولندي، و160 ألف بلجيكي، و 97 ألف فنلندي، و 32 ألف بلغاري، و 9 آلاف نرويجي، و 3 آلاف دنمركي، و 26 ألف ياباني، كل ذلك بخلاف 80 مليونا من جرحى الحرب والمشوهين، وعشرات الألوف من ضحايا القنابل الذرية باليابان بين قتلى وجرحى ومشوهين.

أليست هذه بعض مآسي النازية؟

وهل أسوأ أيضا من ذلك الذي شهدنا أحد أمثلته في "بوشنوالد "- غير بعيد من " فايمار "- حين وقفنا أمام لوحة تذكر عددا آخر من الضحايا يبلغ 55 ألف شخص، ضحايا لنوع آخر غير جنون الحرب، جنون كان يملأ رأس زعيم النازي ويدفعه إلى القتل والإحراق والتدمير.

الضحايا هذه المرة من جنسيات متباينة اعتبرهم الدكتاتور النازي أعداء له ولنظامه وحكمه وفرديته المطلقة، فلقوا مصيرهم في أفران التعذيب والإحراق في معسكر الاعتقال الرهيب.

معسكر بوشنوالد الذي زرناه كان واحدا من عدة معسكرات اعتقال دخلها عدة ملايين من الرجال في طريقهم المحتوم إلى الموت.

البداية والنهاية

ما الذي حدث في بوشنوالد؟

قالوا لنا ونحن ندور بين جنباته إن هذا المعسكر وحده أستقبل فيما بين عامي 1937 و 1945 حوالي 250 ألف شخص، ليبدأوا حياة مليئة بالأشغال الشاقة والاضطهاد والتجويع والتعذيب، فإذا ما اقتربوا من الموت بدأت معهم قصة أخرى من نوع جديد.

والقصة تبدأ مع تحويلهم إلى العيادة الطبية داخل المعسكر، يدخل الواحد منهم غرفة الكشف، وقد حاولوا أن يملأوه أملا في العلاج المنتظر، وإن كان هو في الوقت نفسه يتمنى ألا يتم علاجه أبدا حتى يموت بدلا من كل هذا التعذيب.

ويبدأ الطبيب الكشف على صاحبنا بسماعة توضع على كل مكان من صدره، شهيق وزفير ونقر على كل قطعة من جسده، وتوضع السماعة على مائدة الكشف ليبدأ فحص الأسنان فقد تكون هي سبب الداء، ويبدو على الطبيب أنه عرف الداء حين يهز رأسه، وهذا لا يحدث إلا إذا وجد أسنانا أو ضروسا ذهبية، ويضع علامة خاصة على الظهر، ثم ينتقل صاحبنا وهو عاري الصدر بالطبع إلى غرفة أخرى صغيرة لقياس الطول، وهو أمر لا بأس به.

ويشهد الرجل المقياس المثبت في الحائط يرتفع وينخفض لضبط المقاس كل حسب طوله، ويقف صاحبنا وظهره إلى الحائط والمقياس يحركه ممرض ليضبط طوله، وفي اللحظة التي يكون المقياس في حالة الضبط الكامل بين يدي الممرض، يسقط صاحبنا فجأة على الأرض والدماء تنزف من ثقب صغير في قفاه.

ما الذي حدث؟

أبدا.. فقط حكاية صغيرة، ضغطة على زناد بندقية مركب عليها كاتم للصوت يصوبها حاملها من كشك خلفي صغير له ثقب مفتوح بطول مجرى المقياس الخشبي الذي يعطيه المريض ظهره. وتنتهي في لحظة حياة رجل من بين 55 آلف إنسان وقفوا تحت هذا المقياس في نهاية الكشف الطبي.

تبدأ بعد ذلك حركة سريعة قبل أن يدخل المريض الثاني لإجراء الفحص، فمن طاقة صغيرة يقذف الممرض ضحيته ليسقط في حجرة سفلية تتلقى الجسد فيها عربة حديدية تأخذها فورا إما إلى مخزن الجثث حتى يأتي دورها في المرحلة التالية، أو إلى غرفة أخرى يقف فيها من يعرف جيدا معنى العلامة التي وضعها طبيب الأسنان على الظهر. وتبدأ الكماشة عملها لانتزاع الأسنان والضروس الذهبية ممن يحملون العلامة، فخسارة أن يذهب الذهب نهبا لما يجري في المرحلة التالية، حيث تحمل الجثة في العربة الحديدية ليقذف بها في فرن وأحد من خمسة أفران كبيرة من الحديد لا تقل في شكلها وصناعتها وأناقتها عن أحسن الأفران في أرقى المصانع..!

وتأكل النيران مئات الجثث كل ساعة لتتحول إلى رماد، ولكن القصة تنته بعد. فمن غير المعقول أن تخزن هذه الكميات من الرماد بغير أن تستفيد منها ميزانية الدولة الهتلرية، فهذا إسراف وسفه لا شك فيه. وإذن فليجمع هذا الرماد في أكياس تباع إلى المزارع، فهي أحسن من كل أنواع الأسمدة الكيميائية التي تزيد الأرض خصوبة وغنى..!

ومع كل ذلك فلا شك أن القتل بهذه الطريقة كان أرحم من التعذيب الذي كان يتعرض له المعتقلون. ونستطيع أن نتصور مراحل هذا التعذيب حين نشهد أول ما نشهد في الساحة الكبيرة عربة حديدية ضخمة لا يمكن أن يحركها من مكانها أقل من عشرة من الثيران، ومع ذلك فقد كان على كل اثنين من المعتقلين أن يربطا إلى مقدمة العربة تماما كما تربط حمير الكارو، وتصدر الأوامر بالتحريك، وتستحيل الحركة، فتنهال السياط وكعوب البنادق على ظهريهما، ثم تصدر الأوامر بتسهيل هذه المهمة بإشراك أكثر من أثنين في هذه العملية، وتتم نفسه المعاملة حتى تتحرك العربة، ولكن بعد أن تكون الدماء قد نزفت من كل مكان في أجساد المعتقلين المساكين.

قاعة التعذيب

مرحلة ثانية نشهدها في سلسلة من الزنزانات الانفرادية، كل زنزانة لا تزيد على متر في مترين، وقد يكون السجين الإنفرادي في مثل هذه الزنزانة أسعد حالا من السجين الذي يوضع ومعه عشرة مساجين آخرون في نفس الزنزانة التي لا تحتمل بطولها وعرضها هذا العدد إلا إذا استمروا وقوفا طول الليل والنهار. وثمة مرحلة ثالثة نشهدها في سلسلة أخرى من الزنزانات التي تبدو أنها أكثر رفاهية فأبوابها مكسورة وأسلاك كهرباء الإضاءة تمتد إليها، ولكنك لن تستطيع أن تتصور أن هذه الأبواب يمكن أن تغلق لتخترق هذه الأسلاك، وهي أنابيب في الحقيقة، غازات سامة لا ينتهي اندفاعها داخل الغرفة المغلقة إلا بانتهاء حياة شاغلها. ونهبط السلم إلى قاعة واسعة تحت الأرض قريبة من قاعة الرماد المتخلف عن أفران الحرق، ونشهد على الجدران أطواقا من الحديد تفتح وتقفل بما يكفي لإدخال رقبة، وتحتها مقاعد متحركة يكفي ما بين قاعدتها ومكان الطوق طول قامة رجل، وهي تصلح لشنق المعذب نصف شنق.

في أرض القاعة نشهد سلاسل ضخمة مشدودة إلى حلقات في الأرض لربط المعتقلين حين تعذيبهم، كما توجد سحابات ذات مسامير صدئة حادة لتمزيق الأجساد، وكلابات حديدية لعض اللحم، ومطارق ثقيلة للضرب على الرأس والعظام، وأكاليل حديدية ذات مسامير ناتئة من الداخل تطوق بها جبهة الضحية. أما في السقف فنجد سلاسل ضخمة وأثقالا حديدية معلقة في نواح مختلفة من السقف يمكن تصور كيف كان يستخدمها رجال الصليب المعقوف،

ومع هذا فلا داعي لتصور ما كان يحدث، فقط يكفي أن نتصور كيف استطاعت الصهيونية أن تستغل هذه الصورة في ادعاء أن اليهود هم الذين تعرضوا لكل هذه الألوان من التعذيب والإحراق حتى يكسبوا عطف الرأي العام العالمي والألماني نفسه ويسرقوا أمواله في شكل إعانات وتعويضات، بينما كل الحقائق والأرقام والأسماء تؤكد أن ضحايا هذه المعسكرات لم يكونوا غير كل أعداء النازي ومعارضيهم السياسيين من رعايا دول كثيرة بينهم الشيوعيون والغجر والمسيحيون واليهود والمسلمون سواء بسواء.

لقاء العباقرة

لندع جانبا تلك الصور والمشاهد المؤذية التي أطلعنا عليها في فايمار، فهناك في نفس المدينة أيضا ما يخفف من تلك المشاهد حين نجد أنفسنا في لقاءات مع عباقرة الأدب والفن والموسيقى.

وليس أروع من أن نلتقي بالقمم الثقافية والفنية من العباقرة، ولأن العباقرة لا يموتون فإن كل زيارة لمواقعهم هي في الحقيقة لقاء بهم مهما بعدت الأعوام والمسافات. أبرز لقاءاتنا كانت مع يوهان فون جيته وفردريك شيلر.

المنطقة التي التقينا فيها بالشاعرين تحظى بكثير من الاهتمام والعناية، فهي الحي الممتد بين بيت جيته وبيت شيلر وبين المسرح الوطني وحديقة بيت جيته. واضح أن أناقة الحي ترجع إلى اهتمام خاص نحسه حين ننتقل إليه مخترقين بقية أحياء المدينة التي تبدو كأنها مدينة مؤقتة جرى لصقها ببعضها بكثير من العناء، فقرميد السطوح السائب، وأنقاض البناء، والواجهات المهترئة ذات اللون الأصفر لا تغيب عن النظر طوال اختراقنا للشوارع المرصوفة بالأحجار المغروزة في الأرض تماما كما كانت عليه الحال تقريبا في الأزمنة القديمة، وأمام المسرح الوطني الذي قدم فيه ذات يوم جيته وشيلر قطعا مسرحية مثيرة هما وللآخرين أيضا، نقف في مواجهة تمثالهما الجبار المصبوب من المعدن البافاري. يقول لنا الدليل إنه التمثال الوحيد في أوربا إن لم يكن في العالم كله الذي يظهر الشاعرين العظيمين معا في نصب واحد. ومن أجل جيته وشيلر يأتي إلى المدينة ما يقدر بخمسمائة ألف زائر كل عام ولا يخيب أملهم، فلا يوجد أي مكان أخر يروى فيه كل شيء عن حياة الشاعرين، فقد أمضى جيته 56 عاما في فايمار وأمضى شيلر ستة أعوام.

نحس هذا المعنى حين نزور المنزلين اللذين عاشا فيهما لا يفصلهما عن بعضهما سوى شارعين، فبيت سكن جيته بناؤه على طراز الباروك، كان الدوق كارل أوجست قد أهداه للشاعر ثم تهدم عام 1942 خلال الحرب.

كل شيء.. حتى فاوست

ونخلع أحذيتنا ونحن ندخل البيت وننتقل بين حجراته، فوقع الخطى الكثيرة الزائرة قد يمحو معالم الأرض الخشبية، غرفة عمل جيته تتمتع برعاية فائقة، فدخولها محظور، وعبر الباب فقط يمكن النظر بكل انتباه إلى لوازم عمل الشاعر ومواد دراساته، مناضد العمل العالية، القناني الصغيرة المختلفة المملوءة أسرارا، عظام الأسماك، الكرات الورقية المخصصة لإجراء التجارب المتعلقة بعلم الألوان، ثم غير ذلك من الأدوات الشيطانية التي رافقته حين كان يكتب روايته الملحمية عن فاوست.

إن فاوست يرسل تحياته من هذا المكان، ومفيستو لا يبعد كثيرا، أما جيته نفسه فقد أوعز بتأثيث غرفته بشكل متواضع إلى حد التقشف. هذه هي الكتب التي كان يقرؤها، وهذا هو المقعد الذي كان يجلس عليه حينما ينفرد بنفسه، هنا كان جيته يستقبل ضيوفه، وفي هذا الركن كان يجلس مع صديقه الشاعر الرقيق شيلر، ثم هذه هي غرفة نومه التي يسمونها غرفة الوفاة، إنها أيضا في غاية البساطة.

إن بيت جيته يشبه مقرا رسميا لشخصية رفيعة، وفي أرضية القاعة تثبت لوحة التحية والترحيب بالضيوف، أما السلم ذو الأصل الباروكي، فقد أمر الشاعر النبيل بتعديل بنائه كي يصبح على طراز عهد النهضة الإيطالي، والبيت كله يبدو كأنه قصر مملوء باللوحات الفنية، والأقداح الزجاجية، وقطع الحلي العاجية المزخرفة، وفي كل ركن هناك تماثيل جصية. رأس ضخم للإمبراطورة انطونيا أوجستا، جذع بطل روماني. ولكن التماثيل الأكثر إثارة توجد في غرفة كرستينا زوجة جيته التي كثيرا ما نظر إليها المجتمع المخملي بشزر. إن غرفة فتاة الريف غاية في البساطة الأنيقة والعيب الوحيد في حسنها هو أنه لا أحد يعرف: هل هذه الغرفة كانت مؤثثة حقا كما هي عليه اليوم؟

في المنزل القريب نزور بيت فريدريك فون شيلر، إنه أكثر تواضعا، فقد كان الشاعر الرقيق ينوء غالبا تحت أعباء الديون. كان يسكن مع زوجته وأربعة أطفال في هذا المنزل البسيط الأصفر الذي لا يزال مفتوحا للزوار ومعروفا باسم بيت شيلر، وفي هذا البيت كتب شعر دراما الحرية " ولهلم تيل ".

وندور في كل ركن من أركان فايمار نلتقط مثل الآخرين أشياء تحمل اسم جيته وشيلر، من هذا الدكان نشتري مجموعة صور من مخلفاتهما، ومن هذا الركن نحصل على بعض كتبهما التي توجد مترجمة إلى معظم لغات العالم، وفي مكتبة المدينة نقرأ كل ما كتب عن جيته، وكل ما كتب عن شيلر وكل ما كتبه كل منهما.

في متحف شيلر وفي أرشيف جيته توجد المخطوطات الأدبية بنصوصها الأولية المكتوبة بخط اليد، وحتى " بيت الحديقة " الذي صممه جيته حين لعب دور المهندس المعماري له أثر واضح في صورة فايمار، فقد شكل بنفسه الحديقة الواسعة البالغ مساحتها ستين هكتارا والواقعة على نهر ايلم.

وتمتد لقاءاتنا مع العباقرة في فايمار، فهنا أيضا نلتقي بالمؤلف الموسيقي وعازف البيانو البارع الهنغاري فرانز لست، لقد كان يتردد على المدينة في الصيف حيث كانت المدينة بحدائقها العامة ومروجها تفيض بعبير الصيف بكل نقائه. أما البيت الأصفر المؤثث كما كان في الأصل والذي عاش فيه لست فهو أكثر متاحف فايمار أناقة.

بيت بيتهوفن وسيمفونياته التسع

ليس الموسيقي العبقري لست هو وحده الذي نلتقي به، فهناك في " بون " نلتقي أيضا بعبقري الموسيقى لودفج فان بيتهوفن، حيث مسقط رأسه ومتحفه في البيت الذي شهد مولده عام 1770. هنا نقف أمام البيانو الكبير الذي صنع في فيينا من أجل بيتهوفن والذي يحمل اسمه. إننا نتأمله وهو يتصدر القاعة التي وضع فيها البيانو جنبا إلى جنب مع الكمان والأرغن، الثالوث الذي بلغ الموسيقي العبقري في العزف عليها جميعا قبل أن يبلغ الرابعة عشرة ويرحل إلى فيينا ليلتقي بموزارت ويعمل مع هايدن في عالم الموسيقيين العظماء. هناك قدر لبيتهوفن أن يبقى في فيينا ويعزف على البيانو عند العظماء فيخطف ألبابهم ويقدم الكونشرتو والسوناتا ويؤلف سيمفونياته التسع حتى بعد أن أصيب بالصمم وهو في الثانية والثلاثين. هذه الأعمال الرائعة تشنف آذاننا طوال تنقلنا بين حديقة بيت بيتهوفن والقاعة الرئيسية والغرف التي بقيت على حالها بعد أن أعيد بناء البيت عام 1890 وجمعت فيه كل أعماله وأدواته، وأصبح يشهد كل عام المهرجان الموسيقي في ذكرى مولده، حيث تملأ أرجاء بون ألحان سيمفونيته التاسعة التي تعتبر أسمى ما قدمه بيتهوفن إلى أسماع العالم، والتي مزج فيها بين الصوت البشري وصوت الآلات، بينما ينشد قصيدة شيلر المسماة "إلى السعادة ". ونستمع إلى السيمفونية التي تتجلى فيها كل مظاهر الفرح والطيبة، وتبدأ أولا زاخرة بالرقة والدعة، ثم تكتسب طابعا أشد قوة يقترب من الطابع الحربي، ليتخذ الفرح بعدها طابعا دينيا وقورا شامخا، ثم يختفي ليحل محله مرح ساذج بريء، كل هذه المشاعر تتوالى بسرعة بينما الأوركسترا تدوي بآلاتها، ويبدو كأن دويا رنانا ينتشر في الجو، وإذا بالكورال الذي يشترك فيه أربعة يتوقف مرة ثانية عند لحن حفلي لكي يستطرد ناشرا تحية أخيرة من الحب والتبجيل للسعادة القدسية مصحوبة بنشوة بالغة. وتنهي الأوركسترا اللحن وحدها في حماس النصر.

ونتأمل صفحات من وصيته التي كتبها لشقيقه بعد أن أصابه الصمم، ونقرأ في سطورها: " لكم أن تتصوروا مدى الصدمة التي واجهتها من جراء عاهتي، ومع ذلك فلم يكن باستطاعتي أن أقول للناس تكلموا بصوت أعلى، اصرخوا في أذني لأني أصم، فكيف كنت أستطيع أن أكشف عن ضعف حاسة كانت عندي أقوى مما هي عند الآخرين. ويلي، ما أشد مهانتي عندما يكون أحد الناس قريبا مني وهو يستمع إلى صوت الناي الصادر من بعيد، في حين لا أسمع أنا شيئا، أيها الناس إذا قدر لكم يوما أن تقرأوا هذه الكلمات فعليكم أن تدركوا أنكم ظلمتموني، كما أوصيكم أن تذكروا أنني تمسكت دائما بالفضيلة، فهي وحدها الطريق إلى السعادة وليس المال، وهي التي أعانتني في محنتي، وأنا مدين لها ولفني بأني لم أضع حدا بيدي لحياتي ".

برلين- بون وبالعكس

لعل بيت بيتهوفن كان أبرز دوافعنا لزيارة بون، المدينة التي أعلنت عاصمة لألمانيا الاتحادية عام 1949 ويبدو أنها ستظل كذلك من الناحية العملية حتى انتقال العاصمة رسميا إلى برلين خلال سنوات قليلة.

فبعد مرور أكثر من عام على قرار الحكومة الألمانية نقل مقر عملها من بون إلى برلين، لا يزال المسئولون عاجزين عن تحديد موعد لانتقال الحكومة إلى عاصمة ألمانيا الموحدة، لكنهم متفقون على أن تكون مكاتب حكومة الوحدة على ضفاف نهر سبري، وكما شهدنا خلال زيارتنا لبرلين، فإن الطلب على المكاتب والأراضي في المنطقة المحيطة بالنهر يتجاوز العرض بمقدار كبير، الأمر الذي بدأ يسبب مشاكل كثيرة للعديد من الشركات الأجنبية التي تفضل برلين على مدن ألمانيا الأخرى. المنطقة التي ستنتقل إليها مكاتب الحكومة من بون إلى العاصمة الجديدة ستصبح مقرا للبرلمان الألماني وعدد من السفارات والمتاحف والكثير من المكاتب والعمارات السكنية الفارهة والفنادق الممتازة. وفي المنطقة الآن مساحة تبلغه؟ أ ملايين متر مربع جاهزة للبناء، وإن كان الطلب عليها حتى الآن قد أصبح ضعف ذلك.

الصورة الواضحة في بون التي صدر فيها عام 1949 دستور جمهورية ألمانيا الاتحادية، واتخذ منها رئيس الدولة والهيئات التشريعية والحكومة الاتحادية مقرا لهم، هذه الصورة تؤكد أن إجراءات انتقال العاصمة إلى برلين تسير ببطء شديد، حتى أن هذا الانتقال لا يمكن أن يتم قبل خمس أو عشر سنوات.

فحين تم اختيار بون عاصمة مؤقتة لم تكن سوى مدينة صغيرة أشهر ما فيها هو الجامعة التي كانت تضم في القرن التاسع عشر كثيرا ومن أبناء طبقة النبلاء الألمانية كما كانت مقرا لأساقفة مدينة كولونيا المجاورة وأمرائها. ولم تكتسب أهميتها السياسية إلا بعد أن أختارها منشئو الجمهورية الفيدرالية مقرا للحكومة برئاسة كونراد أديناور التي كانت جامعة بون مقرا لها في ذلك الوقت، ولم يفكر في الانتقال منها بل أعلن المدينة عاصمة مؤقتة لمواصلة المسيرة السياسية والتنفيذية لألمانيا الاتحادية. ومنذ ذلك الحين احتلت الوزارات والأجهزة الحكومية المواقع المتميزة في بون خاصة في المباني التاريخية القديمة. واحتل آلاف الموظفين العديد من المباني القديمة الفخمة والمجمعات الحديثة التي راحت تتزايد بصفة مستمرة لتأوي الأجهزة الحكومية والهيئات الإدارية، وأدى ارتفاع المرتبات والأجور إلى أن أصبحت بون واحدة من أغلى المدن الألمانية.

في البلدة القديمة نخترق البوابة حيث الجناح الشرقي لمبنى الجامعة الذي شيد في القرن السابع عشر، حيث تبدأ المنطقة التي يطلق عليها الآن اسم بيت اديناور، وننتقل منها إلى الهوفجارتن وحدائق ستاد جارتن حيث تحيط بنا المباني الحكومية مثل وزارة الخارجية ووزارة البريد، وإلى أقصى الجنوب نلتقي ببيت اديناور وفيلا هامر سميدث المقر الرسمي للرئيس الألماني وقصر البندسيرا مكتب المستشار هلموت كول وقصر شومبورج مقر الاستقبالات الدولية، والبوندسكانز الملحق به مقر لرئيس القضاة. أما مبنى البرلمان " البونسهاوس" فيقع على الضفة اليسرى من نهر الراين الكبير في ظل اللانجرلوجين الحديث ذي الطوابق الثلاثين ويتخذ قاعة للمندوبين.

في جانب آخر تقع بون الثانية المسماة " بادجودسبرج " وتضم أكثر من سبعين بعثة دبلوماسية والعديد من الوزراء الفيدراليين، أما الجودسبرجر الذي بني عام 1791 وأدى فيه بيتهوفن حفلاته، فإنه يستخدم الآن مكانا للاستقبالات الرسمية.

تلك هي بون العاصمة الزاخرة التي يفترض أن تنتقل منها كل هذه الأجهزة والمقار الرسمية والدبلوماسية وكذلك موظفوها إلى برلين العاصمة العائدة. وكل ذلك يثير المخاوف ويشجع على الإبطاء في التنفيذ، حيث تملأ الجميع حيرة من إمكانية الحصول على مقار ومساكن مناسبة في برلين المزدحمة برغم كل الجهود التي تبذل للإعداد هذا الانتقال التاريخي.

لا أحد يعرف هل ستعود ألمانيا من خلال عاصمتها الجديدة لتكون أعظم قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية في أوربا، أم أن التاريخ سيعيد نفسه مع نشوة انتصار الحق الآري، فتسقط أوربا من جديد في براثن حرب عالمية ثالثة تشعلها ألمانيا القوية الموحدة، كما أشعلتها مرتين من قبل، حين تستفحل النازية الجديدة، ويعود الشعار القديم " ألمانيا فوق الجميع "؟!