آلة تنافس منطـقـنا

آلة تنافس منطـقـنا

هدف الذكاء الاصطناعي, منذ ظهوره قبل نحو أربعين عاما, إلى تحقيق حلم قديم هو فهم المحاكمة العقلية البشرية وجعل الآلات تحاكيها. فإلى أين وصل هذا المشروع اليوم?

في أغسطس 1956, ولاية نيوهامبشير (الولايات المتحدة), مدينة هانوفر الصغيرة, جمعت ندوة عقدت في حرم كلية دارتماوث فريقا من الباحثين الشباب المتحمسين لمشروع مثير للاهتمام: إنشاء اختصاص علمي جديد: الذكاء الصنعي.

كان بين من حضروا هذا الاجتماع التأسيسي عالم الرياضيات (جون ماكارثي), منظم الندوة ومخترع عبارة (الذكاء الصنعي), و(هربرت أ.سيمون), المنظر وحامل جائزة نوبل في الاقتصاد لاحقا, ومعه صديقه عالم الرياضيات (ألن نويل). حضر كذلك (كلود شانون) رائد نظرية المعلوماتية. كان هؤلاء الرواد يطمحون إلى تحقيق حلم قديم: بناء آلات تقلد, بل وتتفوق على القدرات البشرية بالوسائل الجديدة للمعلوماتية الوليدة.

في ذلك الوقت, كانت الحواسيب الأولى لاتزال آلات ضخمة. كانت تنجز الحسابات العددية المعقدة, وتضبط الملفات الضخمة, لكن عملها ارتكز على مهام أولية وتكرارية بواسطة (قوتها الخام): ذاكرة خارقة وسرعة صاعقة. مع الذكاء الصنعي, الأمر مختلف, تتطلب محاكاة الذكاء البشري القدرة على المحاكمة العقلية السليمة, والإدراك, وفهم اللغة البشرية واستخدامها, والتعلم, والاكتشاف والإبداع...

لم يكن الذكاء الصنعي في البدايات سوى (مشروع) مبهم قليلا معروف بطموحاته أكثر مما هو معروف بحدود دقيقة. ووفقا لتعريف (م.مينسكي), أحد رواد هذا الميدان, فإن (الذكاء الصنعي, هو العلم الذي يقوم على جعل الآلات تنجز ما يمكن أن ينجزه الإنسان بشيء من الذكاء).

ولكن ما العمل لمحاكاة الذكاء البشري? يرتكز هذا الطموح على الفرضية التالية: يعمل الفكر البشري مثل (آلة منطقية) تحل المشكلات على غرار أوتومات (آلة ذاتية الحركة) قابلة للبرمجة. وليس التفكير سوى إنجاز متتالية محاكمات عقلية وحسابات متعاقبة في نسق محدد بهدف التوصل إلى حل ما. مثل هذا البرنامج البحثي كانت قد أوحت به أعمال الإنجليزي (ألن تورينغ) أحد رواد المعلوماتية, وانطلاقا من هذه المسلمة, جاء منذ عام 1936 بفكرة (الآلة العمومية) التي أصبحت بعد بضع سنوات لاحقة النموذج البدئي للحواسيب, إذ أمكن جعل الحاسوب ينفذ أشياء مختلفة, كالحساب, وفك رموز الرسائل المرمزة, وتوجيه الآلات..إلخ.. ألا يمكن للفكر البشري, هو أيضا, أن يعبر عن نفسه على شكل عدد صغير من العمليات المنطقية? هذه الرؤية الإجمالية للذكاء والفكر البشري, الموصوفة بـ(الحوسبة), تتلخص في فكرة (هـ.أ.سيمون) البسيطة: (أن تفكر, يعني أن تحسب).

نموذج معلوماتي للفكر

في الواقع, لم يصل رواد الذكاء الصنعي صفر الأيدي إلى اجتماع دارتماوث التأسيسي. أمضى (هـ.أ.سيمون) و(أ.نويل) شتاء 1955 في صياغة أول برنامج ذكاء صنعي, والمسمى Logic Theorist. كان هذا البرنامج, الذي عمل على مبدأ الاستنباط قادرا على سلسلة ومفصلة عدد كبير من القضايا فيما بينها انطلاقا من بعض المقدمات المنطقية. وكان النموذج المطبق هو نموذج القياس المنطقي (إذا كــان أ يقتـــضي ب), و (ب يقتضـــي ج), فـإن (أ يقتضي ج) بالتالي. كانت تلك هي البداية فقط, ففي وقت لاحق قريب, سعى الرائدان إلى تمكين البرامج من اكتشاف مبرهنات جديدة, وفهم وترجمة النصوص, والتحاور على قدم المساواة مع الإنسان بل والتفوق عليه في الذكاء. واختتمت ندوة دارتماوث على أمل مجنون: ولادة الذكاء الصنعي, الذي يجب ألا يوقفه أي شيء منذ الآن.

في السنة التالية, تصور (هـ.أ.سيمون) و(أ.نويل) وضع برنامج أكثر طموحا. لم يعد المطلوب صنع آلة تستنتج بل تقدم نموذجا شموليا قادراً على حل صنف كامل من المشكلات. هكذا ولد برنامج General Problem Solver (GPS) عام 1957.

تمثلت فكرة الانطلاق في أنه يمكن حل أي مشكلة استراتيجية (لعب الشطرنج, وحل مسألة رياضيات, والخروج من متاهة, وتنظيم استثمار الوقت...) بتفكيكها إلى مجموعة مراحل ابتدائية, وباستكشاف سلسلة من السبل الممكنة, ثم بمقارنتها فيما بينها, إلى أن يتم العثور على الحل الوحيد أو الأفضل. فمثلا, إزاء عطل ميكانيكي, يمكن أن يتحقق صاحب المرآب من كل قطع المحرك واحدة فواحدة, وجعلها تعمل على نحو منعزل, إلى أن يكتشف القطعة المعيبة. استراتيجية حل المشكلات هي واحدة من الحلول الممكنة. إلا أن طريقة حل المشكلات هذه قابلة للترجمة بيسر في لغة المعلوماتية على شكل (أشجار قرارات) يتوافق كل فرع من فروعها وخيارا ممكنا (إذا لم يحدث الإشعال, نتبين حال البطارية, إذا بدت البطارية في وضع جيد, نتحقق من تماسات البطارية, إلخ...) بعد أن تزود (هـ.أ. سيمون) و(أ.نويل) بهذه البرامج (حالة المشكلات), اعتقدا أنهما باتا قادرين سريعا على تطبيقها على مجموعة من الميادين المختلفة. ومن أجل إيجاد المناهج التجريبية (استراتيجيات حل المشكلات) الخاصة بكل ميدان, يكفي سؤال الخبراء (لاعبي الشطرنج, والإداريين, والأطباء, واختصاصيي الرياضيات), وتحديد الاستراتيجيات العقلية التي يستخدمونها, ثم صياغتها صورياً وترجمتها بعد ذلك إلى برامج معلوماتية, أي إلى مجموعة تعليمات مكوّدة بلغة رمزية (بمعالجة رموز مجردة) يفهمها الحاسوب.

رأى (هـ.أ.سيمون) أن من الواضح أن (حالة المسائل) GPS ترسي أسس الذكاء الصنعي الذي سيغدو في القريب قادرا على منافسة الكائن البشري في مختلف المهمات, وأكثرها تجريدا, وأعقدها. (من الآن وحتى عشر سنوات قادمة, سيكون الحاسوب الرقمي بطل العالم في الشطرنج, إلا إذا منعه النظام من دخول المنافسات, من الآن وحتى عشر سنوات, سيكتشف الحاسوب الرقمي مبرهنة رياضية جديدة ومهمة ويثبتها (....) من الآن وحتى عشر سنوات, على صعيد علم النفس, ستتخذ معظم النظريات شكل البرامج المعلوماتية), وفقا لما كتبه (هـ.أ. سيمون) و (أ.نويل) عام 1957.

وانطلاقا من هذه الوثبة, نشطت الأبحاث سريعا, وتحققت إنجازات جديدة في الأعوام التالية. ففي العام 1958, أوجد (ج. ماكارثي) ما أسماه LISP (LISt Processing = معالجة الخط), وهي لغة برامجية في الذكاء الصنعي لاتزال واسعة الاستخدام حتى اليوم. وفي العام 1959, ابتكر (آرثر صمويل) برنامجا للعبة الضامة. ومنذ الستينيات, تم ضبط أولى النظم الخبيرة. وفي العام 1965, أوجد (إدوارد فجنبوم) الـDENTRAL, النظام الخبير القادر على تحديد الصيغة الكيميائية لجزيء ما. وفي العام 1966, ولد ELIZA, برنامج تحاور إنسان/آلة, الذي صممه (جوزف ويزنبوم). وفي العام 1970, ابتكر (تيري وينوغراد) نظام SHRDLU, الذي يفهم التعليمات المقدمة بلغة البشر ويجيب عليها (نقل الأشياء على حامل). أخيرا, انتقلت الأبحاث من طور الاختلاط إلى التنظيم, وفي العام 1970, ظهر العدد الأول من مجلة Artificial Intelligence أو (الذكاء الاصطناعي), واتخذ العلم الجديد مكانه في المدار.

عثرات غير متوقعة

ولكن, إزاء هذه التجديدات الواعدة, برزت صعوبات غير متوقعة, كانت إحداها تتعلق ببرنامج معالجة اللغات الكبير - وبالأخص الترجمة الآلية. في الواقع, تبين أن الموضوع هو أعقد مما كان متصورا. كانت المترجمات الآلية الأولى, التي ظهرت في بداية الخمسينيات, تعمل وفق مبدأ غير متقن كثيرا: الترجمة على طريقة كلمة فكلمة. فحسب مبدئها, تترجم جملة (Le chat est sur la table) ]الهر على الطاولة[ (بشكل صحيح على النحو التالي) The cat is on the table. مع ذلك, لا تتيح مثل هذه الطريقة تحويل جملة Le temps est beau ]الطقس جميل[, من الفرنسية إلى الإنجليزية. ففي الإنجليزية, هناك كلمتان للتعبير عن (temps) هما time و weather (= climat). بالنسبة للكائن البشري, الإجابة واضحة. أما بالنسبة للآلة, فليس الأمر كذلك, لأنها لا تتمتع بمعارف قبلية وبالتالي لايمكنها معرفة أن وقت الساعة لا يسعه أن يكون جميلا. للترجمة بشكل صحيح, يجب أن تفهم الآلة معنى الكلمات, وأن يكون دخولها إلى مغزى الرسالة الداخلي متاحا. إلا أن الحاسوب يبدو عاجزا عن حل هذه المشكلة. كما تصطدم مبادرات إيجاد قواعد لغوية تولدية (تلك المتحدرة من أعمال نعوم تشومسكي), قادرة على تأويل وإعادة تركيب ترتيب الكلمات في الجمل المركبة, بالعديد من العقبات, إذن, فمشروع الترجمة الآلية ازداد غرقا, حتى عيل صبر المستثمرين آنذاك.

وعلى نحو مواز, اكتشف الذكاء الصنعي قيودا أخرى, تلك هي حال التجارب التي أجريت في ميدان الإدراك. تبدو مهمات الإدراك البصري (تمييز الأشكال) والسمعي (تمييز الأصوات) أقل تطورا من حيث الظاهر من أعمال أكثر (ذكاء), كحل المسائل الرياضية, ومن المفارقة أن المشكلة كانت أكثر حدة مما هو متوقع. من المؤكد أن برنامجا مثل الـSHRDLU لـ(تيري وينوغراد), كان أقدر بكثير على تمييز الأشكال الهندسية (المربع, والمستطيل, والمثلث, والدائرة...), ولكن تبين فيما بعد أن تنفيذ مهمة كتلك التي تقوم على تمييز الوجه نفسه من زوايا مختلفة - وهو أمر يسير حتى بالنسبة لرضيع صغير - كان مستحيل الإنجاز على الآلة. كانت هناك عقبة أخرى أيضا: قدرات التعلم. إن للحواسيب, رغم تزويدها بذاكرات متنامية السعة, قدرات تعلم (أي استخلاص الدروس من التجربة والتعميم انطلاقا من حالات خاصة) محدودة التطور جدا, رغم العديد من المحاولات. لكل هذه الأسباب, بدأ البعض يشك بقدرات الذكاء الصنعـــي في تحــــقيق وعوده الكبيرة.

بحثاً عن المعنى

ليس من شأن مآزق وعثرات الذكاء الصنعي إلا زيادة تأكيد حدس عدد من الفلاسفة. وهكذا, شن (هوبرت درايفوس), أستاذ الفلسفة في جامعة بركلي, حملة في السبعينيات والثمانينيات على تباهيات الذكاء الصنعي. وفي كتابه (نقد الذكاء الاصطناعي) (1972), يهاجم تباهيات الذكاء الصنعي, مؤكدا فكرة أن الذكاء البشري لا يعمل وفق القواعد الصورية وحدها, وأنه أكثر مرونة وأشد تنوعا في الوقت نفسه.

وتابع الفيلسوف (جون ر. سيرل) هذا الهجوم لاحقا بحجج مشابهة, يرى (سيرل) أن الذكاء الصنعي يصطدم بنقطة جوهرية: القصدية. الحاسوب لا يفكر, لأنه لا يبلغ المعنى, لا يصل إلى المضمون, ولا يعمل إلا على رموز تجريدية, دون مغزى. (لا يقتصر عمل العقل البشري على السيرورات الصورية أو النحوية. بالتعريف, إن لحالاتنا العقلية الداخلية مضمونا من نمط ما. عندما أفكر في كنساس ستي, وعندما أقول لنفسي إني قد أحب العصير البارد, وعندما أتساءل ما إذا كانت معدلات الفائدة ستنخفض, تنطوي حالتي العقلية على مضمون, وهذا المضمون يضاف إلى خاصياتها الصورية, أياً كانت (....) إن العقل دلالي بالمعنى من حيث إن له مضمونا, فضلا عن بنيته الصورية).

إذن, كان على خبراء الذكاء الصنعي, في محاولاتهم الرامية لمواجهة التحديات التي تعترضهم, السعي لحل العديد من المشكلات الجوهرية.

- إيجاد نماذج محاكمة عقلية أكثر ليونة, وأكثر حدسا, وأقل برهنة, وأدنى (منطقية) من البرامجي البارد, ولكن أكثر مرونة وتعميما, باختصار أكثر (بشرية).

- إيجاد تصاميم جديدة متكيفة مع المهام, مثل تمييز الأشكال, والإدراك, والتعلم... التي لا تبدو ممكنة المعالجة بعبارات المتتاليات الحسابية.

- أخيرا, دمج معارف في الآلة يمكنها تأويل وفهم معنى الرموز والمفاهيم التي تنابلها (تتعامل معها وتعالجها).

ولمواجهة مشكلات المحاكمات العقلية (الحدسية), عكف بعض الباحثين عندئذ على ابتكار واستخدام (منطقين) ضبابي وشكلي, ثم, في الثمانينيات, ظهرت نماذج ربطية (أو شبكية, أي على غرار شبكات الخلايا العصبية) مع هدف ضمني هو استبدال التصاميم التقليدية والتغلب عليها.

أخيرا, تطورت الشبكات الدلالية. ما الهدف? تعليم الآلة التصرف بشكل ملائم إزاء الأوضاع التي تجابهها, وتزويدها بمعارف أصلية حول العالم. هل يعاب الحاسوب في أنه آلة منطقية (عمياء) تكتفي بمنابلة (معالجة) الرموز المجردة دون فهم مغزاها? إذن, يجب جعله آلة (مثقفة) و(مطلعة). وتمثل أحد السبل التي تم تبنيها منذ السبعينيات في إنشاء برامج (قواعد معلومات). وكان على هذه البرامج أن تتيح للحاسوب الاستدلال ليس في عالم رموز مجرد, بل في عالم محسوس أكثر, لأشيائه معنى ولكلماته مضمون.

ماذا تعني الشبكة الدلالية?

ظهر منهج (الشبكات الدلالية) كأداة متميزة لتشكيل قواعد معلومات مفيدة: (الشبكات الدلالية هي مجموعات معلومات مرتبطة برمز (أو مفهوم) ما. عمليا, الشبكة الدلالية هي رسم بيان يتألف من علامات (أو عقد) تمثل مفاهيم (كرسي, أثاث, طير....) وروابط منطقية تربطها ((يعطي إلى), (ينتمي إلى), (هو....)) الشبكة الدلالة هي تقريبا على شاكلة عنقود العنب, حيث كل حبة تمثل معلومة مرتبطة بشيء ما. فبالعنقود (هر) ترتبط حبات كتبت في إحداها (له أربع قوائم), وفي أخرى (يموء), و(له أذنان), ويأكل الفئران), إلخ... منذئذ, تغدو الآلة قادرة على تصنيف الحيوانات في أنواع ونويعات على أساس دلائل تمثيلية. وبفضل مثل هذه المعارف التي نزرعها في الآلة, يكون الحاسوب قادرا على تعرّف بيئته, والحكم عليها, وتقديرها. وبذلك, تتيح الشبكات الدلالية نزع بعض التقييدات مؤقتا. وفي ميدان البحث التوثيقي مثلا, يمكن للبرامجيات (الذكية), عندما يطلب منها البحث عن النصوص المتعلقة بـ(السنوريات الآسيوية), أن تنتقي وثائق حول (نمور البنغال). ذلك ببساطة لأنها تكون قد تعلمت أن (النمر سنوري), وأن (البنغال) تقع في آسيا. نظرياً, يتيح ترتيب المعارف في شبكات كما لامتناهيا من العلائق الممكنة. ويمكن, مع مرور الوقت, ومع وجود برنامج كافي القوة, وصف عدد ضخم من المفاهيم وكل علاقاتها المترابطة.

في الواقع, سرعان ما ظهرت القيود في التنفيذ العملي. ينطوي عدد كبير من المفاهيم المستخدمة في الحياة اليومية على عدد كبير من المعاني. وهكذا, فكلمة table (طاولة) ليست فقط أثاثا (علاقة 1), ولها أربع قوائم (علاقة 2), وتستخدم للأكل (علاقة 3) أو للكتابة (علاقة 4). كلمة table يمكن إرجاعها إلى table de multiplcation (جدول الضرب).... ولا تعود المعلومات المرتبطة هي نفسها إلا في المعنى الدارج. هنالك أيضا (انفجار معان) ممكنة لكل كلمة من القاموس. إن الشبكات الدلالية المحدثة ضمن برامج الذكاء الصنعي عاجزة عن الإحاطة بكل هذه الدقائق. في الواقع, لوحظ أنه يمكن للبرامج المعلوماتية أن (توهب) بقدرات ذاكرية استثنائية, وقدرة حسابية هائلة, ومنطق لا عيب فيه. ولكن, قياسا مع الذكاء البشري, ينقصها ببساطة العقل السليم. وقد قدم (م. مينسكي) تعبيرا بسيطا عما هو مقصود بعبارة (العقل السليم). في العام 1982, وخلال كلمة له أمام (الرابطة الأمريكية للذكاء الصنعي), التي كان يرأسها, أشار إلى (تحدي البطة) الذي يشكل العثرة التي تصطدم بها برامج الذكاء الصنعي القائمة. ويعني بذلك القضيتين: (كل البط يطير) و(تشارلي هو بطة). يمكن أن تستنتج البرامجيات من ذلك ببساطة: (إذن تشارلي يطير). ولكن إذا علمناها أن المسكين تشارلي ميت... فمتى يمكن للبرامجيات أن تجيب: (أوه, عذرا, إذن, تشارلي لا يطير...)?

في الواقع, تبقى الأنظمة قاعدية المعلومات مقصورة على ميادين معارف ضيقة وتخصصية جدا. وتستكشف سبلا أخرى كثيرة في محاولة لتزويد الحواسيب بمعلومات حول العالم القائم, ولكن, إذا تطور الذكاء الصنعي عبر كل هذه الأبحاث, تبقى الإنجازات العملية محدودة وتخصصية في بعض الميادين (الألعاب المنطقية, والأنظمة الخبيرة, والروبوتية). على كل حال, لانزال بعيدين جدا عن الطموحات الأصلية.

شهدت نهاية الثمانينيات أزمة جديدة في تاريخ الذكاء الصنعي. كانت (خريف الذكاء الصنعي), ورغم تطور البرامج العالمية الكبيرة, ورغم التطورات الضخمة التي تحققت على مستوى سرعة وطاقات معالجة الحاسوب, لايزال الذكاء الصنعي يراوح في مكانه. الكثيرون من الصانعين لم يعودوا متوهمين. وشن بعض رواد الذكاء الصنعي, مثل (ت. وينوغراد) انتقادات ذاتية قاسية على الذكاء الصنعي, باسم الخصوصية الجوهرية والأصلية للفكر البشري, الذي ستبقى الآلة عاجزة على الدوام عن نمذجته.

الاضطرار إلى التواضع

دخل الذكاء الصنعي منذ نهاية الثمانينيات في مرحلة جديدة. لم يعد الزمن زمن التصريحات الراعدة والمتغطرسة, زمن الآمال في بناء آلة عمومية قادرة على كل أنواع المشكلات. أصبح الهدف يتمثل في تقديم إنجازات أكثر تخصصا, وأكثر عملية.. و... أكثر تواضعا.

في الواقع, انتشر الذكاء الصنعي حول عدة ميادين تخصصية:

- الألعاب الاستراتيجية (لعبة الشطرنج, ولعبة الــ(غو) ]لعبة صينية[, ولعبة الضامة...): كانت محاولات مضاهاة الإنسان في لعبة ذهنية كالشطرنج, ثم التغلب عليه, أحد طموحات الذكاء الصنعي على الدوام. وبعد إخفاقات عدة مؤلمة, جاء أخيرا (انتصار) الحاسوب, في ربيع 1997, عندما نجحت آلة سميت DEEP BLUE لأول مرة في التغلب على بطل العالم في الشطرنج (بوريس كاسباروف). ونقرّ جميعا بأن الآلة نجحت هنا في التغلب على الإنسان في ميدان (قوة الحساب الخام) وليس في ذكاء أو دهاء الاستراتيجية.

- أحرزت معالجة اللغات بعض التطورات, حل رموز كتابة المخطوطات اليدوية, والصوت البشري, واكتساب عناصر نحوية ودلالية في ميادين تخصصية (لغة التجارة والتقنيات). إلا أن فهم وترجمة اللغة العادية اصطدمتا دائما بصعوبات بالغة. - تطور أيضا التمييز البصري: الحواسب المزودة بكاميرات قادرة على تمييز الأشياء من زوايا مختلفة أو المتحركة. ولكن, هنا أيضا, هل من الممكن فعلا الحديث عن وجود (رؤية), في حين أن الحاسوب لايستطيع أن يميز سوى بعض الأشكال النموذجية ضمن ميدان تخصصي: أحرف المخطوطات المكتوبة باليد, الأشياء الفيزيائية?!

- انتقلت الروبوتية إلى العصر الصناعي, والحاسوب قادر على الحلول محل الإنسان في مهمات تخصصية جدا (سلاسل التجميع), ولكن لايستطيع أي روبوت مجهز لانتقاء, وفرز, وتركيب القطع, تمييز النيران إذا راح المصنع يحترق.

- دخلت الأنظمة الخبيرة في طور عملياتي وانتشرت في الصناعة (المساعدة في القرار المالي, وتنظيم المرور, والنقل والمواصلات, والتشخيص الطبي...) لكن التطبيقات تبقى محدودة في (عوالم صغرية).

بعد أربعين عاما على ولادته, حصيلة الذكاء الصنعي معتدلة إلى حد كبير, ويتنامى لجوء الاختصاصيين إلى مشروع (الذكاء الصناعي الضعيف) بالمقابلة مع (الذكاء الصناعي القوي). كان مشروع الذكاء الصنعي القوي يطمح إلى إيجاد وإعادة بناء الطريقة التي يفكر وفقها الإنسان, ثم التفوق عليه. مشروع (الذكاء الصنعي الضعيف) هو أكثر تواضعا. يهدف هذا الأخير إلى محاكاة السلوكات البشرية (الموصوفة بالذكية) بمناهج هندسية دون الاكتراث بمعرفة إن كان الإنسان يعمل بالطريقة نفسها. ويفضلون اليوم الحديث عن (برامجيات) مساعدة في الإبداع والقرار بدلا من الآلة التي تحل محل الإنسان.

من المؤكد أنه ستكون هناك اكتشافات عدة, ولكن إلى أين يمكن أن تصل هذه الإنجازات? التاريخ وحده سيحكم. في كل الأحوال, لتطورات وعثرات الذكاء الصنعي الفضل في طرح أسئلة على نحو تجريبي حول طبيعة الذكاء البشري المعالج بأسلوب نظري تفكري بحت حتى ذلك الحين

المنطق الضبابي/غير الواضح

أدخل (لطفي أ. زادة, الأستاذ في جامعة بركلي, خلال الستينيات, مفهوم المجموعة الفرعية الضبابية, ثم, عام 1978, أوجد (نظرية الممكنات). في منطق المجموعات, العنصر X ينتمي أو لا ينتمي إلى مجموعة A. في المنطق غير الواضح, يمكن أن يعزى العنصر X بدرجة انتماء إلى A تجعله ينتقل من 0 (لا ينتمي) إلى 1 (ينتمي). مع المنطق الضبابي, ندخل في عالم الممكن بدلا من المؤكد, وفي عالم المحتمل بدلا من الحقيقي.

الشبكة الدلالية

طريقة لتصور المعارف على شكل شبكة مفاهيم مترابطة فيما بينها. والمفاهيم هي عبارة عن علامات تمثل شيئا أو فكرة. وترتبط بكل علامة عدة معلومات (مثلا: الكرسي هي أثاث, والطيور تصفر...), ويمكن أن تنتج المعلومات الجديدة بالاستدلال (أي بالاستنتاج). فمثلا: إذا تعلمت الآلة أن (مينو هو هر) وأن (الهررة تموء), فإن بوسع الآلة عندئذ أن تستنتج من ذلك أن (مينو يموء), الشبكات الدلالية ابتكرها (روس كويليان) (1966)

 

محمد الدنيا







عبر التكنولوجيا العسكرية تنامت قدرات الذكاء الاصطناعي!





الديناصورات تعود للحركة عبر الذكاء الاصطناعي





العمالة محدودة المهارة سيحل مكانها الروبوت





لعب أطفال ذكية عوضا عن الحيوانات الطبيعية