فلسطين أيام الموت والأمل

فلسطين أيام الموت والأمل

أكثر من مائة الف عين كانت ساهرة بعد منتصف ليل التاسع والعشرين من مارس 2002 في مدينتي رام الله والبيرة تترقب غزوا عسكريا إسرائيليا. لقد توقع الجميع ذلك في أعقاب عملية فدائية نفذت في فندق في مدينة ناتانيا في شمال اسرائيل أودت بحياة اكثر من 15 إسرائيليا. ولم يشفع للمدينة أنها لم تكن قد انتهت من ترميم آثار الدمار الذي خلفه اجتياح عسكري همجي قبل ذلك بأقل من أسبوعين, طاول الإنسان والشجر والحجر, فيما عرف لاحقا بالاجتياح الأول, فقد كانت شهوة التدمير لدى شارون في ذروتها ولم يكن غريبا أن يستجيب وهو المجرب لنداء الدم وغواية القتل.

بعد منتصف ليلة التاسع والعشرين من مارس 2002. كانت محركات أكثر من 250 دبابة ومجنزرة وآلية عسكرية, تهدر على مداخل رام الله والبيرة من جميع الجهات, لتمزق سكون الليل, وتبث الرعب في القلوب, واغتصبت سماء مدينة رام الله وتوأمها البيرة طائرات الهليوكوبتر من طراز (أباتشي), ثم بدأت تطلق حممها على كل ما يتحرك فوق الأرض. أطبقت الدبابات على المدينتين بالكامل. للحظة, بدا التاريخ وكأنه يعيد نفسه, فقد أعاد الحصار الذي فرضته قوات الاحتلال الاسرائيلية على رام الله, ومقر الرئيس الفلسطيني الى الأذهان حصارا إسرائيليا مشابها كان قاده شارون قبل عشرين عاما في سعيه الدءوب للخلاص من الشعب الفلسطيني وقيادته.

وإذا كانت غنيمة اسرائيل من المعتقلين مروان البرغوثي - امين سر حركة فتح في الضفة الغربية وعضو المجلس التشريعي الفلسطيني, فإن البرغوثي لم يكن سوى واحد من معتقلين كثر تجاوز عددهم سبعة آلاف معتقل وزعوا على معسكرات للجيش مثل (عوفر) في بيتونيا ومعسكر (كتسيعوت) في صحراء النقب والذي يطلق عليه الفلسطينيون اسم أنصار 3 منذ الانتفاضة الاولى عام 1987.

تجربة قاسية

حرب المدن والشوارع التي خاضها الفلسطينيون في مواجهة الجيش الإسرائيلي شكلت لعشرات الآلاف من الأطفال تجربة قاسية ومؤلمة, لم يمروا بمثلها من قبل, فأصوات القصف الصاروخي والمدفعي, ولعلعة الرصاص من مختلف الأعيرة وهدير الدبابات والمجنزرات وأزيز الطائرات على مدار الساعة, تركت في نفوس الأطفال أثرا يستحيل نسيانه مدى العمر.

أثناء الاجتياح وبعده, ظهرت على هؤلاء الاطفال أعراض نفسية وفسيولوجية مثل التبول غير الإرادي أو فقدان الشهية أو الإفراط في الأكل والقلق والاكتئاب والانزواء وفقدان التركيز في الدراسة واليأس من الحياة, فضلا عن آلام عضوية في انحاء مختلفة من الجسم.

طوال أكثر من أربعة أيام بلياليها, بقي سكان رام الله والبيرة حبيسي منازلهم, ينتظرون موتا يأتي أو لا يأتي, وإذا ما حاولوا الهرب بمشاهدة التلفزيون فاجأتهم صور ما يجري في مدن فلسطينية أخرى فقد كان الغزو شاملا. وحين أعلنت قوات الاحتلال رفع حظر التجوال خرج المواطنون لدفن شهدائهم وإحصاء خسائرهم وتفقد آثار التدمير الهائل الذي ألحقته قوات الاحتلال بالمباني والمنشآت.

معركة جنين

في مخيم جنين تسلم الشهيد يوسف أحمد ريحان المعروف باسم (أبو جندل) مهمة قيادة المعركة لما كان يتمتع به من قدرات قتالية عالية وبفضل التدريبات العسكرية التي تلقاها منذ أن كان في عمر الطفولة, يساعده في ذلك عدد من المقاتلين من أبرزهم الشهيد محمود طوالبة.

يقول أحـد المــقاومـين ممـن كـانوا تحـت إمرة أبو جندل في معركة مخيم جنين: (كان أبو جندل يتمتع بمعنويات عالية, ولم يكن يتعامل معنا كجنود تحت إمرته, وإنما كأصدقاء له).

ويضيف المقاوم الذي فضل عدم ذكر اسمه (لم يكن هنـاك مــكان محـــدد يمــكن أن يــتواجد فيه أبو جندل, وإنما كان يحرص على تفقد مجموعات المقاومين في سائر المواقع داخل المخيم, ليحثهم على الاستبسال في مقاومة الاحتلال حتى النصر أو الشهادة).

في الليلة التي سبقت الهجوم الإسرائيلي, قام أبو جندل برفقة الشهيدين محمود طوالبة وزياد العامر بتوزيع المقاومين في شكل مجموعات وخطوط دفاعية لمواجهة الغزاة الإسرائيليين. وكان في نهار ذلك اليوم قد وضع خطة تمكن المقاومين من مواجهة قوات الاحتلال, ومنعها من دخول المخيم, من خلال توزيعه المجموعات بأعداد قليلة من المقاومين, في شكل كمائن على مشارف المخيم, بما يمكنهم من إيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر في صفوف القوات الغازية.

وفي اليوم العاشر كانت الذخيرة قد نفدت من المقاتلين, كما نفد الطعام والماء فتوجهت بعض النسوة من المخيم إلى الشهيد أبو جندل يرجونه أن يخلع زيه العسكري, ويرتدي ثياب امرأة تمكنه من الخروج معهن بسلام من المخيم, والنجاة من جنود الاحتلال. إلا أن أبو جندل رفض ذلك بشدة, وأبدى اعتزازه بزيه العسكري الذي أصر على عدم خلعه, وظـل أبو جندل يقاتل حتى أصيب واعتقلته قوات الاحتلال التي وضعته وسط المخيم وأعدمته رميا بالرصاص, شأنه في ذلك شأن العشرات من المواطنين ممن أعدمتهم قوات الاحتلال بعد إصابتهم.

ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للشهيد محمود طوالبة (23 عاما) الذي تضاربت الأنباء بداية حول صحة نبأ استشهاده, ذلك أن ذويه وأهالي المخيم لم يعثروا إلا على جثة قطعت أجزاؤها السفلية, واحترقت منها الأجزاء العلوية إلى درجة صعب التعرف عليه.

لكن الأمر كان قد حسم تماما كما يقول محمد, الشقيق الأكبر للشهيد طوالبة, وذلك بعد أن عثر الأهالي أثناء عملية إزالة أنقاض المباني التي دمرتها قوات الاحتلال, على البندقية التي كانت في حوزته خلال العدوان الإسرائيلي, والخوذة التي كان يضـــعهـــــا على رأسه, إلى جانـــب شهادة أحد المقاتلين ممن كانوا برفقـــته والذي تركه قبل لحظات قليلة من قصف المروحيات الإسرائيلية للمنزل الذي كان يتواجد فيه الشهيد.

الرحم الفلسطيني

في الوقت الذي كانت فيه قوات الاحتلال تمارس دورها في القتل والتدمير كان رحم الأم الفلسطينية يقوم بدوره هو أيضا: كانت المرأة الفلسطينية تنجب أطفالا ليكونوا بدائل لأبو جندل والطوالبة والشهداء الآخرين, ولا شك في أن بعضهم سوف يواصل الطريق الذي ساروا عليه حتى يأتي اليوم الذي تتحرر فيه فلسطين. لقد أسفرت تلك المعركة الشرسة عن سقوط المئات من الشهداء مدنيين وعسكريين, أطفالا وشيوخا وشبانا ونساء, ولكن الرحم الفلسطيني ذلك السلاح الذي لايقهر كان جاهزا للتعويض عمن يسقط شهيدا. ففي تلك الأيام الحزينة والمجيدة في آن شهد مخيم جنين العديد من حالات الولادة. وحاولت قوات الاحتلال من خلال تواجدها المكثف وإطلاقها النار على كل جسم متحرك أن تمنع الناس من التنقل حتى لو كان بينهم نساء في حالة ولادة لم يتمكن أزواجهن من نقلهن إلى المستشفيات. ولكن للحياة دورتها الحتمية التي لا تستطيع إسرائيل أن توقفها فقد أتى الطلق زوجة اللاجئ إحسان محمد أبو طبيخ (42 عاما) من مخيم جنين في مثل هذه الظروف فلم يكن أمامه سوى تولي مهمة توليد زوجته مستعينا بشمعة صغيرة وسكين حلاقة وخيط مسبحة وقطعة من القماش.

كان ذلك في اليوم الثاني من العدوان الإسرائيلي على المخيم وإحكام حصاره, وهو ما جعله يخفق في نقل زوجته إلى المستشفى. (وضعت نصب عيني موت زوجتي والجنين الذي كان بين أحشائها, وحدثت نفسي بالقول إنهما ليسا أفضل من الشهداء الذين يتساقطون, فسلمت أمري إلى الله, وعقدت العزم على القيام بمهمة التوليد التي لم أتخيل في حياتي أن أقوم بها). بهذه الكلمات بدأ أبو طبيخ حديثه عن تجربته غير المسبوقة التي كان من الممكن أن تودي بحياة زوجته والجنين معا, عندما اضطر إلى القيام بمهمة التوليد التي لا يلم بالحد الأدنى عن كيفية القيام بها.

المجد للمخيم

طفرت الدموع من عيني أبو رشيد الذابلتين وهو يتأمل الخيام التي نصبت على أرض مجاورة لمخيم جنين المدمر لتكون بديلا عنه, فأطلق الأهالي عليه اسم (مخيم العودة). وقال أبو رشيد الذي لجأ إلى المخيم من حيفا في العام 1948 من بين دموعه: (إذا فكرت يوما ما بالرحيل عن هذا المخيم, فإنني سأسلك حتما شارع جنين-حيفا).

في عام 1948 أخرج أهالي ما أصبح يعرف بمخيم جنين للاجئين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر من ديارهم تحت وطأة المجازر الرهيبة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية. واستقر هؤلاء الذين كانوا يعدون بالمئات في سهل (جنزور) ونصبوا مجموعة من الخيام على أمل العودة إلى منازلهم في الجليل والمثلث, خلال أيام أو أسابيع. وفي عام 1953 أنشأت وكالة الغوث المخيم, وأطلقت عليه اسم (مخيم العائدين), تماما مثلما أطلق اليوم اسم (مخيم العودة) على المخيم الجديد.

لقد دمرت إسرائيل مخيم جنين ولكنها لم تهزم الإنسان الذي يعيش فيه, فبين أنقاض المنازل التي دمرت كانت هناك مجموعة من المواطنين الذين فقدوا منازلهم تجلس فوق أنقاضها. سألتهم (العربي): (هل دمرت إسرائيل حياتكم)?!, أجاب أحدهم بنبرة متحدية تحمل الكثير من الأمل: (على الرغم من كل شيء فإن معركة مخيم جنين محطة على طريق العودة).

نابلس: دمار بحجم الحقد

لم تختلف قصة اجتياح مدينة نابلس كثيرا عما حدث في رام الله وجنين; تقدمت الآليات والمدرعات ودبابات (المركافاه) العملاقة التي توصف بأنها أكثر الدبابات تصفيحا في العالم عبر شوارع المدينة متجهة نحو وسطها القديم. وكان هناك اعتقاد بأن القوات الإسرائيلية لن تدخل الأحياء القديمة لأسباب عدة أهمها أن ضيق الشوارع والأزقة فيها سوف يحول دون مرورالآليات العسكرية الضخمة, وأنها حين تدخل فإنها ستواجه مقاومة عنيدة عرفت بها المدينة طوال سنوات الاحتلال الإسرائيلي التي ناهزت الخمسة والثلاثين, كما عرفت بها عبر تاريخها الذي يزيد على ثلاثة آلاف عام, فنابلس واحدة من أقدم مدن العالم. وأخيرا فإن دخول المدينة مستحيل من دون تدمير أحيائها التي تعتبر تحفا معمارية وتاريخية أدرجتها منظمة اليونسكو الدولية ضمن قوائم التراث الإنساني العالمي المحافظ عليه ويخضع للصيانة الدائمة لكن ذلك كله لم يشفع للمدينة العريقة. وبدأ زحف قوات الاحتلال نحو وسط المدينة بهدف تدميرها. وكان الدمار كبيرا.

وفي أول يوم للاجتياح الكبير قصفت طائرة اسرائيلية محولا مركزيا للتيار الكهربائي, يقدم خدماته لمناطق مكتظة بالسكان, مثل مخيمات بلاطة وعسكر والضاحية والمساكن الشعبية, وبتعطل مولدات الكهرباء عن العمل, تعطل ضخ المياه في ثلاث آبار في منطقتي الباذان ودير شرف.

لكن إعادة احتلال أكبر مدينة في فلسطين لم يكن سهلا, وذلك على الرغم من عدم التكافؤ في السلاح والعتاد والعنصر البشري, فشهدت المنطقة التي تضم المدخل الغربي للبلدة القديمة ومدرسة الفاطمية للبنات مواجهات ضارية بين المقاومين الفلسطينيين والقوات الغازية, سقط فيها عدد من الشهداء والجرحى, وأحرقت دبابة بعد أن اصطدمت بعبوة ناسفة وأعطبت أخرى, كما دمرت أو أعطبت ست دبابات ومجنزرات في مواقع أخرى, مثل مدخل سينما ريفولي, شارع حطين, حي رأس العين, شارع القدس, بمحاذاة مخيم بلاطة, والمسلخ البلدي شرقي المدينة, إضافة إلى مصفحة محترقة شاهد المواطنون جرافة ضخمة تسحبها قرب المسجد الصلاحي الكبير.

ميزان الخسائر

استمرت الاشتباكات والمواجهات بين المقاومين الفلسطينيين وقوات الاحتلال ثمانية أيام, استمر فيها القصف الإسرائيلي من مدافع دبابات وصواريخ طائرات هليوكوبتر, ومدافع رشاشة ثقيلة للمدرعات والمصفحات, وأسفرت الصدامات والمواجهات المسلحة مع قوات الاحتلال, عن سقوط أكثر من 82 شهيداً و250 جريحاً في أوساط الفلسطينيين بين مقاومين ومدنيين. وفي الجانب الإسرائيلي, قتل ضابطان وأصيب عدد من الجنود, وتحت ضغط خسائرها لجأت قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى استخدام سلاح الطيران في اليوم الثامن للاجتياح, لإخماد جذوة المقاومة في حي القصبة ولإيقاع أقصى ما يمكن من الضرر والدمار.

وكما فعلت في المدن الأخرى التي اجتاحتها منعت قوات الجيش الغازية سيارات الإسعاف من نقل المصابين أو الجرحى من المواقع التي أصيبوا فيها داخل البلدة القديمة, أو في أطراف المدينة, إلى المشافي, ما أدى إلى وقوع ضغط كبير على مراكز الإسعاف الأولي, التي أقامتها مؤسسات مدنية. وفي المركز الطبي الميداني الذي أقيم قبل بضــعة أيـــام مــن بـــدء الاجــتياح, تراكــمت جثث 28 شهيداً, وأكثر من 70 جريحاً, لثمانية أيام, قبل أن تتمكن مجموعة من العاملين والمتطوعين والصحفيين من نقل 10 شهداء و30 جريحاً من المركز الطبي, مجازفين بأرواحهم إلى حيث كانت سيارات الإسعاف تقف خارج البلدة القديمة.

أحداث نابلس

ما وقع في البلدة القديمة لنابلس من أضرار, لم يمح من ذاكرة النابلسيين أيام المقاومة المجيدة للاحتلال وقواته. ومنذ اللحظات الأولى لرحيل الجيش الإسرائيلي في الاجتياح الأول الكبير, هرع مئات من الشبان والشابات, تساعدهم سيارات البلدية وموظفوها وطلائع المهندسين المتطوعين لتنظيف شوارع القصبة من أكوام التراب والحجارة والقمامة الهائلة المتروكة.

وينهمك المحامي غسان الشكعة, رئيس بلدية نابلس, في استثمار علاقات البلدية الدولية, خصوصا مع المدن الغربية التي توجد بينها وبين نابلس علاقات صداقة وتوأمة, مثل مدينة ليل في شمال فرنسا, ومدينة واندي في بريطانيا, من اجل بلورة مشاريع تساهم في إعادة تعمير ما خربته وهدمته دبابات وجرافات قوات الاحتلال الإسرائيلي, إبان الاجتياحين الإسرائيليين للمدينة في شهري أبريل ومايو الماضيين. ورغم فداحة الأضرار في البنية التحتية والعمرانية التاريخية للمدينة ومرافقها, وداخل البلدة القديمة (القصبة), فإن الشكعة مصمم, أسوة بمواطني مدينته, على مواجهة التحديات الصعبة التي يتركها كل اجتياح.

ويصف الاجتياحات العسكرية الاسرائيلية بأنها: (نوع من الإرهاب المنظم, وما قامت به من قتل وهدم في المدينة والمخيمات المجاورة, يدخل تحت بند جرائم الحرب).

ويؤكد رئيس بلدية نابلس: (نحن هنا باقون مثلما كنا في الماضي, وسنبقى في الحاضر والمستقبل وبعد ألف عام.. باقون, والاجتياحات العسكرية لا تحل أي مشكلة, الحل يأتي فقط بزوال الاحتلال).

ليل أبيض

كان الليل في جميع أنحاء محافظة بيت لحم أسود فاحما لا يخفف من سواده سوى ضوء المصابيح في مدن الخضر وبيت جالا والدوحة ومخيمات الدهيشة وعايدة والعزّة. فقط في فضاء مدينة بيت لحم, كان لون الليل أبيض. وبدا أن مئذنة (مسجد عمر بن الخطاب) وبرج كنيسة (المهد) في حالة استنفار, بلا سكينة, وتحاولان الاقتراب للتوحد معًا والنجاة من عدو نهم للتخريب والتدمير.

كان رتل من الدبابات الإسرائيلية يتقدم من الجهة الجنوبية الشرقية ويهدر من محور (العبيات) باتجاه بيت لحم, حيث دفن الشهيد حسين عبيات الذي كان أول الذين اغتالتهم (الأباتشي) الإسرائيلية في بيت لحم, قادمة من معسكر للجيش الإسرائيلي في قاع جبل (هيرودوس), وكانت دبابات وآليات أخرى تتقدم عبر الجهات الغربية من موقع الارتباط العسكري الفلسطيني - الإسرائيلي في بيت جالا, ومن مدينة الدوحة, ومن مدخلي مدينة بيت ساحور في الجهة الشرقية, ومن جهة القدس, مدخل بيت لحم الشمالي, عدا تلك التي شقت طريقها من الجنوب عبر مدينة الخضر ومخيم الدهيشة وقرية ارطاس, لتصطف وتنتظم في الساعة الخامسة من صباح يوم الثلاثاء الثاني من أبريل نحو (250) دبابة وآلية مجنزرة على جميع مداخل البلدة القديمة في بيت لحم.

ومع ساعات الشروق الأولى ما بين الساعة الخامسة والسابعة صباحا, بدأت مروحيات (الأباتشي) الإسرائيلية التجوال في سماء المدينة دون أن تغادرها لحظة واحدة, فيما اتضح أن جميع المدافعين عن المدينة لا يتجاوز عددهم (300) مقاتل, وقد تزودوا بأسلحة خفيفة (كلاشنيكوف) وعددها قليل أو (16M) الأميركية التي تشترى من السوق السوداء في إسرائيل وهي سلاح مشكوك في جودته, وتوزعوا على مختلف مفارق البلدة القديمة وبين حواريها الضيقة, في (الفواغرة) وفي (الفراحين) وحي التراجمة (السريان) وحي (النجاجرة) وحي (الحريزات), وهناك في حي (العناترة) شرقا, وغيره من الأحياء العتيقة يلفهم دفء الأهالي ومحبتهم المقدمة مع الطعام وأباريق الشاي والقهوة وزجاجات المياه وحركة صبايا المدينة, وعجائزها وكهولها وشيوخها الذين اختلطوا مع المقاتلين.

وفي جميع الطرقات, في (المنارة) والسوق القديمة وشارع (الفواغرة) وفي شارع (بولس السادس) عشرات الأطفال تتراوح أعمارهم ما بين 10 و 15 عاما, جميعهم من مخيم الدهيشة يتراكضون مسرعين, وكل منهم يحمل على كتفه كيسا صغيرا محشوا بعبوات محلية تدعى (أكواع) يصنعونها من زوايا أنابيب المياه, وتحشى بالبارود أو الكبريت والمسامير, ويوزعونها على المقاتلين المنتشرين على جميع المحاور في انتظار المواجهة,. وأعدَّ فرن (السالزيان) عجنة خاصة خلال الليل, خصيصا لخبزها وتوزيعها على المقاتلين في المواجهة.

في الساعة السابعة والنصف, بدأت القوات الإسرائيلية تقدمها من كل مدخل يقود إلى قلب المدينة وهي تطلق نيران رشاشاتها في كل اتجاه, وبدأت المواجهة بين شباب المقاومة ببنادقهم الخفيفة في مقابل دبابات متطورة ومزودة برشاشات ثقيلة على برجها, رشاشات تعمل باستخدام التكنولوجيا الحديثة دون الحاجة إلى أي جندي لاستخدامها.

احتدمت المواجهة أكثر عندما حاولت قوة من الدبابات الإسرائيلية التقدم عبر شارع (راس فطيس) باتجاه ساحة (المنارة) المطلة على ساحة كنيسة (المهد), والالتفاف على المقاتلين في البلدة القديمة ومحاصرتهم ما بين ساحة (المدبسة) غرباً وساحة (المنارة) شرقا, حيث كانت تتقدم آليات أخرى من جهة (المدبسة), ومع ذلك تصدى المقاتلون في الموقع للجنود الإسرائيليين المشاة وأوقعوا بهم إصابات بالغة أكدها أهالي الحي وأرغموا القوة على التراجع.

وتمكنت مجموعتان من المقاومين من إعطاب ثلاث دبابات إسرائيلية في اللحظات الأولى من التوغل. اثنتان في (طلعة العين) من الجهة الجنوبية التي تقود لساحة كنيسة (المهد), وثالثة بجانب مدرسة (تراسنطة) الثانوية, وتم إيقاف تقدم القوات الإسرائيلية من المحورين.

المحاصرون يباغتون

أكثر من ستة وثمانين مقاتلاً حوصروا في التقاطع ما بين حوش (المحمص) وزقاق رفيع يخترق حارة (السريان). قسم كبير منهم حوصر في حوش (المحمص) المطل مباشرة على ساحة (المنارة).

قرر المقاتلون استخدام كل ثقب يطلُّ على الحوش واستخدام نوافذ البيت الضيقة التي تعلو بعشرين سنتيمتراًُ أبواب البيت العتيق, والانتفاع من زقاق ضيق مواز للطريق يقود لأحد بيوت الحوش, ومباغتة الإسرائيليين بهجوم مضاد ومفاجئ, بالتعاون مع المحاصرين في الجهة المقابلة في زقاق حارة (السريان), وكان أول من باغت الأعداء بين المقاتلين, نضال العبيات الذي استشهد لاحقا داخل كنيسة (المهد) أثناء الحصار, فأصابوا من أصابوا ودحروا تقدم الجيش الذي بلغ ساحة (المنارة) وسمعت أصوات الجنود وهم يستغيثون ويطلبون المساعدة في نقل جرحاهم وأربعة من قتلاهم.

وفي الجهة الغربية من البلدة القديمة, تقدمت الدبابات الإسرائيلية بهدير مجنزراتها ورصاص رشاشاتها الكثيف من ساحة (المدبسة) باتجاهين. قسم من الآليات تقدم عبر شارع (الفواغرة) والآخر واصل طريقه عبر شارع (بولس السادس) شرقا, لإتمام الحصار على البلدة القديمة, علما بأنه تم إيقاف تقدم الدبابات الإسرائيلية حتى الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا في ثلاثة محاور, هي (طريق العين) إلى الجنوب من ساحة) المهد), وطريق مدرسة (تراسنطة) القادم من بيت ساحور, ووقف تقدم الدبابات عبر شارع (راس فطيس).

وعلى مدخل (زقاق بير حِمْدين) الذي يصل شارعي (الفواغرة) و(بولس السادس), وقعت أشرس المعارك بين المحتلين المزودين بأحدث وسائل القتال وبرشاشات تعمل على مدى الثواني, والمشغَّلة باستخدام التكنولوجيا الحديثة, فيما كان المقاتلون يدافعون عن المدينة بأسلحة خفيفة, وأغلبيتهم أفرغ ما في جعبته من الرصاص وانسحب يبحث عمن يزوده ببعض الرصاصات, أو انسحب لمساعدة من يقذفون العبوات المحلية الصنع (الأكواع), من على الأسطح باتجاه الدبابات.

كان المهاجمون جيشاً تقدَّم كما لو كان متجها لساحة حرب, فيما كان المقاتلون في الطرف الآخر الفلسطيني يؤدون واجبا ودورا لا تنطبق عليه أي مواصفات عسكرية, فلا هم بجيش, ولا هم حتى مقاومة منظمة لها هيئة أركان أو هيئة تنسيق.

الانسحاب إلى المهد

دهم الجنود الإسرائيليون المشبعون بالكراهية والحقد لكل شيء فلسطيني, (زقاق بير حِمْدين) برشاشاتهم, بدءا بمسجد (الفاروق) الواقع في وسط الزقاق, حيث سلطوا تجاهه رشاشاتهم ومتفجراتهم, وأفرغوا فيه الجنون بعينه, لنكتشف أنهم قتلوا الشهيد عزَّت يوسف شاهين (60 عاماً), الذي تبين بأنه قتل وهو على فراش الصلاة, وبعد ذلك ارتكبوا جريمــتهم الـــبشـــعة بقتــل الحاجــة ســـمية عـابدة (60 عاماً), وابنها خالد عابدة (37 عاما) وهما جالسان في قلب البيت, وظلت جثامين الشهداء في هذا الزقاق لأيام عدة, دون أن تسمح القوات المحتلة بنقلها للمستشفى أو بدفنها, واضطر ابنها سامي إلى حشر أطفاله وزوجته في الحمام, كي لا يروا الجثمانَيْن الملقيَيْن على أرضية البيت, لأكثر من ثلاثة أيام.

لحق الجنود الإسرائيليون المقاتلين على أسطح المنازل الأثرية في البلدة القديمة, وكان يمكن صَدّهُم واصطيادهم من قبل المقاتلين الفلسطينيين بسهولة بسبب الميزات التي تقدمها أسطح البلدة القديمة لأبنائها, لولا مشاركة الطائرات المروحية في ملاحقتهم حيث سقط الشهيد البطل خالد جعرور من قطاع غزة, على أحد الأسطح, وظلَّ جثمانه على أسطح البلدة القديمة ثلاثة أيام متوالية, دون أن يتمكن أحد من نقله إلى المستشفى, فقد كان جنود الاحتلال يطلقون النار على كل من يصعد لأسطح المباني بعد ان احتلوا المرتفع منها.

سقط من الجنود الإسرائيليين في مواجهات المحاور الغربية قبل انسحاب المقاتلين من المقاومة, وحسب شهادات الأهالي, نحو عشرة بالإضافة إلى الجنود الأربعة في مواجهة (حوش المحمص) أمام ساحة (المنارة).

في أعقاب هذه الملحمة من البطولة التي استمرت حتى الساعة الثالثة من بعد الظهر, وبعد نفاد كل شيء من أيدي المقاتلين, اضطر هؤلاء لإخلاء موقع المواجهة ولجأوا مرغمين للتحصُّنَ في أزقة حي (الحريزات) الضيقة وفي كنيسة (سانتا ماريا) والبيوت المجاورة, حيث حوصر في الكنيسة ثمانون مقاتلا ومواطنا وطفلا من أطفال مخيم الدهيشة.

أحكمت القوات الإسرائيلية السيطرة على البلدة القديمة من الجهات الغربية والشمالية والجنوبية, وتلافيا لنيران المروحيات, تمكن المقاتلون واحدا تلو الآخر من الولوج إلى (زقاق قراعة), الواقع خلف السوق القديمة ليتجمع فيه مائةٌ وعشرون مقاتلاً تمكنوا من الوصول عبر مختلف الأزقة.

صاروخ أو قذيفة واحدة, كان يمكن أن تقضي على جميع المقاتلين, كانت الساعة قد بلغت الثالثة بعد الظهر, حين وردت مكالمة هاتفية لأحد المقاتلين من مقاتل آخر, قال فيها إن الطريق إلى ساحة (المهد) آمنة, وأن القوات الإسرائيلية لم تتمكن من التقدم إلى ساحة (المنارة) عبر شارع (راس فطيس), فقرر العشرات من المقاومين الانسحاب من الموقع, والذوبان بين البيوت رافضين فكرة التوجه إلى ساحة كنيسة (المهد) حتى لو أدى ذلك لاعتقالهم.

وفي الساعة الخامسة والنصف مساءً, تلقى أحد شبان المقاومة التابعين الى ما يعرف بالقوات البحرية تأكيدا بوساطة (شيفرة) خاصة أن الطريق, ما بين كنيسة (سانتا ماريا) مروراً بساحة (المنارة) عبر شارع (بولس السادس) الذي يخترق بيت لحم من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق, وصولاً إلى ساحة كنيسة (المهد), آمنة وخالية من القوات الإسرائيلية.

وفي يوم الخميس, الرابع من أبريل, أطلق القناصة الإسرائيليون النار باتجاه قارع أجراس كنيسة (المهد) الشهيد سمير إبراهيم سليمان, فأصيب بعدة رصاصات في أنحاء مختلفة من جسمه, وكان أول شهيد يسقط في الكنيسة المحاصرة, ورسالة للمحاصرين باستمرار الصراع في المقبل من الأيام.

وتلت هذه الجريمة المحاولة الإسرائيلية الاولى لاقتحام كنيسة (المهد) من جهة (الخورانية), وهو مكان مخصص للرهبان والقساوسة في دير الرهبان (الفرانسيسكان), فقد اكتشف المحاصرون إقدام القوات الإسرائيلية على وضع سلالم طويلة على جدران (الخورانية) التي تقع حجراتها مباشرة فوق الباب الرئيس لكنيسة (القديسة كاترينا), إلى الشمال من الباب الرئيس لكنيسة (المهد) بثلاثين مترا, كما تم التحقق من إقدام القوات الإسرائيلية المحتلة على حشد عدد كبير من الجنود الذين كانوا يحيطون بالكنيسة, واستخدام رافعة, حملت صندوقا وضعت عليه كاميرا ورشاش يعملان بتوجيه عن بُعدْ. ولاحظ المحاصرون فوق ساحة تمثال القديس (جيروم) المكشوفة, وجود منطاد مزود بآلات تصوير لمراقبة الردهات المكشوفة أو أي حركة خلف زجاج النوافذ داخل الكنيسة, أو حجرات الإخوة الرهبان, فأيقن المحاصرون أن مرحلة جديدة بدأت, وأن الجيش الإسرائيلي يخطط لاقتحام الكنيسة, وأن عليهم المبادرة لاتخاذ خطوات سريعة قبل أن تكتمل خطة التنفيذ عند العدو, فاجتمع على الفور قادة المجموعات المختلفة وعدد من النشطاء عند صحن الكنيسة في القسم الخاص بالإخوة الروم, واقترح المحافظ محمد المــدني على المحاصرين اعتــماد أبو القاسم عبد الله داود مدير المخابرات العامة في بيت لحم, لإدارة المواجهة مع العدو وتنظيم وإدارة الوضع داخل الكنيسة, وحظي الاقتراح باحترام وقبول الجميع.

اقتحام فاشل

وفي فجر أحد الأيام, وبعد أن أنهى مؤذن في مسجد مجاور أذان الفجر لتوه, أبلغ (حراس الخورانية) من الأمن الوطني في الطابق الثاني (القاعة) أن أحد الجنود الإسرائيليين يحاول بآلة خاصة قص قطعة من زجاج النافذة.

- القيادة: تابع الموقف وانتظر التعليمات.

- الحارس: نجح الجندي بفتح الشباك ويعطي إشارة خاصة للجنود خلفه.

- القيادة: انتظر التعليمات.

- الحارس: دخل الجندي إلى الغرفة.

- القيادة: تابع الموقف فقط.

- الحارس: أربعة جنود الآن من القوات الخاصة تدلوا من الشباك داخل الغرفة وهم في جاهزية قتالية عالية.

- القيادة: أطلق النار فقط إذا قرروا التقدم ربما ينتظرون دخول آخرين.

- الحارس: اخذوا وضعية الهجوم, أحدهم توجه إلى جهة المكاتب.

- القيادة: الله معكم.

كانت (الله معكم) هي إشارة البدء بالهجوم, حيث بدا للجنود الإسرائيليين أن كل شيء هادئ, والمحاصرين نيام. الله وحده يعلم أي مشاعر أحس بها حراس الأمن الوطني في الموقع, إنها عدة ثوان فقط, أطلقت خلالها النار من رشاش الحارس ليفرغ مخزنه بالكامل, والحارس الثاني قذف بحزمة من (الأكواع) تحت النافذة بين الإسرائيليين, وانسحبا إلى(الممر) بانتظار أي تقدم. ولكي يصبحا في وضع آمن وبمقدور حراس قوات البحرية في الطابق الأول تزويدهما بالذخيرة و(أكواع) جديدة.

كانت المروحية الإسرائيلية في هذه اللحظة تطلق نيرانها بكثافة باتجاه ساحة القديس (جيروم) المكشوفة. ورغم دوي المروحية فإن صراخ الجنود الإسرائيليين كان أعلى من هدير الطائرة وصوت الرشاشات.

في اقل من دقيقة تمكن الإسرائيليون من إخلاء الجنود الأربعة القتلى, وفي مكان الحادث تبين أنه تمت تعرية الجنود الأربعة قبل إخلائهم, وعثر المحاصرون على أسلحتهم المزودة بقاذف وأشعة (ليزر) وأربعة مسدسات وأغطية الرأس الحديدية المثقوبة وملابسهم المزودة على الأذرع بأدوات مختلفة (مقصات ومفكات ومطارق) وسترات واقية وأدوية, ومن الواضح أن الجنود الإسرائيليين كانوا جزءا من وحدة هندسة خاصة في الجيش الإسرائيلي.

كان لهذه الواقعة أثر كبير في خطط القوات الإسرائيلية تجاه المحاصرين, وحسمت موضوع اقتحام الكنيسة على أجندة القوات الإسرائيلية التي أكدت لها التجربة, كم سيكون الثمن غالياً بالنسبة لها إذا ما قررت اقتحام الكنيسة, واكتفت لاحقا بالمشاغلة المستمرة للمحاصرين بإطلاق النار المتواصل تجاه الكنيسة, وأشده ما جرى يوم الثاني من مايو والذي بدا كما لو كان محاولة اقتحام جديدة.

في أعقاب محاولة الاقتحام الفاشلة, قررت إسرائيل اعتماد سياسة جديدة تجاه المحاصرين داخل الكنيسة, ومن ذلك: رفع مناطيد كبيرة فوق فضاء الكنيسة مزودة بكاميرات متطورة تعمل بالأشعة, والإبقاء على صندوق كبير تحمله رافعة ضخمة, مثبتة في ساحة الكنيسة وزودت الصندوق بكاميرات ورشاشات تعمل بتوجيه عن بعد, نشر وحدات خاصة من الجنود الإسرائيليين على جميع أسطح المباني المحيطة بالموقع, إطلاق النار من قبل القناصة على أي شخص يتم تشخيصه وراء النوافذ أو الساحات الداخلية المكشوفة, أو في الممرات غير المسقوفة أو تلك التي تحوي نوافذ للتهوية والإضاءة, أو في حدائق المجمع الكنسي من الجهة الشرقية, وهكذا قتل الشهيد خالد إبراهيم صيام من غزة يوم الثلاثاء التاسع من أبريل, اليوم السابع للحصار, الذي تطوع بالتوجه من مقر (الخورانية) نحو الفندق الروسي, لالتقاط وجمع الطعام الذي كان الأهالي المحيطون بالكنيسة ألقوا به من أسطح منازلهم للمحاصرين, علما بأنه كان يرتدي على جسده اللباس الواقي الذي خلفه الجنود الإسرائيليون وراءهم أثناء محولة الاقتحام الفاشلة.

حياة تحت الحصار

لجنتان أدارتا الحياة تحت الحصار, الأولى أمنية وتتحمل مسئولية المواجهة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي, والثانية لتنظيم الحياة الداخلية بما في ذلك العلاقات بين المحاصرين أنفسهم, أو بين المحاصرين ورجال الدين, أو لتنظيم وجبات الطعام المتوافرة وأعمال النظافة داخل موقع الحصار. وكان رجال الدين الروم واللاتين والأرمن يتناوبون على تقديم وجبات الطعام إلى المحاصرين, ومثَّلت العلاقة مع الأب إبراهيم فلتس نموذجا رائعا للعلاقة بين المناضلين ورجل الدين, فقد كان حاضنة حقيقية للمحاصرين, يقدم لهم الاحترام والرعاية, ويسهر على حاجاتهم, ويتابع همومهم اليومية.

وفي أوقات الفراغ, أو حين ينهي المحاصرون ورديتهم في الحراسة كانوا يشغلون أنفسهم بقراءة صحف قديمة تم العثور على كميات كبيرة منها في فندق (الكازانوفا) أو يطالعون الكتب الدينية المسيحية والقرآن.

الهواتف الخلوية كانت في منتهى الأهمية رغم مخاطرها في الكشف عن هوية مستخدميها, فهي قناة الاتصال الوحيدة مع العالم الخارجي. وعندما قطعت الكهرباء عن الكنيسة, واجهت المحاصرين مشكلة شحنها, ولكنهم لاحظوا أن المجمع الكنسي كله بلا كهرباء باستثناء جرسية الكنيسة التي بقيت مضاءة فتساءلوا من أين تأتي الكهرباء للجرسية إذن?!

تبين أيضا بأن رجال الدين جميعهم لا يعرفون شيئا عن المصدر الذي يزوِّد الجرسية بالكهرباء, وفقط بعد فك الحصار والفحص, تبين أن خط الكهرباء الخاص بالجرسية هو خط منفصل عن شبكة التمديدات التي تخص الكنيسة ومرتبط بتمديدات الكهرباء في بعض شوارع المدينة.

وقد تمكن أحد المحاصرين من المخاطرة والتسلل للجرسية وقام بربط سلك كهربائي بخط الجرسية فتأمنت الفرصة كاملة للمحاصرين لشحن (بطاريات) هواتفهم الأمر الذي أثار جنون قائد القوات الإسرائيلية وهو يبحث عن مصدر الكهرباء لقطعه.

المرأة المقاومة

لا يُذكر الحصار إلا وتذكر أم صالح مرزوق, الأم الرائعة, مثال المرأة الفلسطينية الباسلة, كانت بطلة في الانتفاضة الأولى, وظلت تحافظ على صورتها النموذج في الوجدان الفلسطيني. كانت تعجن وتخبز كميات كبيرة, وتتسلق مستخدمة بعض بيوت الجيران الملاصقة لمجمع الكنيسة وتقذف بأرغفة الخبز داخل السور للمحاصرين, إلى أن اكتشفها جنود وقناصة الاحتلال وصوَّرتها كاميرات المحتلين الموزعة في كل مكان, فتم إنذارها, ولكن دون جدوى, وأخيرا اقتحموا بيتها وحطموه. ليس هذا وحسب, بل انهالوا عليها بالضرب بهراواتهم وبلكماتهم وأرجلهم التي كانت برداً وسلاماً على جسدها فداء لأبنائها وإخوانها المحاصرين.

كذلك الحال بالنسبة لخيرة صبايا بيت لحم فقد اعتدى الجنود على الــشابة غــزلان سليمان (20 عاماً) خلال محاولاتها العديدة إيصال الطعام والخبز للمحاصرين وأسفر الاعتداء عن كسر ساقها. وأصرت أم داود, زوجة المواطن طلعت الخطيب, المعروفة في الانتفاضة الأولى بتخليص الشباب من أيدي الجنود أثناء سياسة تكسير العظام التي طبقها اسحق رابين ضد شعب الانتفاضة, وحمايتهم ومساعدتهم على الفرار, على أن يكون لها دور مميز في هذه المعركة أيضا, فكانت تتسلل خلال حظر التجول من بيت لبيت, لتجمع أي مواد غذائية كي توزعها على المواطنين في حارة العناترة المجاورة للكنيسة من الجهة الجنوبية وإيصاله للبيوت التي تطوع أصحابها لقذفه من نوافذهم أو أسطح منازلهم داخل مجمع الكنيسة.

وفي داخل الكنيسة, كان المحاصرون يلتقطون ما يقذف لهم من أغذية, علماً بأن ذلك كان يتطلب ليس فقط شجاعة خاصة, بل روحاً تطوعية لافتداء الآخرين, نظراً لما ينتظر كل شخص يحاول الخروج للفضاء المكشوف, حيث القناصة بانتظاره مثلما استشهد محمد حمدان (أبو عابد) من قطاع غزة, حيث حاول الوصول من موقع الحصار إلى جهة الأرمن عبر الممر لالتقاط الطعام له ولزملائه, فتصيبه ست رصاصات غادرة في جسمه, جاءته من أحد نوافذ التهوية والإضاءة, التي تكشف بعض زوايا الممر لكاميرات العدو الإسرائيلي.

الرحيل عن المهد

في الساعة السادسة والنصف من يوم الجمعة العاشر من مايو 2002, شاهد الرأي العام في جميع أنحاء العالم, عبد الله داود مدير المخابرات العامة في بيت لحم, يحني ظهره للخروج من الباب الصغير لكنيسة المهد, الذي صمم في القرن الخامس عشر في عهد المماليك ربما لمنع خيول الفرسان الغزاة من الدخول للكنيسة, أو دعوة للدخول أو الخروج من الباب الصغير للكنيسة كي يحنوا رءوسهم إن كانوا يحبون الرب.

كان عبد الله أول الطالعين من حصار الكنيسة إلى حصار الحافلة الإسرائيلية, وعلى رقبته كوفية فلسطينية تدلت على صدره. تقدم مرفوع الهامة وبين شفتيه سيجارة. كان يمشي ببطء وعلى يمينه الأب إبراهيم فلتس يرافقه من باب الكنيسة الصغير وحتى محطة التفتيش الإلكترونية على بداية بلاط الكنيسة. ورغم شوقه لرؤية فضاء المدينة وأولئك الذين يعتلون سطح البلدية ودار المالية في الجوار, وجمع من الأمهات والأخوات والمراسلين الصحفيين, فقد كان ينظر باستمرار للأب إبراهيم فلتس الذي نشأت بينهما علاقة كفاحية خاصة في مقدور عشاق الحرية فهم معانيها, ربما أكثر من غيرهم.

وكان مطر.. مرة أخرى هطل المطر, مطر في اليوم الأول للحصار, ومطر في اليوم الأخير, أي مصادفة تلك والمطر لا يزور مدينتنا في مثل هذا الوقت? مطر ترك ظلاله على عدسات الكاميرات التي تخص مراسلي الفضائيات, مطر يُوثِقُ الحدث, والأحداث في فلسطين في عديدها وُثِّقَتْ بانتسابها ليوم (الثلجة الكبيرة), أو بخراب كبير ارتبط بيوم ماطر

 

صلاح حزين