بل الـشعر ديوان العرب

بل الـشعر ديوان العرب

قرأت ما كتبه الدكتور محمد رجب النجار في مقاله (الشعر هل هو حقا ديوان العرب?) بمجلة (العربي) العدد (523) يونيو 2002. ولقد أثار الكاتب عدة نقاط مهمة يمكن إجمال الرد عليها في السطور التالية - يقول الكاتب في ص 33: (مجمل القول إن مقولة الشعر ديوان العرب لا تغني في سياقها السوسيو ثقافي والتاريخي - إلا شعر المجتمعات والبوادي ذات الثقافة الشفاهية) كما قال في ص 34: (منذ أن قام العرب بتأسيس دولتهم الكبرى وانفتاح ثقافتهم على الآخر الحضاري حتى شرعت ثقافتهم تعرف طريقها إلى التدوين الكتابي) لقد نسي الكاتب أن العصر الجاهلي العربي كان يحفل بالكتابة والتدوين وخصوصا في مجال الشعر وما المعلقات السبع الطوال إلا معلقات مكتوبة اتفق النقاد على أنها أجود الشعر لذا خُلدت بالكتابة والتعليق على جدار الكعبة. أما قوله: (لم يعد الشعر ديوان العرب, وإنما أصبح النثر العربي ديوان العرب في عصر الثقافة الكتابية) فهو بحاجة إلى مراجعة لأن الشعر كان ولايزال فن العربية الأول. لأنه خلد للعرب أمجادهم وفتوحاتهم وأرّخ لحياتهم وأهم أحداثها فهو ضمير هذه الأمة وروحها وحادي قوافلها في متاهات الحياة إلى حقول النور وشادي جيوشها في معاملها وحروبها إلى ألوية النصر وخازن تقاليدها الرفيعة وشيمها الإنسانية الراقية, ولقد أدرك العرب ما للشعر من رسالة فنية وعلمية وأخلاقية فحوى ديوان شعرهم كل مناحي الحياة, فهو عيونهم وآذانهم وجميع حواسهم التي يطلون من خلالها على عالمهم الخارجي, فالشعر مادة طيعة لنشر العلوم, فهو مادة جيدة وأداة طيعة لتوصيل الأفكار النافعة وحمل أعباء رسالة العلم السامية. ولقد ترك لنا كبار الشعراء في ديوان الشعر العربي أشعارا علمية وأحاجي وألفاظا ومسائل رياضية أتعبت أذهان علماء الرياضيات على عهدهم أمثال أبي نواس وابن يونس وحمزة الأصفهاني ومحمد بن يحيى وأبي الحسن بن طباطبا وأحمد بن عمرو بن رسته وقبلهم النابغة الذبياني وزرقاء اليمامة وغيرهم كثير, فقد أورد كل واحد منهم مقاطع شعرية أودعها مسائل حسابية, ومن بين ما حوى ديوان الشعر بين أبوابه وأغراضه التي نظم الشعراء فيها قصائدهم باب لعلم الطب - خاصة الناحية التشخيصية, وعلم الفلك والفروسية إضافة إلى أغراض الشعر الرئيسية, الغزل, المدح, الرثاء, الفخر, الحماسة إضافة إلى رؤى الإلهام والخيال التي يحفل بها الشعر العربي, ولولا الإطالة لاستعرضنا بعض هذه المسائل. ولأن الشعر حوى هذه العلوم كان هو لغة العلم وبهذا يمكن دحض الدعوى التي تتطاير بها الألسن من أن هذا الزمن لم يعد زمن الشعر. والموازنة باطلة بين الشعر وبقية فنون القول الأخرى من قصة ورواية. نعم الموازنة باطلة بين الشعر وبقية فنون القول الأخرى, حيث لا جامع بينها سوى أنها فن القول وتفترق في الجوهر اختلافا بينا, فوزن الكلام يخرجه عن طبيعته أو يوجد له طبيعة مغايرة, مع وافر شروط الشعر الأخرى, وهي مسكوت عنها, لأنها معلومة من الفن بالضرورة ومن ثم تكون قيمة الشعر, وإن كان من جنس الكلام, فإن المسك بعض دم الغزال. ومثل هذا الذي يحدث على الساحة الأدبية الآن من الشعر والرواية كجنسين أدبيين متنافسين أيهما ديوان العرب, عرفناه عند نقادنا القدماء في مفاضلتهم بين الشعر والنثر إذ لم يصل أحد منهم إلى الزعم بأن تفضيلهم لأحد الفنون معناه إلغاء للفن الآخر أو القول بأنه لم يعد له مكان في مستقبل الأدب.

ونعرف أن الشعر ديوان العرب كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - وقالها تاريخ هذا الشعر ونقاده على مر العصور, وإذا كان العرب قديما يحتفلون بميلاد شاعر لأنه لسان القبيلة والمعبر عن مفاخرها ومآثرها والذائد عنها ضد أي واغل فإنه في الوقت ذاته لسان نفسه وإن تخفي وراء ألسنة كثيرة, وشعره هذا تعبير عن تجاربه الذاتية التي ينشدها من النقد المعاصر. ولقد اتسعت اللغة ونظامها لكل هذه التجارب على مر العصور, حيث هي لغة شاعرة - كما ينعتها العقاد - ولم تفلح أجناس القول الأخرى في أن تزيح الشعر عن عرشه... والشعر ديوان العرب قديما وحديثا الذي ينظمه الشاعر فيجعل الأبيات لوحة فنية, حتى يسمع السامع الأبيات بما فيها من ألفاظ محدودة تصور ما يراه الشاعر, فيجبر على التصور والتخيل.

إن خمسين صفحة من القصة أو الرواية لا تعطيك المحصول الذي يعطيه بيت من الشعر كهذا البيت:

وتلفتت عيني فمذ بعدت

عني الطلول تلفت القلب



لأن الأداة هنا موجزة سريعة والمحصول مسهب باق. ولكنك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة من التمهيد والتشعيب, ونحن نرى أن العصر الحديث بتقنياته يناسبه جدا الشعر لكي يكون فنه الأول للإيجاز وزيادة المحصول.

والشعر فن قديم... أكثر من سبعة عشر قرنا كان خلالها المعبر الأول عن الروح العربية, ولاشك في أنه تعرض لأزمات وفترات ركود وضعف لم ينج منها أدب من الآداب, ولكن من الصواب أن نعزو هذا الركود والضعف إلى البشر الشعراء, قبل أن نعزوه إلى فن كامل قائم بذاته, لأنهم أصل الداء حين رضوا بأن يزيحوا الشعر عن مكانه, وحين غم عليهم الأمر جهلا أو بسوء نية فأطلقوا اسم الشعر على ما ليس شعرا, القضية إذن ليست الشعر, وهو مادة طيعة بأيدي الشعراء للتفاعل مع المجتمع إذا صدقوا, فالشعر لاينفصل عن المجتمع إلا إذا انفصل الشاعر, وهو في الحقيقة تجربة إنسانية عامة لا يستأثر بها موطن دون آخر ولا يختص بها شعب دون شعب, ولا تحويها معارف أمة من الأمم وتخلو منها غيرها وهو أوسع أجناس الأدب احتمالا للتفسير.

إن الشاعر المجيد يستطيع أن يصل إلى قاعدة عريضة من القراء ويؤثر فيهم, مما يجعل الشعر أداة جيدة لتولد الأفكار النافعة وحمل أعباء هذه الرسالة السامية, إذا استطاع الشاعر العالم توصيل الأفكار النافعة إلى الجمهور من القراء وتأثيره يتوقف على ما في يده من قوة تأثير وتمكن.

ولقد قال القدماء (إن الشعراء أمراء الكلام) فمَن هم الشعراء المجيدون أم أصحاب الحداثة? أصحاب البساطة أم الغموض والإبهام? إن الغموض في حد ذاته غير مرفوض في الشعر, لكن الإبهام مرفوض لأنه يلغي الصلة بين التعبير الشعري في الواقع ويقف حجر عثرة بين الشاعر والمتلقي.

ولعل القطيعة بين الشاعر المعاصر وتراثه الأدبي ثم بينه وبين متلقي شعره هي السبب الأول في أزمة الشعر التي يكثر عنها الحديث اليوم, غير أن تلك الأزمة لا تبرر المقولة التي تنادي أنه لا مكان للشعر في مجتمع اليوم, فمازال في الساحة من يواصل المسيرة الشعرية الحقّة, وسيظل الشعر معبرا عن آمال أمتنا العربية وآلامها وهمومها وهواجسها لأنه ديوان العرب.. بل إنه هو الديوانية

 

صلاح عبدالستار الشهاوي