العرب وحرية التعبير.. وجع التنفس في كيس مغلق...! سليمان إبراهيم العسكري

العرب وحرية التعبير.. وجع التنفس في كيس مغلق...!

تمثل حرية التعبير حقًا من الحقوق الأساسية للإنسان, وبالرغم من ذلك, فإن هذا الحق الإنساني شابته كثرة من الإعاقات والموانع في عالمنا العربي, ولعل الإقرار العام بهذه الحقيقة هو الذي حتّم على النخب العربية المثقفة, في أكثر من موقع إعلامي وثقافي أن تفتح هذا الملف. ولقد كان المؤتمر الدولي الذي عُقد لهذا الهدف في الخريف الماضي, واستضافته مكتبة الإسكندرية أحد نماذج الاستجابة الضرورية - ثقافيا على الأقل - لمناقشة هذا الحق الجوهري من حقوق الإنسان.

  • أوجاع حرية التعبير العربية حولت المؤتمر العالمي إلى محفل عربي للصراخ المشروع
  • فتح ملف حرية التعبير يعكس شعوراً متزايدًا لدى النخب العربية بأن الأمور ينبغي ألا تظل على ما هي عليه
  • تقييد حرية التعبير بأساليب معطلة يجعل الناس وكأنهم يتنفسون في كيس مغلق ويوشكون على الاختناق بزفيرهم!
  • هل تمثل قوانين حقوق الملكية الفكرية حرمانًا للدول الفقيرة من توسيع مجالها المعرفي وإعاقة لحريات التعبير بها?!

في الفترة من 18 إلى 20 سبتمبر الماضي, شاركت, بدعوة من مكتبة الإسكندرية, في فعاليات مؤتمر عن (حرية التعبير والرقابة على الإبداع), ولقد أراد القائمون على أمر المؤتمر أن يكون عالميًا, لكن أوجاع حرية التعبير في العالم العربي حوّلت هذا المؤتمر إلى محفل عربي, بالرغم من وجود متحدثين ومشاركة في التمويل من غير العرب, وليس هذا التغيير مما يمكن الاحتجاج عليه, بل هو مما يجب التماس العذر له, فأوجاع حرية التعبير في أرجاء عالمنا العربي فاقت حدّ الاحتمال, فلم يمكنهم منع إطلاق صرخاتهم الخاصة, القطرية منها والقومية, حال أتيح لهم فضاء مناسب للتعبير عمّا يتألمون منه, وكانت الإتاحة متسعة لأبعد مدى.

هذا الانعطاف من العام إلى الخاص لم يمنع المؤتمر - في رأيي - من أن يظل به الكثير من التأصيل للموضوع الشائك والمركب, والعناصر المشتركة بين الناس أجمعين, وهما - التأصيل والعناصر المشتركة - مما ينبغي الرجوع إليه, خاصة أن الموضوع ينبغي أن نوليه نظرة خاصة من زاوية ثقافية, في مطبوعة كـ(العربي) تعنى عناية فائقة بالثقافة, وضمن رؤية نصرّ عليها مؤداها أن الارتقاء في أي من مناحي حياتنا, الاجتماعية منها أو السياسية والاقتصادية, لا يمكن الاضطلاع به إلا عبر معالجة ثقافية لجذور المنحى الذي تسير فيه.

لاشك في أن حرية الرأي والتعبير تلقى اهتمامًا واسعًا على المستويين العربي والعالمي, ويتضمن ذلك بداهة حق كل إنسان في اعتناق القيم والآراء التي ينتقيها أو يصل إليها باختياره وبحثه, دون أن يلقى أي نوع من الاضطهاد أو الإعاقة, مادام لا يتجاوز أو يعتدي بهذه الحرية على حقوق الآخرين. وحريته في التعبير عن هذه الآراء ينبغي أن تكون مكفولة بشتى الوسائل, إضافة إلى حريته في الحصول على المعلومات ونقلها إلى الآخرين.

إن هذا الحق البدهي من حقوق الإنسان, أشار إليه المؤتمر من زاوية قانونية, حين أوضح د. محمد نور فرحات أن (القيمة الفكرية الكبرى التي تحكم ضمير عالمنا اليوم هي قيمة حقوق الإنسان, وعن طريق مرجعية مبادئ حقوق الإنسان يكون الحكم على أي تشريع منظم لمهنة الصحافة وممارسة حرية الرأي والتعبير بالسلب والإيجاب).

هذا الرأي لأحد المراجع القانونية العربية هو مما تم تأصيله عالميا, فتبعًا للدستور الدولي لحرية الرأي والتعبير (المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, والمادة نفسها من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية), تنص المادتان على أنه (لكل إنسان الحق في اعتناق الآراء دون مضايقة, ولكل إنسان حق في حرية التعبير, ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأي وسيلة أخرى يختارها).

حقوق وحدود وصراعات

هذه الإشارة إلى الحق في حرية التعبير, تستدعي بداهة السؤال عن حدود ممارسة هذا الحق, ومن ثم تبرز مسئوليات محددة تستوجب إخضاع هذا الحق لعدد من القيود. وحتى لا تتحول هذه القيود إلى إجراءات تعسّفية تصادر حرية الرأي والتعبير من أساسها, تم وضع بعض الشروط التي تحدّ من جور هذه القيود, منها: (أن تكون هذه القيود مفروضة بقانون, أي بأداة تشريعية. ومن المفترض أن يكون البرلمان الذي يضع التشريع منتخبًا بطريقة ديمقراطية حرة, وممثلا للشعب تمثيلا حقيقيًا. وأن تكون هذه القيود لازمة لاحترام حقوق الآخرين وسمعتهم, ولحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة), وثمة حدود أخرى في المادة 20 من الإعلان عن حرية الرأي والتعبير تنص على أن (تُحظر بالقانون أي دعاية للحرب, وأي دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف).

من جانب آخر, هناك اتفاقيات دولية لحماية مصالح الدول من النشر المناوئ لها, كما هو الحال في الاتفاقية الخاصة بالحق الدولي للتصحيح, التي وافقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1952م, والتي تهدف إلى (مكافحة بث المعلومات الكاذبة أو المحرّفة التي من شأنها أن تلحق الأذى بالعلاقات الودية بين الدول. وأن تفادي نشر معلومات من هذا النوع أو التخفيف من أضرارها يتطلب قبل كل شيء تشجيع نشر المعلومات على نطاق واسع, وإذكاء حسّ المسئولية لدى أولئك الذين يحترفون نشر الأخبار).

وبالنسبة لحماية حقوق الأفراد, فإضافة إلى فرض قيود لحمايتها, أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة (ديسمبر 1990) إعلانا بالمبادئ التوجيهية (لتنظيم ملفات البيانات الشخصية المعدة بالحاسبات الإلكترونية), ونصت على ضرورة إدخال هذه المبادئ في التشريعات الوطنية. وهذه المبادئ هي: (مبدأ المشروعية والنزاهة في جمع البيانات, ومبدأ صحة البيانات ودقتها, ومبدأ تحديد ومشروعية الغاية من جمع البيانات, ومبدأ معرفة الأشخاص محل هذه البيانات, ومبدأ عدم التمييز بألا يؤدي تسجيل هذه البيانات إلى ممارسة التمييز, ومبدأ عدم جواز الاستثناء من بعض هذه المبادئ إلا بقانون ولاعتبارات الأمن والنظام والصحة العامة والأخلاق العامة والحفاظ على حقوق وحريات الآخرين, ومبدأ حماية البيانات وكفالة الأمن لها).

هذه الحدود المحيطة بحرية التعبير عن الرأي أصبحت من القضايا الملحة في التشريع الدولي والإقليمي والمحلي, في ظل الثورة المذهلة في صناعة الاتصالات, فالسرعة الهائلة لتدفق المعلومات في عصر السماوات المفتوحة لم تعد مقصورة في تأثيرها على الصحافة وحدها, بل تخطتها وتجاوزتها وامتدت لتشمل كل وسائل ووسائط الإعلام, المسموعة والمرئية, والمكتوبة, وأقول, المتخيلة, حيث تتميز ثورة الاتصالات من ناحية التقنية بخصائص ثلاث هي كما يلي: تلاشي المكان, واختزال الزمان, والاستعصاء على القيود الإدارية, (الأمر الذي يخرجها عن سيطرة الدولة الوطنية بكل أجهزتها التقليدية). كما يقول د. محمد نور فرحات. ولعل هذه الملاحظة عن تلاشي الحدود, هي مما يؤكد على أن قضية حرية التعبير لم يعد ممكنا اعتبارها شأنًا محليًا خاصًا, فهي قضية إنسانية عامة, منذ بدايتها التاريخية, وحتى المتغيرات الراهنة في العالم.

فحرية التعبير لها تاريخ طويل من الصراعات لا يقتصر على البلدان النامية المحرومة من الديمقراطية, حيث شهد تاريخ الدول الديمقراطية الليبرالية ذاتها أزمات وصراعات طويلة وواسعة كان ضحيتها حرية الرأي والتعبير. وهناك قائمة تتصدرها حربان عالميتان وظواهر لا تقل شذوذا ومفارقة مثل: النازية والفاشية والماكارثية, وقمع ثورات طلاب العالم في عام 1968. وقد وقعت في الدول الديمقراطية والليبرالية ذاتها.

ويضاف إلى ذلك كل التاريخ الاستعماري لهذه الدول ضد أغلبية العالم والحرب الباردة, بين المعسكرين الرأسمالي في الغرب والاشتراكي في الشرق, والتي لا تقل من حيث نتائجها الكارثية على حرية التعبير من الحربين العالميتين الأولى 1914, والثانية 1939 وما بعدهما. وهناك أيضًا قائمة أقل فجاجة تتصدّرها - على حد تعبير محمد حاكم - في مداخلته - (كل المنتجات الفكرية من الاستلاب السلعي والاغتراب الإنساني, ذي البعد الواحد والعنف الرمزي, ومجتمع الاستعراض, والمتلاعبين بالعقول, والمجتمع الاستهلاكي).

وبالرغم من أنه (في العصر الراهن تبنّت المنظمات الدولية والعالمية وأنتجت معظم الخطاب الجاري عن حرية التعبير, وقدمت كل الدعم, بالدعاية والمساندة المالية للحكومات ولمنظمات المجتمع المدني خاصة. ورغم ذلك ظلت محبوسة - بفعل شلل فاعليتها السياسية - داخل لغة دبلوماسية وحقوقية مهذبة تأخذ شكل دعوات وإعلانات ومبادئ ومواثيق تليق بالاتفاق حولها من دول ذات سيادة قومية, وأبعد ما تكون عن تأسيس حقل نظري لحرية التعبير يحدد بنية الصراعات والفاعلين, وبالتالي تنتج مفاهيم بديلة قادرة على تحليل وتغيير الواقع بدل الدعوة إلى ترشيده وإصلاحه على غرار النموذج السائد الذي لم يمنع أيا من جرائم النازية والفاشية والمكارثية).

لقد أوضحت السطور السابقة أمورًا تشير إلى موضوعية عالمية القضية, لكن هذه السطور أيضًا تنبّه إلى وجوب التناول النقدي لما يرد من خارج الحدود مطالبًا بتدعيم حرية التعبير, فتشابك المصالح وحيادية الأغراض والأهواء تحتّم ضرورة فرز ما فيه إعلاء شأن حرية التعبير كحق جوهري مسلّم به من حقوق الإنسان, عن ذلك الذي يتوخى الضغط السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي بذريعة هذه الحرية وتلك الحقوق, والأمثلة كثيرة في أوطاننا, حيث تخلط القوى العظمى ضغوطها باسم حرية التعبير, حرصًا منها على حقوق الإنسان العربي والمسلم, ضمن مصالحها الاقتصادية والسياسية, فنرى - في الوقت نفسه - ضغوطًا هنا ودعوات من أجل حقوق الإنسان وحريته في التعبير, وعبر الحدود تتجاهل تلك المبادئ وتتخلى عن تلك الضغوط والمطالبة, حيث مصالحها المباشرة مرتبطة بذلك الديكتاتور الذي تعمل على تلميعه وإعادة تجهيزه لطرحه مرة أخرى قائدًا للبناء والتنمية!

ولعل الاتفاق على المفاهيم يكون رادعًا استباقيًا لتدقيق الفرز بين المغرض, وذلك البريء من الغرض في المناداة الدولية بحرية التعبير وحقوق الإنسان. ولنعد إلى محاولة تحديد المفهوم, ومن واقع مؤتمرنا نفسه.

هناك الكثيرون ممن يستخدمون مصطلح (حرية التعبير) لكنهم لا يتفقون في الواقع على مفهوم موحّد لهذا المصطلح, وقد تتناقض المفاهيم في هذا المجال, وهناك ثلاث وجهات نظر حاول بلورتها المفكر المعني بقضية حقوق الإنسان (أندرو بوديفات), الأولى هي الفكرة الأنجلو - أمريكية التي ترى حرية التعبير شيئًا أساسيًا لتحقيق الذات, وشرطًا ضروريًا لتحقيق الوجود الإنساني, ويتمثل هذا في تراث (ملتون, ولوك, وميل) - فكرة الحرية. ويجد الرأي الثاني التعبير عنه في القانون الدولي لحقوق الإنسان الصادر في 1945م, ويقرر أن حرية التعبير حق أساسي في الديمقراطية, والذي لا يمكن أن تتعزز بغيابه شتى الحقوق والحريات الأخرى - مفهوم الديمقراطية, والمفهوم الثالث الشائع في العالم المتطور الحديث يتمثل في أن حرية التعبير هي أساس التقدم الاجتماعي والبيئي والتطوري.

في مواجهة هذه المفاهيم الثلاثة لحرية التعبير تأتي أهم التحديات من العولمة الحديثة (فقوة أجهزة الإعلام صارت تفرض إرادتها, دون استخدام للعنف المادي!, حيث أصبحت شركات الاتصالات الآن ضمن أضخم المؤسسات العالمية. فكيف يمكن للأعمال الضخمة التي تميل إلى الاحتكار من خلال التنافس الشديد والتي تبحث عن مصالحها الخاصة, أن تتفق مع طموحات أي وجهة نظر حول حرية التعبير?).

ويمثل (الالتقاء المتنامي في عالم الاتصالات بين الشبكات والأجهزة والصناعة ككل من ناحية, والتنظيمات, من ناحية أخرى تحديًا آخر يواجه حرية التعبير لم يبدأ وضعه في الاعتبار بشكل جاد حتى الآن, مثله مثل التحديات الجديدة في مجال حق النشر وحقوق الملكية الفكرية).

ومن التحديات التي تواجه حرية التعبير في المجال الإعلامي, وتنصبّ على الممارسة العربية في هذا الشأن, كانت هناك مداخلة جريئة ومتماسكة لصحفي لامع من المشاركين في الندوة والعاملين خارج الوطن, عن الحريات وأوهامها في الاعلام العربي المهاجر, أشارت إلى تحكم جهة التمويل المالي في سياسة النشر فقد (أوحت الصحف العربية المهاجرة ومعها الفضائيات العربية منذ ظهورها في التسعينيات, أنها مع التغيير والتعددية وحرية التعبير, لكن الذي حصل أن الجهات التي تنفق على هذه الفضائيات, إما مباشرة أو عبر أشخاص موثوقين, ازدادت قوة ولم يظهر ما يهددها من تلك الحريات الوافدة. طبيعة وتأثير هذه الحريات المزعومة).

إن الاختلاف الراهن حول حرية الرأي والتعبير والاختلاف بين الشعار والواقع أفرز تعددًا للنشطاء الذين تنوعت مشاربهم ومراميهم, مما أفرز التكاثر الخطابي حول حرية التعبير, من الإدارة الأمريكية إلى المجتمع المدني المحلي مرورًا بالمؤسسات العالمية والدول القومية وبعض قوى المجتمعات السياسية المحلية. (ولم ينتج عن هذا التكاثر الخطابي تعدد ولا تنوع - كما يرى محمد حاكم - في فهم طبيعة حرية التعبير ولا في تحديد مجالها ولا في كيفية تحقيقها, فقد ظلت الرؤية السائدة أن حرية التعبير شعار سياسي مقبول من الجميع وقاعدة قانونية معترف بها وحق إنساني غير مشكوك فيه إلا من حيث عدد الحقوق الفرعية الناتجة عنه, وليس هناك إلا طريقة واحدة لتحقيق حرية التعبير وهي تفعيل الدولة للقوانين المتعلقة بهذا الحق والموجودة سلفا في نظامها القانوني المحلي الذي يضم المعاهدات الدولية التي صدّقت عليها, وتنقية تشريعاتها من كل ما يتعارض مع هذا الحق واحترام السلطة التنفيذية لهذه القوانين والتشريعات واللوائح).

شجون عربية

إذا نظرنا إلى حماية حرية الرأي والتعبير في الدول العربية فسنجد ـ بالتدقيق القانوني لمحمد نور فرحات ـ أن كل الدساتير العربية قد أقرت في بنودها إشارات مختلفة إلى حق الرأي والتعبير وأقرت تلك النصوص دستورية هذه الحقوق وأناطت بالقوانين العادية كفالة رعايتها وتنظيمها.كما أن عددا من الدساتير العربية أفردت نصوصًا لحرية الصحافة باعتبارها فرعًا لحرية الرأي والتعبير.. (على أنه من الملاحظ أن عددًا من الدساتير العربية الأخرى تحمل في نصوصها تعارضًا مع المبادئ الدولية لحقوق الإنسان عن طريق تبني صياغات ذات طبيعة أيديولوجية أو دينية تصادر الحقوق والحريات العامة أو تسمح بمصادرتها,الأمر الذي لابد وأن ينعكس بالسلب على ممارسة حرية الرأي والتعبير). وعلى الرغم من نص العديد من الدساتير العربية على تأمين حرية الرأي والتعبير فإن هذه الحرية تتعرض لانتهاكات متعددة الجوانب هي معروفة وشائعة لدرجة تسمح لنا بالمرور عليها دون أن نخفيها ودون أن نقع في فخ التربصات بحرية التعبير في عالمنا العربي, الغارق في زمن ما قبل دساتير حقوق الإنسان!

وحتى لا نكون كمن يكتفي بالنظر إلى نصف الكوب الفارغ, نقول مع القائلين إنه لا يمكن إنكار أن (الواقع العربي يشهد اتساعًا متزايدًا لممارسة حرية الرأي والتعبير سواء بواسطة الصحافة أو بغير ذلك, وهذا لا ينفي وجود خطوط حمراء لا يستطيع المواطن العربي الاقتراب منها عند ممارسته لحريته. ويبدو الأمر متفاوتا من بلد عربي إلى آخر في قدر حرية التعبير المتاح. ومن المفهوم أن وجود تشريع مضيق على الحرية في ظل واقع تتسع فيه ممارسة الحرية أمر يراد به أن تظل عصا التشريع مشهرة في وجه من يجرؤ على الاقتراب من ممارسة حريته من مناطق لا يجوز الاقتراب منها)!

لقد تناول مؤتمرنا - في سياق موضوعه - قضية الرقابة على البحث والمطبوعات والفن والإبداع والمصنفات الفنية, تلك الرقابة التي قد تلجأ إلى منع النشر تحت شعار(حماية المجتمع من الآراء الهدامة) من وجهة نظر القائمين على الرقابة بالطبع!

والرقابة في تعريفها البسيط الذي يحدده د.محمود محمد علي, تعني عملية حذف أو تحديد ومنع وصول مضمون أي رسالة عبر رسائل التعبير والاتصال. أي وجود (حارس بين المرسل والمتلقي.. المبدع وجمهوره.. سواء كان التعبير بالكلمة أو بالصورة أو التمثيل.. إلخ, هذا الحارس أو الرقيب يمنحه القانون سلطة الإباحة والحذف والمنع). وأحيانا حرية تكفير المبدع! وربما جمهوره المتلقي أيضا!

واتخاذ موقف معارض للرقابة ينبع من التمسك بحق الإنسان في حرية التعبير عن الرأي وحرية التفكير, وحقه في الحصول على المعلومات بحرية. ولعل الحلول الواقعية لهذا الاشتباك, كما قال (بول ستورجيس), يتمثل في علاج الممارسات المتشددة للرقابة عن طريق (تشجيع الشفافية, أو الانفتاح في الحياة العامة. ولتوافر الشفافية لابد من وجود كثير من العناصر مثل حكومة متفتحة, مع توافر المنابر الرسمية, والمؤسسات التي يمكن للأفراد الاطلاع على أنشطتها وقوانين تنظم حرية الحصول على المعلومات, وحماية حرية الصحافة, والنشر دون إعاقة).

ولعل الأمر الأخطر في مسألة الرقابة هو الرقابة الداخلية التي تحدث عنها أحد الناشرين بالقول (أمام بعض الممارسات الرقابية المتشددة يصبح في داخل كل منا رقيب يقيِّم حساباته بما يتناغم مع عقلية (الرقيب الأعلى) حتى يتاح لكتبه أو منشوراته أن تصل إلى أيدي قراء بات عددهم يتراجع إلى حد قيل فيه الكثير). وهذه الرقابة على الجميع من شأنها أن تعيد إنتاج ذاتها وتدمر آليات الابتكار لدى الأفراد وفي المجتمع, حتى في أمور عملية وتقنية أبعد ما تكون عن الإبداع الأدبي والفني, والمثال الواضح في ذلك هو صناعة البرمجيات التي تتطلب مبرمجين غير مقيدي الخيال.

لاشك في أن وجود جهة تراقب حدود الحرية بما لا يضر الأفراد ولا المجتمع هو أمر واقعي على الأقل خلال فترة الانتقائية من الانغلاق والكبت إلى الانفتاح وحرية التعبير, لكن لابد أن يكون منع النشر عن طريق الرقابة أمرًا تحكمه قوانين واضحة يتفق عليها الجميع, وأن تكون مؤسسة على منطق قانوني يحمي حقوق الإنسان, لا منطق سياسي يكرس هذه القوانين لمصلحة فئة أو مجموعة نفوذ.

رقابة في ثوب الحماية

ولعل الجديد حقا في مؤتمرنا هذا, والذي يكتسب طابعًا غير محلي في تطبيقاته هو موضوع حماية الملكية الفكرية الذي ناقشه القانونيون في المؤتمر بأفق عام, لكنه يعبر عن مخاوف جزء من العالم, هو العالم الثالث أوالنامي, فحماية الملكية الفردية وما ينتج عنها من حقوق مادية ومعنوية تمثل حماية للتعبير بعد أن يكون قد أخذ شكلا إبداعيا مبتكرا, ولكن تطبيق هذه الحماية على المستوى العالمي قد يجور على حقوق البلدان النامية في الحصول على المعلومات والعلوم المعاصرة مجانًا أو على الأقل بأسعار تتناسب مع قدرات شعوب هذه البلدان الفقيرة. ومن جانب آخر, فإن حماية الملكية الفكرية لا تنظر إلى حق الشخص في التعبير عن رأيه دون قيود, لكنها (تهتم في المقام الأول والأخير بحق الشخص فيما يعود عليه تعبيره من نفع معنوي ومادي).

لقد (تتابعت الاتفاقيات الدولية المنظمة لحق المؤلف وحقوق الملكية الذهنية بدءا من اتفاق برن لحماية الأعمال الأدبية والفنية, وصولا إلى اتفاقية جنيف لحق المؤلف والاتفاقيات الأخرى التي تحمي مختلف صور الإنتاج المعنوي حتى اتفاقية التربس إحدى اتفاقيات الجات, إلى أن تبلورت منظومة متكاملة معياريًا ومؤسسيًا لحماية الملكية الفردية على المستويات الدولية والوطنية).

ويتابع محمد نور فرحات القول (والحجة التقليدية التي تتردد لتبرير حماية الملكية الفكرية من منظور تطوير المعرفة, أن من شأن هذه الحماية أن تحفز الأفراد في المجتمعات النامية والمتقدمة على السواء على الإبداع والتأليف والاختراع مادام إنتاجهم الذهني يحظى بحماية قانونية مناسبة, والحجة المعارضة ترى أن الإفراط في حماية الملكية الفكرية في الوقت الذي ينقسم فيه العالم إلى عالم متقدم منتج للمعرفة وعالم نام مستهلك لها,من شأنه أن يضع قيودًا أمام العالم النامي في الاستفادة من التقدم العلمي والتكنولوجي بكل تجلياته,وأن يفرض أعباء اقتصادية على الدول النامية في مجال نقل التكنولوجيا, خاصة تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية. وهذه الحجة يعبر عنها دائما في المحافل الدولية ممثلو دول العالم الثالث وتجد أصداءها تتردد في أغلب الاجتماعات الدولية حول الملكية الفكرية خاصة تلك التي تعقدها المنظمة العالمية للملكية الفكرية WIPO ومنظمةالتجارة العالمية WTO, التي يجتمع فيها ممثلو دول العالم النامي مع ممثلي الدول الصناعية الكبري. وقد وجدت جولة مفاوضات أورجواي حلا توفيقيا في هذا الصدد بين مصلحة الدول النامية ومصلحة الدول المتقدمة, بأن شرعت لحماية ما يعرف الآن بحقوق الملكية الفكرية الجماعية. وتتمثل في ملكية المجتمعات للمعارف التقليدية والفلكلور وللمؤشرات الجغرافية (أي نسبة منتجات معينة اشتهرت بها مناطق جغرافية معينة), وذلك لإقامة التوازن بين ما تملكه الدول النامية من موروث تقليدي وما تملكه الدول المتقدمة من براءات للاختراع وبرامج للحاسب الآلي ومصنفات تحتوي على العلوم والفنون المتقدمة.

وحتى هذا التوازن هو توازن مختل لمصلحة حقوق الملكية الفكرية الضرورية التي تتفوق فيها الدول المتقدمة, نظرًا لأن الحقوق الجماعية الممنوحة للدول النامية على التراث وغيره من حقوق هي غير محددة وغير واضحة وتفتقر إلى آليات للحماية).

وماذا بعد?

لا شك في أن مؤتمر مكتبة الإسكندرية لحرية التعبير كان فرصة لفتح ملف من أهم ملفات حقوق الإنسان شأنًا, في العالم عمومًا, وفي العالم العربي على وجه التحديد. وقد تكون بعض الصرخات التي تصاعدت في قاعاته حادة بدرجة أو بأخرى, لكنه قطعا كان فرصة للتنفس والإعلان عن الوجع والألم لدى كثير من المشاركين فيه من أغلب الأقطار العربية. ولقد جاء في مداخلة مفكر من الجزائر أن منع الإنسان بشكل مباشر من التنفس بحرية هو جريمة قتل عمد, ويجب أن يطبق هذا المنطق على منع المواطن من حرية التعبير, وليس هذا فقط, بل أيضا منعه من الحصول على المعلومات التي يحتاج إليها لصياغة رأيه المتزن والموضوعي, للتعبير عنه بالأسلوب السلمي الحضاري. إضافة إلى ذلك فثمة دور منوط بالمجتمع تجاه هذه الحرية, وهو حماية الفرد عند ممارسة حرية التعبير, وإعداد المناخ الذي يمكِّنه من الوصول إلى الآراء السلمية دون تضييق (يصل به إلى وضعية الذي يتنفس في كيس مغلق, ليختنق بزفيره)!

إنها صورة بلاغية مؤثرة,وواقعية في أحيان كثيرة. لكنه واقعي أيضا أن تنادي بضرورة الانطلاق من الممكن, وبخطى محسوبة, نحو المراد والمأمول, حتى لا تتحول حرية التعبير إلى فوضى, وحتى لا يجد المعادون لهذه الحرية ذرائع لخنق ما يتاح من أنفاسها.

ولعل أفضل ما تمخض عن هذا المؤتمر من اقتراحات, للفعل بعد الكلام, هو اقتراح (إقامة موقع على شبكة الإنترنت) يرصد وقائع انتهاكات ومصادرات حرية التعبير في كل البلاد العربية, لتكوين رأي عام عربي يلم بواقع هذه الحرية ويذود عنها. وقد يكون هذا المرصد الرقمي ثقبًا في الكيس المغلق الذي تنفس منه الكثيرون في عالمنا العربي, يوصل الأنفاس بهواء الدنيا المفتوحة.

 

سليمان إبراهيم العسكري