جمال الغيطاني في: المجالس المحفوظية

جمال الغيطاني في: المجالس المحفوظية

في الحادي عشر من هذا الشهر - ديسمبر - يكمل نجيب محفوظ عامه الحادي والتسعين, يوغل في عمر جليل, أنجز خلاله المجرى الأعمق والأطول والأبكر للرواية العربية, وأنجز بموازاة ذلك مجرى من الرقي الإنساني عملا وسلوكا.

وفي هذا الملف الخاص الذي تقدمه (العربي) بقلم كاتب مرموق وصديق حميم لنجيب محفوظ, ويتألف من رؤية واسعة ونثار من المشاهد الحية, تهدي (العربي) قراءها الوثيقة الأحدث عن نجيب محفوظ - نصا وصورة - وتزجي التهنئة لكاتبنا الكبير الجليل, متمنية له مزيدا من عمر العطاء الإبداعي والإنساني, ومزيدا من عطر وجوده الأنيس بيننا.

يمكن اعتبار عام أربعة وتسعين من القرن الماضي, علامة فارقة في حياة نجيب محفوظ, وفي علاقتنا به, ليس في مضمونها, ولكن في شكلها, والظروف المحيطة بها, لا أعتبر عام ثمانية وثمانين مماثلا. أعني السنة التي حصل فيها على نوبل. عندما أعلنت الجائزة يوم الخميس, ذهبت إلى البيت, كان عدد كبير من الصحفيين المصريين والعرب والأجانب أمام البيت الذي يقع في الطابق الأول من بيت يطل على النيل الصغير. الفرع الأضيق ناحية الجيزة, بعد لقائي بالسيدة زوجته التي كانت تواجه وضعا لم تعتده في حياتها التي كانت تمضي في هدوء, بعيدا عن الأضواء, وكان تردد المقرّبين جدا على البيت الصغير الذي تقيم فيه الأسرة منذ الخمسينيات, شقة صغيرة, اختير أثاثها بذوق رفيع, لم يتح لي دخولها قبل يوم نوبل إلا مرة واحدة عدت فيها الأستاذ أثناء مرض عابر منذ سنوات, كانت المقاهي أماكن لقائنا منذ أن بدأت علاقتنا عام تسعة وخمسين, في ذلك اليوم. بعد ظهر الخميس الأكتوبري, كان الجميع يتساءلون عن المكان الذي قصده الأستاذ, لم أكلف نفسي عناء السؤال, خرجت من البيت قاصداً كازينو قصر النيل, وهناك رأيته, أقبلت عليه مهنئا, مرحّبا, كان يجلس مع صحبه من الحرافيش القدامى, عادل كامل صديق عمره, والذي بدأ مسيرته الروائية معه في المرحلة نفسها وقدم إلى المكتبة العربية عملاً جميلاً (مليم الأكبر) ومسرحية (جلفدان هانم), ثم توقف عن الكتابة واتجه إلى عالم التجارة, أيضا الفنان أحمد مظهر - رحمه الله - والمخرج توفيق صالح, الثلاثة من أعضاء جماعة الحرافيش القدامى.

يوم الخميس كان مخصصا في الأصل للقاءين, الأول في مقهى عرابي بالعباسية مع أصدقاء الطفولة والشباب. في نهاية السبعينيات أغلق المقهى وتم تقسيمه إلى متاجر, في الوقت نفسه كان معظم أفراد شلة العباسية قد توالى رحيلهم, ومن امتد به الأجل حتى الآن لم يعد يخرج من بيته لمرض أو شيخوخة, مع بداية الثمانينيات توقف الأستاذ عن الذهاب إلى مقهى عرابي بعد اختفاء المقهى نفسه, منذ أن سمح لي بالتردد على المقهى في منتصف الستينيات, كان يمضي فيه ساعتين بالضبط, من السادسة إلى الثامنة, وعندما يحين وقت انصرافه, يمضي سيرا على قدميه إلى كبابجي شهير قريب من ميدان الجيش, يكون الكيلو في انتظاره ملفوفا, ومن حلواني قريب يأخذ كيلو البسبوسة, يستقل عربة أجرة إلى الهرم حيث منزل الكاتب الساخر محمد عفيفي - رحمه الله - ومقر لقاء الحرافيش لأكثر من ثلاثة عقود, الطريف أن الأستاذ توقف عن إحضار الحلوى بعد اكتشافه إصابته بالسكر في بداية الستينيات.

يوم الجمعة تنقل اللقاء بين أكثر من مكان, واستقر حتى السبعينيات في مقهى ريش ثم انتقل إلى كازينو قصر النيل, السبت للأسرة, والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء للكتابة, في شهور الصيف كان الثلاثاء موعدا خاصا للقائه في مقهى الفيشاوي, موعدا لا يحضره إلا يوسف القعيد وكاتب هذه السطور. خلال الصيف يتوقف عن الكتابة, والسبب المعلن حساسية في العينين تبدأ مع الربيع. من الصيف كان يقضي شهرا في الاسكندرية, وهناك كان له ندوته, هو أيضا المركز, ويتحلق حوله أدباء الثغر والمصطافون, يأتي مَن يأتي ويجيء مَن يجيء, لكن يظل هو في الصدارة, في صدارة المقهى. توقف عن الذهاب إلى الإسكندرية منذ بداية التسعينيات, عندما ضمر البصر, وبعد إجراء العملية الجراحية في لندن.

اليوم الخطير

حتى عام أربعة وتسعين, حتى يوم الجمعة هذا, كان الأستاذ يمضي طبقا لنظامه المحفوظي الصارم الذي التزمه, لم يتغير, وإذا تغير موقع, أو مكان لقاء, فإنما يحدث ذلك لتغير في الظروف والواقع, إلى أن حل ذلك اليوم الخطير, الذي وضع حدا لكل ما اعتاده الأستاذ, لسعيه بين الناس, لخروجه اليومي في الصباح الباكر, وسيره حتى مقهى في ميدان التحرير, مشيه الجميل الذي أتاح لي فرصة مصاحبته اليومية في الستينيات, عندما كنت أعمل في مؤسسة مقرها الدقي, وكنت ألتقيه فوق كوبري الجلاء وأمشي بصحبته حتى كوبري قصر النيل, عاش الأستاذ بين الناس, يسعى بينهم, ويبادلهم الحب ويبادلونه, وعندما شنت ضده الحملات الصحفية التي مهدت المناخ ليوم الجمعة هذا, وظهرت ضده كتب ألفها فقهاء الظلام ضد (أولاد حارتنا). رفض الحراسة, وقتها قال لي إنه لا يتخيل نفسه ماشيا في الشارع ومعه حارس, كان لديه إيمان عميق ويقين داخلي أن أذى لن يلحقه, مرة أومأ برأسه قال لي: الأعمار بيد الله.

غير أنني كنت أتوجس خيفة, نتيجة تجاربي السابقة خلال الستينيات, والمطاردة, وتوقع الاعتقال, إذ أنني أنتمي إلى جيل فتح عينيه على الرعب, وانخرط في العمل السري ضد الأوضاع التي رآها كثيرون منا خاطئة, نتج عن ذلك إحساس أمني حاد, استقرت لقاءاتنا منذ بداية التسعينيات على الثلاثاء, وعندما أصبحت رئيسا لتحرير أخبار الأدب, وأصبحت لي سيارة خاصة من دار أخبار اليوم يقودها زميل من السائقين, توليت مهمة صحبته من البيت.

في السادسة إلا خمس دقائق أنتظر, في السادسة تماما يخرج من باب العمارة, أتقدم إليه, أصحبه حتى يصل إلى العربة, أفتح الباب, يفضل الجلوس في المقعد الأمامي إلى جوار السائق, ثم ننطلق إلى المكان الذي اعتدنا اللقاء فيه, والذي استقر خلال التسعينيات في مركب راسٍ, على شاطئ النيل, اسمه (فرح بوت) ومازال.

رغم أنني غير مسلح, ولو أنني مسلح فلا أجيد استخدام السلاح, فإنني كنت عند وصولي أمام البيت أمسح المكان ببصري, أتصور هجوما ما, إن انتظامه الشديد يسهل على من يرصده توقيت الهجوم, كنت أتوقع ذلك, أستشعره مع تصاعد أعمال العنف في المجتمع من الجماعات المتطرفة التي ضلت طريقها عن أهدافها الحقيقية لأسباب يطول شرحها.

بعد نشر صورة الشاب الذي غرس السكين في عنق الأستاذ عصر يوم الجمعة هذا, تذكرته, في مرة كنت أنتظر الأستاذ, كان الجو حارا, لفت نظري شاب يرتدي الجينز, يجلس تحت الشرفة المغطاة حيث يعيش الأستاذ في الطابق الأرضي, شرفة بعرض الشقة, زجاجها سميك, مسور بقضبان مزخرفة, وأضافت السيدة عطية الله رفيقة عمر الأستاذ نباتات شكلت حديقة صغيرة مبهجة تغطي الطابق كله.

تطلعت إلى الشاب الذي بادلني النظر الحاد, ثم تشاغل بتقطيع ورق كان يحمله إلى قطع صغيرة, لم يبد رد فعل, بل استمر قابعا مكانه, فكرت... ربما يستظل من الحر, لكن صورته قفزت إلى ذهني بعد أسابيع عندما نشرت, إنه الشاب نفسه الذي تقدم من الأستاذ عصر ذلك اليوم (الجمعة) ليصافحه بيد وليغرس بيده الأخرى سكينا قديمة مقبضها مخلوع ومربوط بخيط دوبارة متين, طعنة وضعت حدا لحقبتين متمايزتين, مختلفتين تماما, الثانية منهما مستمرة حتى الآن.

عصر بأكمله

أعود إلى أوراقي الخاصة التي دوّنت فيها وقائع تلك الأيام من سنة أربع وتسعين, بالتحديد الجمعة, الخامس عشر من أكتوبر, في هذا اليوم كنت ألتمس الراحة عقب عودتي أمس الخميس من رحلة إلى المغرب, كنت أرتب مكتبي الذي تغيّبت عنه وأستمع إلى بعض التسجيلات الموسيقية الأندلسية التي اقتنيتها من مدينة فاس العتيقة, رن جرس الهاتف, جاءني صوت الزميل والصديق مصطفى بكري: (هل علمت أنهم ضربوا نجيب محفوظ... أرجوك تأكد من هذه الأخبار...).

أجبت بالنفي, طلبت منه أن يتصل بي بعد قليل, فوجئت, جمدت للحظة, لحظة كنت أتوقعها وأتمنى ألا تحل, يبدو أنني في مواجهتها الآن, ثمة ثوان قبل أن تبلغ الضربة مراكز الألم في المخ, سيطرت عليّ هذه الحال بينما مثل أمامي الرجل الطيب, حضوره الأبوي, وصحبتي له, اتصلت بمنزله, أجابتني ابنته الصغرى, قلت بصوت محايد وكأنني لا أقصد أمراً محدداً وأقصد (خير... ما الأخبار?).

أجابتني بألم وخشية من المجهول. (لا أعرف ما يجري الآن, بابا في غرفة العمليات, والنبي ادع له يا عمو...).

ثم قالت: (ماما وأختي عنده... هنا في مستشفى الشرطة جنبنا...).

نطقت جملا قصيرة استهدفت منها بث الطمأنينة, دعوت له بالنجاة, بدأت أتصرّف, اتصلت بزملائي في مركز تحرير جريدة أخبار اليوم, كنت أول من ينبئهم بالخبر. اتصلت بصديقي يوسف القعيد, كان في منزله. قال إن أحد أصدقائه اتصل به مستفسرا. اتصلت بالصديق عماد العبودي المهندس ورجل الأعمال, كانت جلسة الثلاثاء محدودة وقتئذ, وكان عماد أحد أركانها, قال إنه سيمر على يوسف ويمران عليّ ثم نتجه إلى المستشفى, نزلت إلى الطريق, كنت في مواجهة الليل والخوف مما يجري, ونشطت الذاكرة لتمطرني بدفق من اللحظات المولية, هذه حال أعرفها عندما يهددنا الواقع بفقد صديق, تبرق لحظات أعرفها, لحظات سمعت عنها.

انتظاري كل ثلاثاء أمام البيت, ما حدث اليوم والدكتور فتحي إلى جواره كان ممكنا حدوثه معي, إصغائي إليه, اقترابي من أذنه اليسرى التي مازالت حاسّة السمع فيها قوية بمساعدة السماعة, رفعي الصوت, لحظات صمته, شرود نظراته, سعيه في الطريق السادسة صباحا بجوار النيل الذي أحبه وأقام في عوامة فيه بعد زواجه لمدة سنة, ثم سكن على مقربة منه, محفوظ النيل ونيل محفوظ, شراؤه الصحف, استقراره في مقهى ريش, مقهى جروبي, مقهى علي بابا, في هذه المقاهي قرأ الصحف, كتب برقيات العزاء أو التهاني, دوّن بعض الملاحظات, أمسيات مقهى عرابي, رائحة التنباك المنبعثة من النرجيلة التي تعلمت تدخينها منه ثم توقفت عنها. ضحكاته المجلجلة مع صحبة أصدقاء الطفولة من شلة العباسية, سعينا في حواري الجمالية, احترامي لحظات صمته بمقاهيها العتيقة عندما يستعيد زمنه الخاص, لا أتكلم إذا تحدث هو, محبة الناس له, مشيه بينهم, يرد التحية لهذا, يصافح ذاك, لا يرد أي إنسان, صبر عجيب, تواضع جم, سماحة لم أعرف مثيلا لها, لحظة تناوله الطعام كل ثلاثاء بصحبتنا, طعام الزهاد, قطعة جبن أبيض, شريحة طماطم, قرص طعمية, فقط لا غير.

ما لم أعرفه معه صباه في بيت القاضي, شجر دقن الباشا, خناقات الفتوات, حُب الحسين, لعبه في قبو قرمز, الثورة عام 1919, الثلاثينيات, العصر الذهبي للقاهرة, الحرب العالمية الثانية, المخابئ, انتهاء عصر الفتوات, الغداء في العجاتي) الدهان, الكباب, الكفتة, السهر في (توفا بيان, مقهى زقاق المدق, وزارة الأوقاف, فترة العمل في قبة الغوري, الثورة.

نجيب محفوظ, إنه عصر بأكمله من تاريخ مصر مختزل في إنسان, عاش المجتمع المصري وعبر عنه طيلة سبعين عاما من الكتابة المتصلة وهذه حال فريدة في تاريخ الأدب والأدباء, كدت في ذلك اليوم, القصي البعيد الآن وقد أدركت هول ما جرى وبدأت أستوعب, أن أولول وأصرخ باكيا. (يا أستاذي... يا حبيبي).

وحش من نار

عندما وصلنا إلى المستشفى الذي يقع بجوار البيت, على بعد ثلاثين مترا تقريبا, وهذا من لطف التدبير الإلهي وعنايته, كان قد مضى على تسديد الطعنة حوالي ساعتين, دخلنا إلى قاعة الانتظار القريبة من غرفة العمليات, كان - المرحوم - ثروت أباظة ينهنه كطفل, راح يردد: (نجيب... نجيب... معقول أن يؤذيه أحد... أن يمسّه أحد...).

نرجوه الهدوء ونحن في حاجة إلى مَن يهدئنا, هناك في الطابق الثاني يرقد الأستاذ ممددا فوق طاولة العمليات, فريق من الجراحين المهرة يقودهم أهم جراح أوعية دموية في مصر, الدكتور أحمد سامح همام. مرة أخرى أوقن تدخل العناية الإلهية.

المرة الأولى, لأن المسئول عن صحبة الأستاذ اليوم الدكتور فتحي هاشم, وهو طبيب بيطري لكنه طبيب أولا وأخيرا, عندما ركب الأستاذ السيارة واستقر إلى جواره, تقدم ذلك الشاب منه, صافحه, ثم دفع بمطواة قرن غزال في رقبة الأستاذ وبدأ محاولة الذبح, كان يستهدف قطع الشريان البائي الرئيسي الموصل للدم إلى الدماغ والمخ, كما قال لنا فيما بعد: (بعد أن صافحني شعرت بوحش من نار يطبق على رقبتي...).

ما أنقذ نجيب محفوظ شيخوخته, انحناؤه إلى الأمام بسبب السن, مرت المطواة بسبب ذلك قرب الشريان الرئيــــــسي, في هذه اللحــــظة عنـــدما بدأ اهتــــزاز الـــعربة انتـــــبه الدكـــتور فتحي هاشــــم إلى ما يجــــري. صـــرخ: (بتــــعمل إيه يا مجــــنون...?).

قفز من السيارة, هنا ألقى الشاب بالمطواة, وبدأ الجري, تعقبه فتحي لكنه آثر العودة إلى الأستاذ المصاب, كان الدم يتدفق كنافورة, بسرعة جلس مكانه, ضغط الجرح بيد, وبيد واحدة قاد العربة الصغيرة إلى الخلف قاصدا المستشفى, قطع الأمتار القليلة الفاصلة وعندما وصل إلى البوابة الرئيسية هرع إلى الباب صارخا: (افتحوا... الأستاذ نجيب محفوظ حاولوا....).

بسرعة فتح الباب, حتى هذه اللحظة كان الأستاذ واعيا, أنزلوه إلى نقالة متحركة, قبل أن يغيب وعيه, قال: (خذوا بالكم أنا عندي سكر...).

الحق أن التصرف جرى على أرفع مستوى, بعد تقرير سريع للموقف, اتصلت إدارة المستشفى بالدكتور أحمد سامح همام, وهنا يتدخل القدر, لم يكن المحمول معروفا في مصر وقتئذ, جرى الاتصال في وقت كان فيه الجراح الشهير يقف أمام المصعد في الطابق الذي يسكنه متأهبا للمغادرة إلى دعوة عشاء, لحقوا به قبل ركوب المصعد, لبى على الفور, لم يستغرق وصوله إلا مسافة الطريق, ودخل إلى غرفة العمليات, وصل اللواء حسن الألفي وزير الداخلية وقتئذ, والدكتور علي عبدالفتاح وزير الصحة وقتئذ, والدكتور ممدوح البلتاجي وزير السياحة وعدد من كبار المسئولين بمباحث أمن الدولة, مازلت أذكر الأنباء التي كانت تصلنا من غرفة العمليات. (تم إيقاف النزيف... كان الدم يتدفق مثل النافورة...). (تم نقل ثمانية لترات من الدم... أربعة عشر كيسا).

أمام المستشفى, جرى تجمع من مثقفين وناس عاديين توافدوا إليه بعد سريان الخبر, وتطوع كثيرون بدمهم لإنقاذ الأستاذ, بعد أربع ساعات جاءنا النبأ: (نجحت العملية.. ويجري نقل الأستاذ إلى غرفة الرعاية المركزة...).

بعد منتصف الليل, مشينا في طرقات المستشفى الذي عرف الهدوء بعد الساعات العصيبة, كنا أربعة, يوسف القعيد وعماد العبودي وممدوح الليثي وأنا, قطعنا الممرات الطويلة, لم نكن نعرف وجهتنا على وجه الدقة, أخيراً وصلنا إلى غرفة الرعاية المركزة التي يرقد فيها أكثر من مريض. كان نائما على ظهره, لأول مرة في حياتي أراه دون نظارة طبية, بدا منفعلا, صوته به رعشة وحشرجة, كان يصافح باليسرى, استعدت ما قاله الدكتور سامح همام عن تأثر العصب الواصل إلى اليد اليمنى, قال إنه اطمأن عندما رأي الأستاذ يحرك أطرافه, لكن الأمر سيحتاج إلى وقت.

سنوات أربع

أعود إلى أوراقي التي كتبتها في الأسبوع التالي فأجد ما نصّه:

(اليوم صباح الأربعاء... أفكر في هذه اليمنى, في بطء حركتها, تلك اليد التي حفرت نهراً للإبداع العربي, اليد التي كتبت الثلاثية والحرافيش وأولاد حارتنا, أتأمل لون الجلد الغامق الذي لم أعرفه في اليد التي قبلتها مرارا, أفكر في رقاده, في أيامه بعد الشفاء, أثق أنه سيتكيف مع الظروف الجديدة, تماما كما تكيف مع ظروفه بعد أن ثقل السمع وكل البصر, مع علمي أنه لا يغير عاداته إلا بصعوبة شديدة, أحلم الآن بتلك اللحظات التي أتعجّلها, عندما أصحبه كعادتنا ونجول خلال حواري القاهرة القديمة, نسعى خلال الزمن العتيق...).

لحظات عودته إلى الكتابة حلت بعد أربع سنوات من العلاج الطبيعي اليومي, عندما مال عليّ ليسر إليّ قائلا: (اليوم تمكنت من الكتابة دون أن أنزل عن السطر...).

خلال تلك السنوات الأربع التالية للحادث, رتب أوضاعه, ونتيجة إرادة داخلية قوية تكيف مع الظروف الجديدة, ليس نتيجة الحادث فقط, ولكن نتيجة التقدم في العمر والوهن, لقد نالت الشيخوخة من بصره فلم يعد يستطيع القراءة. عرضنا عليه المساعدة, لكنه لم يحملنا من أمرنا نصــــبا, رتب مع رجل طيب مجيئه اليومي إليه في الصباح ليقرأ له لمدة ساعة أهم الأخبار في صحف الصباح, القومية والمعارضة. أما اـلمقالات والنـــصوص الأدبــــية المهمة فيقرأها علـــيه الأصــدقاء في جلســاتنا الليلـــية والتي أصبح لها ترتيب خاص. بالنسبة لي اعتدت أن أقرأ له الشعر القديم والذي يحبه واعتاد أن يفتتح به القعدة (عشــان تحـــلو) أي قبل أن يكتب أو يقرأ. أقرأ له بصـــوت مرتفع ما أعجبني من شعر القدماء, وأفاجأ أحيانا به يكمل الأبيات من ذاكرته, وقد دوّنت كل القصائد التي اتضح لي أنه يحفظها واعتبرتها بمنزلة مختاراته.

ذاكرة مدهشة

أحيانا أقرأ عليه مقطوعات من النثر, ويلفت نظري ملامحه في أثناء تركيزه الاصغاء, وقد يعلق في نهاية النص برأي ثاقب, إذا كان الزمن قد نال من حاستي السمع والبصر, فإنه لم ينل من الذهن الذي مازال حادّا, نافذا, أما الذاكرة فمدهشة.

أحيانا يثير أحدنا موضوعا ما, ويطلب رأيه, فيجيب بكلمة أو كلمتين عابرتين. على سبيل المثال سألته عن رأيه في أحداث سبتمبر بعد عام تقريبا من وقوعها, فقال لي في البداية: (وهل يحتاج الأمر إلى رأي?).

ولما كررت عليه السؤال: قال: (انت شايف...).

سكت, انتقلنا إلى موضوعات أخرى وإذا به بعد حوالي نصف ساعة يميل إلى الأمام, يشير بأصبعه, هنا نصغي كلنا, ندرك أنه سينطق ما يهمنا, ما يعبر عن رأيه, يقول: (شوف. بالنسبة لسبتمبر, أظن أنه لم يقع حادث أضر بعلاقات الشرق والغرب مثل هذا الحادث. الذين ارتكبوه أساءوا إلى الإسلام أبلغ إساءة, وسبقته سلوكيات الطالبان التي أساءت أيضا للإسلام وصورته, إننا بحاجة إلى جهد كبير لنعود إلى الوضع السابق على سبتمبر), يصمت قليلا ثم يقول: (لا أظن أن الوضع سيعود كما كان... مازلنا في بداية مرحلة لم تتحدد معالمها ولا ندري نهاياتها...).

ملك القفشة

أحيانا تثار مناقشات حول موضوعات أدبية, أو سياسات داخلية أو خارجية, يكفي أن يصغي ويستوعب لينطق بالحكمة, مازالت قدرته على توليد النكتة في ذروتها وأسبوعيا يجعلنا نضحك من الأعماق بعد قفشة مفاجئة, مباغتة لا نتوقعها, والقفشة فن مصري رقيق ينتمي إلى زمن جميل عندما كانت المشاكل العامة أخف وطأة, وكانت الأوقات الجميلة تمضي مع الصحبة المقرّبة والدنيا صافية. نجيب محفوظ من أمهر ملوك القافية والقفشة, وكلا الفنين يعتمد على سرعة البديهة والقدرة الحادة على السخرية.

بعد أن تسلم الشيك المليوني من إبراهيم المعلم, سكت قليلا ثم قال:

(تعرف أنا بافكر في إيه دلوقتي?).

تطلعنا صامتين, قال: (بأفكر أهرب...).

وانفجرنا - بالطبع - ضاحكين, كانت أخبار الذين اقترضوا الملايين, وبعضهم المليارات تنشر يوميا في الصحف, هربوا بأموال المودعين, أموال الغير, ودعابة محفوظ لكم بدت نافذة, موحية, موجعة.

في مرة أخرى كنا نتحدث عن راقصة شهيرة بمناسبة تصريحها أنها تنوي التقاعد, بعد لحظة صمت قال: (ابقى طلعها في الذخائر...).

(الذخائر) سلسلة أشرفت عليها وكانت تصدر عن هيئة قصور الثقافة, قدمت فيها نصوصا مهمة من التراث العربي. تتميز النكتة المحفوظية بالذكاء, والثقابة, الدقة وشحنة السخرية العالية, مجرد استعادة هيئته لحظة إلقائه النكتة أو توليدها أو نطقه القفشة يجعلني أبتسم. إن متابعة ملامحه أثناء الجلوس معه تمنحنا خريطة دقيقة واضحة للعواطف الإنسانية. دائما كنت أحترم صمته, قبل الحادث والتقدم في السن, كان يجلس مفرود القامة, متطلعا إلى فوق, على وجهه ذلك التعبير الذي يستدعي الوصف المصري المتلخص في كلمة واحدة بالغة الدلالة, عندما نقول عن إنسان إنه (طيب), يبدو سمحا, رقراقا, ذاهبا إلى بعيد وهو قريب, الآن مع التقدم في العمر,ضمر الجسد, انحنى قليلا, يطول صمته, مستغرقا في ذاته. خلال جلستنا معه أحرص على ألا ندخل في أحاديث جانبية, عندما يشعر بأن الذين معه انصرفوا عنه, ولا يستطيع الإصغاء إليهم يتداخل في نفسه, يمضي إلى أزمته الخاصة, عندئذ أبادر بسؤال, برواية خبر أو نادرة, الآن, يصغي الأستاذ معظم الأوقات, إما أنه يصغي إلى محدثه, أو إلى داخله, ذروة تدفقه عندما يروي ذكرياته عن المدينة, عن الحياة الأدبية, عن الأزمنة المنقضية.

الجاني الأعمى

في العدد الخاص من مجلة (الهلال) الذي أصدره عنه الأستاذ رجاء النقاش عام سبعين من القرن الماضي, قال الأستاذ إنه عندما يجلس للكتابة فإنه لا يعبأ بشيء, وفيما يتعلق بآرائه المبدئية فإنه لم يظهر خلاف ما يبطن, وليس لديه حسابات صغيرة. كثيرا ما اختلفت معه وتثبت لي الأيام أنه كان أبعد نظرا, وبما لا يجنح إلى الإثارة في تصريحاته الصحفية, متزن في مواقفه التي تتعلق بصلته بالسلطة, سياسية كانت أو حكومية, ربما يتحفظ لكنه لا يعلن خلاف ما يبطن, وإذا جلس للإبداع فإنه لا يلبي إلا صوت ونداء ضميره.

بعد الحادث عرضت عليه وعرض عليه المحبون تخصيص ساعة أو ساعتين يوميا لكي يملي علينا ما يرغب كتابته, لكنه شكرنا معتذرا برقة, الكتابة بالنسبة له أداء خاص جدا, يبقيه سرا باستمرار فكيف يمكن لإنسان مهما كانت درجة القرب منه أن يشاركه أشد لحظات حياته خصوصية? أربع سنوات استغرقها العلاج الطبيعي حتى لحظة افضائه لي بقدرته على الالتزام بالسطر دون أن ينزل عنه. أي أن نجيب محفوظ تعلم الكتابة في حياته مرتين. الأولى في طفولته والثانية في العقد التاسع, وتلك الأشق والأصعب, لكم نظرت إلى يده, إلى ما تخطه من حروف كبيرة مضطربة لحظة توقيعه على نسخة من مؤلفاته, هذه اليد التي كتبت رواياته وقصصه القصيرة وأضافت إلى الأدب العربي والإنساني, تلك اليد التي أصابتها الكراهية والتعصب والجهل. بعد المحاولة رأيت الشاب الذي لمحته يوما تحت النافذة, سألوه عبر التلفزيون عما إذا كان نادما على محاولته قتل نجيب محفوظ فقال إنه غير نادم, وأنه لو سنحت له الفرصة فسيقوم بذلك, وعندما سأله المذيع عمّا إذا كان قرأ شيئا له, قال إنه لم يقرأ له حرفا, لكن أميره أصدر فتوى بتكفير محفوظ.

عندما بدأ يتقن الالتزام بالسطور, الكتابة, كانت أعصاب البصر قد وهنت, إذن... كيف يستجيب الأستاذ للظروف الجديدة?

بدأت سلسلة (الأحلام) في الظهور على صفحات مجلة نصف الدنيا, نصوص شديدة التركيز, تمسك بناصيتي النثر والشعر, إنه يكتبها أولا دون مداد, في ذهنه, ثم يكتبها على الورق مغمض العينين, لا يمكنه القراءة, لكنه بإرادة قوية وصرامة يجسّد ما في ذهنه على الورق كتابة محفوظية, أعدّها الأجمل, الخلاصة, مرحلة بدأت منذ أصداء السيرة الذاتية وبلغت الذرى في أحلام فترة النقاهة, إنها نصوص من الشعر الذي يرتقي إلى مستوى الحكمة, يستدعي عندي أصداء من الإبداع الإنساني الشبيه, أشعار حافظ وحكايات سعدي الشيرازي, ونصوص الأمثال والحكمة, إنه القدرة على النفاذ إلى جوهر التجربة الإنسانية وجوهر الوجود.

في مركب على النيل

منذ خروجنا أول مرة بعد تماثله للشفاء من الحادث في ديسمبر, كان الشتاء مكتملا, قصدنا هضبة الأهرام, يوسف القعيد, زكي سالم, والدكتور يحيى الرخاوي الذي أشرف على تنظيم أيام الأسبوع والمرحلة الأخيرة من علاجه ثم أصبح حرفوشا أساسيا في حلقات الحرافيش. تناولنا الغداء يومئذ في فندق مينا هاوس, وكان الأستاذ تحت حراسة الشرطة, وضع جديد سوف نعتاده, بل سيصبح أفراد قوة الحراسة أصدقاء لنا. وكأنهم أسرة جديدة للأستاذ ولنا, وضع لم يسع إليه, وضع أنهى أيام السعي في شوارع المدينة التي عاشها ومنح بعض مناطقها الخلود, طوال عمره كان ضد المظاهر, البساطة بعينها, لكن للضرورة أحكامها, انتهى زمن التجوال في دروب القاهرة القديمة وحواريها, كثيرا ما رأيته خلال الستينيات والسبعينيات يجول في موطنه الأول, حواري وشوارع الجمالية, كنت أحرص على ألا أزعجه حتى لا أقطع تأملاته واستعادته المكان. استأنفنا لقاءاتنا الثلاثية في مركب راسٍ على النيل, النيل الذي عشقه وأحبّه وحرص على أن يكون قريبا منه, حتى وإن لم يره بالبصر, فإنما يراه بالبصيرة.

لمحـات

خلال لقاءاتنا عبر السنوات الأخيرة, بدأت أنتبه إلى نفاسة ما يبديه الأستاذ من آراء, حرصت بعد عودتي إلى البيت أن أدوّن ما قيل. إما بنصه كما أتذكره, أو خلاصته, وأقدم لقرّاء (العربي) نصوص ما أطلقت عليه المجالس المحفوظية, وتمتد ما بين عام سبعة وستين من القرن الماضي, وشهر سبتمبر سنة اثنين وألفين, ومازالت المجالس مستمرة أمدّ الله في عمر صاحبها.

الواقع اروع

أصغي إليه يتحدث عن ذكرياته القاهرية ومنها أدرك معالمها القديمة, كيف كانت وأعرف كيف أصبحت?

قال: كانت توجد سينما اسمها (جوسيه) مكان بنزايون القائم الآن في شارع عماد الدين.

سمعت فيها أم كلثوم, كانت تقيم حفلاتها في قاعة السينما, وكانت قادرة على إسماع قاعة بها ثلاثة آلاف من دون ميكروفون.

قال بعد لحيظات صمت: كنت أسمع أم كلثوم على الطبيعة, وأسمع الأغنية نفسها على الأسطوانة, فأجد فارقا كبيرا, طبعا الواقع أروع بكثير.

ذات صباح من شتاء 1988

روايات لم تنشر

سألته: أيهما أفضل إلى قلبك, الحرافيش أم حديث الصباح والمساء?

قال: أظن الحرافيش, أحيانا يتأثر الإنسان برأي الآخرين.

سألته: ماذا عن الروايات التي لم تنشر?

قال: ثلاث, رواية بطلها لاعب كرة قدم, كتبتها في الأربعينيات, مزقتها, رواية عن الريف, لم أنشرها ولا أدري مقرها الآن لأنني لا أحتفظ بمسودات, رواية أخرى اجتماعية, ربما تكون مسودتها عند المخرج خيري بشارة.

ذات صباح ربيعي - 1989

سينما زمان

اليوم عيد ميلاد الفنان توفيق صالح, الحرفوش القديم. محفوظ يستدعي ذكرياته عن السينما:

قال: أول سينما عرفتها في فندق الكلوب العصري القريب من مسجد سيدنا الحسين, كانت فتحا بالنسبة لنا, نطل منه على عالم خيالي عجيب, الأفلام كلها أجنبية, كانت الترجمة على شاشة مستطيلة مجاورة. إذا لم تضبط مع المنظر نصيح: اعدل.. اعدل, فيقوم الرجل المسئول عن تشغيل السينما بضبط الترجمة مع المنظر. أما الموسيقى فكانت حية, حيث يعزف لاعب ماهر على بيانو مجاور للشاشة, أحيانا كنا نذهب مجموعة فنوقظ صاحب السينما ليشغل لنا الفيلم.

قال: عرفت سينما أولمبيا بشارع عبدالعزيز, كان فيه أيضا سينما إيديال وسينما رويال, في الشارع نفسه, كانت سينما أولمبيا تطبع مجلة (أخبار النجوم) وكانت ماري بيكفورد هي نجمتي المفضلة, قرأت أنها تزوجت دوجلاس فيربانكس, في شارع الجيش كانت هناك سينما رمسيس, وسينما مصر, وسينما هوليوود, وسينما سهير قرب العباسية, وسينما البلفدير, وسينما بلازا في الظاهر, وسينما الفتح في الجمالية, وسينما جوسيه للأفلام الفرنسية في عماد الدين.

يسأل: كم بقي من هذه الدور الآن?

أقول: فقط سينما أولمبيا, وسينما هوليوود..

بمناسبة عيد ميلاد توفيق صالح خرقنا العادة, لم نتناول العشاء في (فرح بوت) وهذه مرة نادرة, بل وحيدة, مضينا إلى مطعم خريستو في نهاية شارع الهرم, متخصص في السمك, وكان محفوظ يصحب الأسرة كل يوم جمعة.

قال: لم أكن أحب السمك إلا في سن متقدمة, ذهبت إلى رأس البر, دعاني أحد أصدقائي إلى أكلة سمك, سألني عما أحب, قلت: البلطي, القراميط, الثعابين, ضحكوا جميعا, قال صاحبي: السمك اللي انت بتحبه ده, بنأكله للسمك بتاعنا.

سألته ضاحكا: وماذا عن الأرانب?

قال: كنت أخاف من أكلها لأنني رأيت والدتي يوما تسلخها بعد ذبحها!!

الثلاثاء - 27 أكتوبر 1992

إنه الاعلام

قال: قرأت الرواية الضد, كنت أخرج من بعضها كما دخلت, الأمر مختلف بالنسبة لمارجريت دورا, عندها وجدت القصة والحكاية والإنسان.

تحدث يوسف القعيد عن ترتيب الكتاب في فرنسا طبقا لاستطلاعات الرأي وكانت دورا الأولى, وبن جلون الثامن والعشرين.

قال: إنه الإعلام يمكن أن يساعد في انتشار كاتب إلى وقت معين إذا لم تكن له قيمة حقيقية, الإعلام لا يضيف أي قيمة حقيقية, خذ مثلا رواية (يوليسيس), كيف يهز كل مؤلف أو قارئ رأسه تقديرا, لكن يظل من قرأوها بالفعل عددا محدودا.

ييدو أن الحديث عن قصة (في الغارة) أدى بنا إلى الحديث عن غارات الحرب العالمية الثانية.

قال: كنا نذهب إلى المخبأ, كل مجموعة من العائلات لها مخبأ معين, مع الوقت تحول إلى ما يشبه المقهى. نتحدث, نضحك, نتحاور في كل شيء, وخلال فترات سكوت المدافع نخرج لنشم الهواء, عرفنا أصوات المدافع المضادة, لكن بعد دخول الطليان الحرب سمعنا أول مرة صوت انفجارات لم نكن اعتدنا عليها, قلنا (لا.. دي الحكاية بقت جد..), استلمونا كل ليلة غارة, مرة كنا في مقهى قشتمر, كنا بنلعب (مونوبولي), لعبة كان فيها مدن ومحطات, والفائز يحتكر هذا كله, أحد أصحابنا علمها لنا وشبطنا فيها, خلصنا اللعب وروّحنا. بعد نصف ساعة فقط سقطت قنبلة خرمت السقف ونزلت مكان جلوسنا, كان سكوت الراديو علامة على قدوم الخطر.

كنا نأخد اللعبة معنا ونكمل في المخبأ.

قال: كان مقهى قشتمر لابن الموسيقار داود حسني, أخوه راح إسرائيل وأصبح مذيعا, سمعت عن إسلام صاحب المقهى, لكنني غير متأكد.

خريف 1992

الصوت الطِّعم

قال: رأيت محمد عبدالوهاب مرتين: الأولى في الثلاثينيات, كنت عائدا من مدينة الملاهي الضخمة التي أقيمت مكان ميدان سفنكس الآن بالمهندسين, كانت مدينة فسيحة جدا, متنــوعـــة, ولا أذكر أنني رأيت أضخم منها, في الترامواي أثناء عودتي ركب محمد عبدالوهاب من الزمالك, قلت له: (مساء الخير يا أستاذ..).

قال باختصار

(أهلا..).

جلس في الركن مرتديا طربوشه, وكنت مسرورا برؤيته لأنني أعشق صوته (الطعم) لكننا لم نتبادل كلمة واحدة, في الستينيات دعيت إلى بيت الدكتور مصطفى محمود, قابلته على الغداء ولم نتبادل أيضا إلا كلمات محدودة.

ذات ثلاثاء 1995

راح لنجيب!

عند عودتنا إلى الجلسة, توقف فجأة ليسألني:

(هو القعيد ما جاش ليه الليلة?)

قلت (لازم عنده مشاغل..).

ضحك قائلا:

(والاّ يكون راح لنجيب محفوظ!..).

وانفجرت ضاحكا بالطبع.

ذات مساء - صيف 1993

تحقيق

كنت موظفا بالأوقاف عندما نشر مقال يتضمن عرضا لرواية (فضيحة في القاهرة) بمجلة (آخر ساعة), سرد الكاتب أحداث الرواية ولم يفصح عن كونها رواية إلا في آخر سطر, فوجئت باستدعائي لمقابلة وكيل الوزارة, كان الشيخ أحمد حسين شقيق الدكتور طه حسين, سألني عن الأحداث التي أشار إليها الكاتب في آخر ساعة, قلت له إنها رواية, وإنها وقائع خيالية لا تقصد أشخاصا معينين, ثم سألني:

(هل أنت تلميذ الشيخ طه حسين?).

أجبته إنني درست الفلسفة في كلية الآداب, وإنني أعتبر نفسي تلميذا له, عندئذ بدا الشيخ أحمد رقيقا معي, قال:

(لماذا تكتب عن فضائح الباشوات وتعرض نفسك للمشاكل.. اكتب عن الحب أفضل وأكثر أمنا).

تطلعت إليه ولم أجب, ثم حفظ التحقيق.

أغسطس 1991

تيمور والبلاميطي

عندما صدرت روايتي (رادوبيس) عام ثلاثة وأربعين عن لجنة النشر للجامعيين, أهديتها لكثيرين, ممن ردّوا عليّ شاكرين كانوا أربعة فقط, محمود تيمور, أحمد باكثير, زكي طليمات وعادل كامل أمد الله في عمره, ودعاني محمود تيمور إلى غداء في مطعم علي حسن القريب من ميدان الأوبرا, وكان معنا زكي طليمات, كان صديقا لتيمور, وكان ذا شهية مفتوحة تمكنه من أكل مطعم علي حسن بما فيه.

كان تيمور نبيلا, والده أحمد تيمور باشا العالم المعروف والباحث الكبير, ولكنه كان يميل إلى معايشة أبناء البلد, عرف عنه حبه لمطربة جديدة وقتئذ اسمها ملك, وكانت خنفاء قليلا, تدخل إلى المسرح تحمل معزة, وكنا نتساءل: من يغني فيهما? هي أم المعزة?

(نضحك من قلوبنا, ويضحك معنا ثم يكمل..)

كانت قصص تيمور رائدة, تمهد الطريق, كان يحب الكتابة عن الشوارع وأبناء الطريق, غير أن رؤيته كانت نظرة سائح عابر. في صباح أحد الأيام ذهبت إلى مقهى الفيشاوي مبكرا, كان المقهى في ساعات الصباح جميلا, هادئا, وجدت محمود تيمور يجلس إلى مكوجي رجل اسمه البلاميطي, وكان البلاميطي ضخما, خشن الصوت, حافيا, وكانا يفطران معا فولا وبصلا أخضر, ويتحدثان كأنهما أصدقاء منذ أول العمر, لفت نظري نهم محمود تيمور في التهام البصل, اقتربت منه وسألته:

(مافيش مقابلات مع الملك النهارده?)

سبتمبر 1992

العقاد

سألنا الأستاذ:

(هل عرفت العقاد?)

يقول:

شخصيا لا..في منتصف الأربعينيات كتبت مقالا أرد فيه عليه ونشر في مجلة الرسالة, كان حول الفن الروائي الذي قلل العقاد من شأنه لحساب الشعر, لكننا لم نلتق قط, مرة واحدة رأيته, كنت أتردد على مكتبة الأنجلو أسبوعيا لشراء الكتب الجديدة الواردة من لندن, أثناء دخولي همس صبحي مديرها في أذني: العقاد هناك, هل ترغب في الحديث إليه?

لكنني شكرت صبحي ومضيت أتأمل الكتب, لمحته يجلس إلى الكتب يقلب المجلدات أمامه, لم أحرص على الحديث إليه, أو حضور ندوته, لا أدري لماذا? كنت في حالي, وكان يعرفني إذ إنني كنت أنشر قصصا في الصفحات الأدبية لجريدة الجهاد التي كان يشرف عليها, وكان صاحبها محمد توفيق دياب, وبلغني أنه قال عني (نجيب محفوظ ده كويس) وعرض أحد الأصدقاء أن يصحبني إلى ندوته لكنني لم أقبل, لكن حدث بعد أن تركت منصبي كرقيب للسينما أن اتصل بي في البيت, وكان غاضبا جدا, إذ بلغه أن مخرجا وكاتبا للسيناريو قدما قصة فيلم تتناول شخصه بالسخرية, وقلت له إنني لم أعد مسئولا عن الرقابة وأنني تركت هذا الموقع, لكنه استمر غاضبا, متسائلا عن كيفية السماح بهذا الفيلم, وعندما وجدت أنه لا يستطيع الاقتناع بأنني تركت الرقابة قلت له إنني سوف أتحدث إلى الرقيب الذي خلفني, وتحدثت بالفعل, وعلمت أن الفيلم لم ينفذ..

سبتمبر 1992

الرافعي

اسأله: هل قرأت لمصطفى صادق الرافعي?

يهز رأسه: لا.

ثم يسألني: هل قرأته أنت?

أجيبه: نعم.

يسألني: كيف وجدته?

أقول إنه حالة فريدة في النثر العربي, وإن لغته أصيلة ذات حداثة خاصة, ورصانة.

يقول: أذكر أن طه حسين كان معجبا به, خاصة بكتابه (إعجاز القرآن).

ثم يقول: إذا كان نثره كما تقول فخسارة أنني لم أقرأه.

أسأله من جديد عن السبب, يقول إن الصحف التي اعتاد قراءتها كانت تهاجم الرافعي دائما.

يصمت قليلا ثم يقول:

كان الرافعي يعيش في طنطا, كان عصاميا, كاتبا في محكمة, وكان سليط اللسان.

أحدثه عن كتابه في هجاء العقاد (على السفود), قرأ المرحوم الشيخ أمين الخولي بعضا من فصوله علينا في ندوة الأمناء, كان ذلك عام ثلاثة وستين بعد معركة حادة نشبت بينه وبين العقاد على صفحات جريدة (الأخبار), ومن باب النكاية فيما يبدو قرأ علينا الشيخ الخولي فصولا أعتبرها من أفظع ما عرفت في الهجاء.

يسأل الأستاذ:

(لا يا شيخ?).

أقول: (نعم).

اكتوبر 1992

طه حسين

نسأله: هل عرفت طه حسين?

يقول إنه قرأ له قبل دخوله الجامعة, والتقى به شخصيا مرتين, الأولى عند التحاقه بكلية الآداب, وأثناء الاختبار الذي يجرى للمتقدمين فوجئ أن الممتحن هو طه حسين شخصيا, يقول الأستاذ:

سألني: لماذا اخترت قسم الفلسفة?

بدأت الإجابة برغبتي في معرفة سر الكون وأسرار الوجود, أصغى إليّ جيدا ثم قال ساخرا: أنت جدير بالفلسفة فعلا لأنك تقول كلاما غير مفهوم.

أما المرة الثانية فكانت خلال الستينيات عندما تم تسجيل حلقة تلفزيونية معه, وأظنها الحلقة الوحيدة.

يصمت قليلا ثم يقول:

(لم يكن طه حسين مفكرا وأديبا عظيما فقط, لكنه كان صاحب دور).

ديسمبر 1992

أول جنيه

يقول الأستاذ خلال حوار عن العائد المادي القليل للأدب:

(لم أرسل قصة للنشر وتوقعت مقابلها عائدا ماديا قط, إلى أن اتصل بي أحد العاملين عند أحمد حسن الزيات وكان مشرفا على الحسابات, وقال إنني تسببت في تعطيل الميزانية, لماذا? لأنني لم أحضر لتسلم المكافأة, أي مكافأة? قال الجنيه.. مقابل القصة المنشورة في مجلة الرواية.

كان هذا أول جنيه يدخل جيبي من الأدب, طرت فرحا, وفي هذه الليلة دعوت شلة العباسية كلها إلى الكباب والكفتة وهصنا..).

ديسمبر 1992

أين المسودات?

سألنا الأستاذ عن مخطوطة (أصداء السيرة الذاتية) أجاب:

(أرسلتها إلى الأهرام...).

أبدينا انزعاجا, كانت الأصداء قد نشرت مضطربة في الأهرام, حيث اختل ترتيبها وسقطت مقاطع عدة لم تنشر, وظهرت فكرة إعادة النشر في (أخبار الأدب) قال: (توجد صورة من المخطوطة...).

عدنا نسأل: (لكن الأصل...).

قال إنه أرسله إلى الأهرام ولا يعرف مصيره, ولم يعتد الاحتفاظ بمسوداته.

في أمسية أخرى حدّثنا عن الأصل الخطي للثلاثية, لم تكن الثلاثية إلا رواية واحدة عنوانها (بين القصرين), وكانت تقع في حوالي ألف وثلاثمائة صفحة قطع فولسكاب بخط نجيب محفوظ, وكانت نسخة واحدة فقط. لم تكن آلات التصوير معروفة وقتئذ, وكان محفوظ يدفع إلى المطبعة عادة بأصول أعماله الخطية, ذهب إلى السحار بها, فوجئ بالناشر يقول له: ما هذه الداهية? كيف أنشرها?

وخرج محفوظ إلى الشارع حزينا, يكلم نفسه تاركا المخطوطة عند الناشر, بعد حوالي عام اتصل به يوسف السباعي, قال إنه سيصدر مجلة أدبية بعنوان (الرسالة الجديدة) وأنه يعرض على محفوظ إمكان نشره رواية مسلسلة, عندئذ سارع محفوظ إلى السحار, لحسن الحظ كان الرجل محتفظا بالأصل الوحيد, استرده محفوظ وبدأ نشر بين القصرين مسلسلة,.عندئذ اتصل به السحار وعرض عليه نشر الرواية على ثلاثة أجزاء منفصلة, هكذا خرجت الثلاثية إلى الناس, غير أننا جميعا تأخذنا رعدة عندما نتذكر, فقط مجرد تذكر أن هذا العمل العظيم كان يمكن أن يضيع أو يفقد لسبب ما, أما الأصل الخطي لـ (أصداء السيرة الذاتية) فيعلم الله وحده أين استقر تماما مثل كل الأصول التي لم يحتفظ بها.

حضور!

بعد تعرضه للحادث الأليم لم يكتب, أصيبت اليد التي خطت للأدب العربي أروع القصص والروايات, نتيجة طعنة مطواة في العنق سددها إليه شاب مضلل غشيم لم يقرأ له حرفا, يتلقى علاجا طبيعيا بانتظام, يمكنه أن يوقع الآن باسمه, حروفا غليظة غير منتظمة.

تنشر مجلة (نصف الدنيا) بانتظام له بعض القصص القصيرة, كلما أعلنت المجلة عن قصة جديدة. نسأله مستبشرين.

(أهي مكتوبة حديثا?).

يقول بحسرة: (لا...).

لا ممدودة, حزينة, ثم يتابع...

(إنها من الرصيد.. بين الحين والآخر أرسل قصة حتى يستمر الحضور...).

أتساءل: (هل يشغلك الحضور يا عم نجيب...).

يتطلع ثم يقول: يعني...

أعرف أنه لا يريد أن نواصل, حفظت ردود أفعاله, غير أنني أتساءل بيني وبين نفسي: أحقا هو مشغول بالحضور عند القراء بعد أن صار هو نفسه حضورا مستمرا?

حمام

يسألنا فجأة بعد صمت: (تعرفوا مصطفى حمام الشاعر?)

يقول ضاحكا:

(كان يكتب مقالات في جريدة وفدية صــباحا, وأخرى في المساء في جريدة ضد الوفد, كان يرد على نفسه تحت اسم مستعار, الطريف أن الطرفين كانا يعلمان بذلك...).

نضحك, أجمل الذكريات ما يطفو فجأة, ما يرويه باختصار هو قدرة مدهشة على الحكي الذي ينتهي غالبا بابتسامة.

ديسمبر 1992

مواجهات

سأل يوسف القعيد: ألا تقوم بمراجعات لأدبك وتجربتك الإبداعية كل مدة معينة?

قال الأستاذ: لا... لا أقوم بهذه المراجعات, أتصور أن الفكر هو الذي يجب أن يقوم بها, لكنني لم أفعل ذلك, الروائي والشاعر يعيدان النظر في أنفسهما باستمرار لكن التوقف والمراجعة من أجل المراجعة فلا أظن.

سألت: هل تولي اللغة اهتماما خاصا, بمعنى أنك تحاول تطويرها من عمل إلى عمل, لقد مرت لغتك بمراحل مهمة, فمن يقرأ (عبث الأقدار) و(كفاح طيبة) لن يتصور أن من كتب هاتين الروايتين سيبدع (الحرافيش) وصولا إلى (أصداء السيرة).

قال الأستاذ: إنني لا أتعمد تطوير اللغة, اللغة بالنسبة لي مثل الكائن الحي ينمو مع التجربة والخبرة, وزاد التجربة هو القراءة وأحيانا يفرض العمل استخدام لغة ذات إيقاع خاص.

الثلاثاء: يوليو 2002

في مصلحة البشرية

تحدثت عن كتاب جديد صادر في القاهرة: يتناول البحث العلمي في إسرائيل, ويقارنه بالبحث العلمي عند العرب, أخطر ما فيه أنه تم تسجيل ستمائة وأربعين براءة اختراع العام الماضي في إسرائيل مقابل أربعة وعشرين فقط في الدول العربية كلها.

أبدى دهشة, هز رأسه مرتين, عندما طال صمته أدركت أنه يقلب الأمر, وبعد وقت يطول أو يقصر سيتحدث مبديا رأيه, أو قد ينسى الأمر كله.

استأنفت حديثي: قلت إن محمد حسنين هيكل لديه معلومات تبدو غريبة بالنسبة لمن يجهل ولكنها جاءت نتيجة لمتابعته الدقيقة.

بدا مركزا جدا في الإصغاء.

قلت إنني منذ أسابيع كنت في زيارة له, ودار حديث حول إسرائيل, قال إن ما يثير اهتمامه في إسرائيل ليس الجيش الذي كان بمنزلة البوتقة التي تنصهر فيها العناصر المختلفة القادمة من شتى أنحاء العالم, ما يسترعي انتباهه الآن التقدم العلمي في الجامعات, الجامعات العبرية بها مراكز بحث متقدمة, وعلى صلة قوية بمراكز البحث المتقدمة في جميع أنحاء العالم. قلت إن حديث الأستاذ هيكل بدا لي غريبا يومئذ, فالجيش هو عماد الدولة العبرية, لكن بعد أن قرأت هذا الكتاب أدركت صحة ما تحدث فيه. ومدى دقة رؤيته.

بعد لحظات صمت سألني:

- كم براءة اختراع في إسرائيل?

- ستمائة وأربعة.

- وعندنا نحن?

- في العالم العربي كله أربعة وعشرون.

بعد لحظات من الصمت قال:

- أين ستذهب هذه الاختراعات?

تطلعت إليه صامتا, قال:

- ستصب في مصلحة البشرية في النهاية, يعني سوف نستفيد منها...

أصغيت إلى كلماته المعبّرة عن نظرة إنسانية شمولية تتجاوز التوقيت الراهن الذي نعيشه, ولم أنطق استفسارا جال عندي: وماذا عنا نحن?

الثلاثاء: 27 أغسطس 2002

ظهور برلنتي

زلزال السبت الماضي يفرض وجوده على الأحاديث المتبادلة, أتذكر زلزال عام اثنين وتسعين, ما تركه من اكتئاب على جلستنا فيما عدا النكات التي تناقلناها وقتئذ, في مثل هذه الأحوال يحكى كل منا أين كان, وكيف شعر, وكيف تصرف, مجرد الحكي يعني مرور الحدث الخطير بسلام, مادمنا نحكيه فقد نجونا, تحدثنا عن تكرار الزلازل في السنوات الأخيرة, قلت ضاحكا:

(حتى الطبيعة غير راضية عن أوضاعنا...).

مركز الزلزال الأخير جديد علينا, كان تحت القاهرة تقريبا, في أبو زعبل وقليوب, لذلك سمع القوم هدير انفجارات كونية صاحبت الزلزلة التي لم تستمر إلا خمسا وعشرين ثانية, قال زكي سالم:

(قال البيان إن الهزة قوتها أربعة ونصف على مقياس ريختر, لكن أظن أنها أكثر...).

اتفقنا على أنها أكثر, حتى بيانات مرصد حلوان أصبح مشكوكا فيها, غير أن الأستاذ فاجأنا بدعابته بعد طول إصغاء:

(عندما وقع الزلزال. كنت أجلس في الصالة, شعرت به بقوة, تطلعت إلى السقف منتظراً سقوطه, وظهور الفنانة برلنتي عبدالحميد نازلة من فوق...).

برلنتي تسكن في العمارة نفسها, في الطابق العلوي, ويسكن الأستاذ في الطابق الأسفل.

الثلاثاء: 27 أغسطس 2002

الفول.. طبعاً

تحدثنا عن العمليات الجراحية وما يتعلق بها, قال:

(بعد أن أجريت العملية في لندن, سألني الطبيب الإنجليزي:

(نفسك في أكلة معينة?).

قلت: (ما أشتهيه غير موجود هنا...).

سألني: (ما هو?....).

قلت: (الفول طبعا...)

قال الطبيب باسما:

(الفول موجود بالقرب من المستشفى, وفي مطعم اسمه علي بابا,) وبالفعل أرسل الأستاذ وجاء الفول, وكانت أكلة ممتعة جدا. قلت إن إدارة المستشفى بكليفلاند (أمريكا), لاحظت أن معظم المصريين يشتاقون إلى أكل الفول بعد نجاح عمليات القلب التي يمرون بها, ولذلك أضافوا طبق الفول إلى المطعم الرئيسي في المستشفى في وجبة الإفطار, فول أصلي وبزيوت مختلفة, الزيت الحار, وزيت الزيتون, وزيت بذرة القطن.

قلت إن الإنسان بعد مروره بالخطر يتعلق بالذاكرة, خاصة الطعام الذي اعتاد عليه, أو أحبّه.

(الفول وجدته. لكن ما لم أجده في الولايات المتحدة العسل الأسود بطحينة...).

العسل الأسود بطحينة, من الأكلات التي تفتق عنها ذهن الفقراء في مصر, وتعطي سعرات حرارية عالية, وتعد أشهى وجبة في السجون, خاصة مع الخبز البلدي, عندما يكون ساخناً.

الثلاثاء: سبتمبر 2002

ندوة الاوبرا

أعود إلى علاقة الأستاذ بالعقاد, أرغب في استيضاحها أكثر, لماذا لم يذهب إلى ندوة العقاد الأسبوعية?

يقول إنه لا يدري سببا محددا, لكنني كنت أعتبره قريبا مني, فعلى يديه تعلمت المفاهيم المتقدمة عن الديمقراطية والليبرالية, من خلال مقالاته التي كان يكتبها في (الجريدة) وكنت أقرأها في صدر شبابي, لفترة طويلة ظننت أنه كاتب سياسي فقط, ودهشت عندما قرأت له في الأدب.

وأسأله, لكنك رأيته في مكتبة الأنجلو ولم تفكر حتى في مصافحته.

قال: هذا حقيقي, ربما لأنني سمعت أن شخصيته كانت منفرة.

قلت: ولكن الأمر اختلف بالنسبة لطه حسين.

قال: التقيت به مرات عدة, كان ذلك في الجامعة عندما حضرت دروسه في كلية الآداب, ثم زرته في بيته, أحيانا بمفردي وأحيانا مع المرحوم ثروت أباظة.

سألته عما إذا كان التقى بالشيخ أمين الخولي. قال: درس لي في الجامعة, لكن لم ألتق به شخصيا.

قلت: إن الندوات التي عقدها منذ عام خمسة وأربعين كانت محوراً للحياة الأدبية والثقافية, ندوة الأوبرا بدأت عام خمسة وأربعين, واستمرت في مراحل مختلفة, وأماكن مختلفة حتى الآن, دائما نجيب محفوظ هو المركز, كثيرون يحيطون به, بعضهم يتحدث, بعضهم صامت, بعضهم ثابت, بعضهم يتغير, مجرد عابر, ولكن دائما نجيب محفوظ هو المحور, كيف بدأت العلاقة بالندوات خاصة ندوة الأوبرا.قال: قبل ندوة الأوبرا, لم تكن الحياة الأدبية تعرف الندوات الأدبية في المقاهي, كانت هناك الصالونات الأدبية, طبعا صالون مي زيادة كان أشهرها, لكنني لم أعاصره, قرأت عنه فقط, أذكر أنني ذهبت إلى صالون كانت تديره سيدة من الأسر الثرية لكنني لم أتردد عليه مرة أخرى - حاول أن يتذكر اسمها لكن الذاكرة لم تستدع الاسم - لم أشعر بالراحة في أجواء الصالونات.

قلت: إذن... كيف بدأت ندوة الأوبرا?

قال: حدث أن حصل خمسة أدباء على جوائز أدبية.

قلت: أي جوائز?

قال: إما مجمع اللغة العربية أو... أو وزارة المعارف العمومية.

قلت: أول جائزة حصلت عليها كانت جائزة (قوت القلوب الدمرداشية) ثم جائزة مجمع اللغة العربية.

قال: بالنسبة لجائزة المجمع فقد حصلت عليها مع أربعة آخرين, عبدالحميد جودة السحار, علي أحمد باكثير, يوسف جوهر, وشاعر كان يكتب مثل طاغور وكان مستشارا.

قلت: لعله حسين عفيف.

قال: ربما!

قال: اقترح عبدالحميد السحار إنشاء لجنة النشر للجامعيين وتبدأ بنشر الأعمال الفائزة, قبلنا جميعا ما عدا يوسف جوهر الذي رفض فكرة النشر دون مقابل, بدأنا نجتمع في مقهى عرابي, ولكن أصحاب المقهى قالوا لي إن الأدباء أصحابك مزعجون ويتحدثون كثيرا وبصوت مرتفع, شوفوا لكم مكان ثاني, هكذا ذهبنا إلى كازينو الأوبرا, وهناك بدأت لقاءاتنا الأسبوعية كل يوم جمعة منذ عام خمسة وأربعين واستمرت في المكان نفسه إلى أن انتهت كما تعرف (يقصد وقف الأمن للندوة عام واحد وستين).

قلت: إن الندوة كان لها فضل كبير على الحياة الثقافية بانتظامها, وتردد مختلف الأجيال عليها, وبالنسبة لجيلنا فقد اختصرت المسافات بيننا, كان ممكنا أن يتأخر لقائي بمحمد البساطي أو إبراهيم أصلان أو القعيد وغيرهم مسافات زمنية لا أعرف مداها لولا ندوة نجيب محفوظ التي سعت إليها أجيال مختلفة ولاتزال. كان للراحل توفيق الحكيم ندوة في فندق شبرد, وأخرى في الإسكندرية, لكن رواد الحكيم كانوا من الباشوات, وشخصيات المجتمع البارزة, وقلة من أدباء شباب تجرأوا على التردد. بالنسبة لي عندما قصدت مقهى بترو المطل على البحر المتوسط في صيف ستيني, كنت ماضيا للقاء نجيب محفوظ الذي كان يجلس صامتا معظم الوقت, بينما توفيق الحكيم يتدفق بالحديث, وكان حكواتياً عظيماً, يتحدث كأنه يمثل. وتعبر يداه عما يقوله. سألت نجيب محفوظ عن كيفية تعرفه بالحكيم? قال: بعد ظــهور رواية (زقــــاق المـــدق) طلب أن ألتقي به, وعندما انتظمت في ندوته الأســـبوعية بالقاهرة ويوميا بالإسكندرية خلال شهور الصيف, انزعج الباشوات السابقون من حضوري, كان منهم شمس الدين عبدالغفار, وبرهان نور, وطبعا إبراهيم باشا فرج, وإبراهيم طلعت, قالوا: إنهم يخشون مني لأنني أكتب في (الأهرام) التي يرأسها محمد حسنين هيكل المقرّب من جمال عبدالناصر زعيم الثورة, لكن الحكيم قال لهم: على ضمانتي! أذكر أن أحدهم سأل شمس الدين عبدالغفار بعد طول صمته في القعدة: أنت بتفكر في إيه? قال مفزوعاً: أنا مش بافكر.. مش بافكر في أي حاجة!

يضحك الأستاذ ضحكته الصافية, المجلجلة, بعد لحظات من الصمت يعود إلى الحديث, قال: كان الحكيم يتحدث لفترات طويلة, لكن معظم أحاديثه شخصية, أي كنا نبدأ الحديث عن قضية أدبية, لكنه يتطرق منها إلى الشخص, يحدثنا عن والده, عن ذكرياته في شارع محمد علي, مرة سألته عن ذلك فقال: إن آراءه النظرية موجودة في الكتب, من يرغب في معرفتها فليقرأها.

يكن الأستاذ لتوفيق الحكيم محبة خاصة, كان مكتب الحكيم في الطابق السادس مفتوحا, لم أره مغلقا قط. وفي سنواته الأخيرة كان يجلس بمفرده, حزيناً لفقد ابنه الوحيد إسماعيل, ويوم الخميس ينتــــقل نجـــيب محـــفوظ من مكتبه المجــــاور ليقعد أمام مكتب الحكيم, أحيانا يظهر المرحوم ثروت أباظة, أو الدكــــتور زكي نجيب محمود, أو إحسان عبد اـلقدوس, أو يوســـف إدريس. بعد رحيــــل الحكيم خصصت إدارة الأهرام الحجرة لنجــــيب محفوظ, لكنه لم يجلس مكان الحكيم قـــط, دائما يقعد في المكان الذي لزمه أمام المكــــتب, وظــل كرسي توفـــــيق الحكيم شاغراً, وكأنه يتــــوقع وصوله.

في بيت الأستاذ صوان صغير للأوسمة والهدايا التذكارية العزيزة عليه لمنزلة من أهدوها إليه, رأيت قلم حبر أسود, قالت لي زوجته إنه يعتز به, لذلك وضعه بين الأوسمة التي حصل عليها, هذا القلم هدية من توفيق الحكيم. دائما يصف الأستاذ (عودة الروح) بأنها كانت فتحاً أدبياً بالنسبة للرواية العربية.

الثلاثاء 3 سبتمبر 2002

النيل

يعشق الأستاذ نهر النيل, يفضل المشي إلى جواره, والجلوس إليه, النهر العتيق فيه خاصية فريدة, كأنه شخص يدرك ويستوعب ويجاوب, ربما لا يعرف كثيرون أنه أقام في النيل عندما كانت سكنى العوامات معروفة وقتئذ في القاهرة, عندما تزوج استأجر عوامة قرب كوبري الجلاء وأقام فيها أكثر من سنة, حدث أن أسرة تسكن العوامة المجاورة غرق طفلها, فأصرّت زوجة الأستاذ التي أنجبت طفلتها الأولى أم كلثوم على الانتقال إلى مكان غير العوامة, وتم استئجار الشقة التي مازالت الأسرة تقيم فيها حتى الآن بشارع النيل, منطقة العجوزة. سألته عن العلاقة بالنيل: قال:

(بدأت بصحبة الوالدة, كما كانت تصحبني لزيارة الآثار, كانت تصحبني للمشي بجوار النيل أو فوق الكباري, كوبري قصر النيل, كوبري أبو العلا, عندما كبرت كنت أحب المشي أو الجلوس إلى النيل, كنت أصحب معي وسادة صغيرة, أذهب إلى حديقة دائرية أمام المنزل الذي سكنه أنور السادات عندما أصبح رئيسا للجمهورية, (الحديقة تحولت إلى مهبط لطائرة هليوكبتر). كنت أجلس على حافة النيل بمفردي لساعات عدة حتى منتصف الليل, أتأمل وأفكر, ثم أعود إلى العباسية بعد انتصاف الليل. في هذه الحديقة اجتمع الحرافيش القدامى لأول مرة, أطلقنا عليها اسم الدائرة المشئومة.

أسأل: لماذا?

يقول: لأننا كنا متشائمين تجاه مستقبل الأدب والقراءة, كنا نتناقش ونضحك, وفي إحدى الليالي جاء جندي شرطة يطلب منا خفض أصواتنا لأن يوسف رشاد طبيب الملك فاروق كان يسكن بالقرب من الحديقة الدائرية.

قال لي محفوظ:

(المكان الذي يوحي إليّ بالتأمل, الذي اكتملت فيه مشاهد روايات عدة, القرب من النيل, يكفي أن أشعر بأنني إلى جواره حتى وإن لم أتطلع إليه.

قلت: كما نحن الآن.

قال: بالضبط!

الثلاثاء: 16 سبتمبر

 

جمال الغيطاني







 





(يعشق الأستاذ نهر النيل, يفضل المشي إلى جواره, والجلوس إليه, النهر العتيق فيه خاصية فريدة, كأنه شخص يدرك ويستوعب ويجاوب)





(استأنفنا لقاءاتنا الثلاثية في مركب راسٍ على النيل, النيل الذي عشقه وأحبه وحرص على أن يكون قريباً منه, حتى وأن لم يره بالبصر, فإنما يراه بالبصيرة)





(استأنفنا لقاءاتنا الثلاثية في مركب راسٍ على النيل, النيل الذي عشقه وأحبه وحرص على أن يكون قريباً منه, حتى وأن لم يره بالبصر, فإنما يراه بالبصيرة)





(استأنفنا لقاءاتنا الثلاثية في مركب راسٍ على النيل, النيل الذي عشقه وأحبه وحرص على أن يكون قريباً منه, حتى وأن لم يره بالبصر, فإنما يراه بالبصيرة)





(إذا كان الزمن قد نال من حاستي السمع والبصر, فإنه لم ينل من الذهن الذي مازال حاداً, نافذاً, أما الذاكرة فمدهشة)





 





(لكم نظرت إلى يده, إلى ما تخطه من حروف كبيرة مضطربة لحظة توقيعه على نسخ من مؤلفاته, هذه اليد التى كتبت رواياته وقصصه القصيرة وأضافت الى الأدب العربي والإنساني, تلك اليد التى اصابتها الكراهية والتعصب والجهل)





(في مقهى الفيشاوي موعد لايحضره إلا يوسف القعيد وكاتب هذه السطور)





(القفشة فن مصري رقيق ينتمي الى زمن جميل عندما كانت المشاكل العامة أخف وطأة وكانت الأوقات الجميلة تمضي مع الصحبة المقربة والدنيا صافية. نجيب محفوظ من أمهر ملوك القافية والقفشة وكلا الفنين يعتمد على سرعة البديهة والقدرة الحادة على السخرية)





 





(نجيب محفوظ, إنه عصر بأكمله مختزل في إنسان, عاش المجتمع المصري وعبر عنه طيلة سبعين عاماً من الكتابة المتصلة وهذه حال فريدة في تاريخ الأدب والأدباء)





(يصغي الأستاذ معظم الأوقات, إما أنه يصغي إلى محدثه, أو إلى داخله, ذروة تدفقه عندما يروي ذكرياته عن المدينة, عن الحياة الأدبية, عن الأزمنة المنقضية)





 





 





خلال لقاءاتنا عبر السنوات الأخيرة, بدأت أنتبه إلى نفاسة ما يبديه الأستاذ من آراء, حرصت بعد عودتي إلى البيت على أن أدون ما قيل, إما بنصه كما أتذكره, أو خلاصته, وأقدم لقراء (العربي) نصوص ما أطلقت عليه المجالس المحفوظية