فوزه أعاد الاعتبار للأدب العربي

فوزه أعاد الاعتبار للأدب العربي

يجب أن نشير إلى أن حصول الأستاذ نجيب محفوظ على جائزة نوبل, يعد جانبا من جوانب تكفير هذه الجائزة عن تجاهلها وإنكارها لأدب أمة بأكملها هو الأدب العربي منذ بدأت إلى أن فاز بها واحد من أبناء هذا الأدب.

إن موقف جائزة نوبل من الأدباء العرب, لا يقل عن موقفها من أدباء الشرق عامة, إن لم يكن أكثر تجاهلا وإنكارا. وقد استمر هذا التجاهل وذاك الإنكار من عام 1901 إلى عام 1988 وهو العام الذي حصل فيه نجيب محفوظ على هذه الجائزة, أي ما يقرب التسعين عاما وكأن عشرات الملايين من أبناء العروبة, الذين أنجبتهم تلك السنوات الطويلة, ليس فيهم واحد يفوز بالجائزة, مثلما أنجبت بلد صغير مثل السويد - وهي بلد الجائزة نفسها عددا لا بأس به, من الأبناء الذين فازوا بالجوائز?! - أو كأنه ليس في الأمة العربية كلها واحد مثل نكرات أدباء أوربا أو أمريكا بشهادة نقادهم - أولئك الذين فازوا بهذه الجائزة طوال هذه الفترة, أو حتى كأن العالم العربي, بمئات ملايينه ليس فيه أدباء يطاولون أدباء اليهود في العالم, إلا أن فوز نجيب محفوظ الذي انتظرناه طويلا, مع الأسف أحدث لغطا شديدا فيما بيننا نحن العرب, وكان ينبغي أن يحدث ذلك بين غيرنا نحن الذين حجبوا هذه الجائزة عنا لما يقرب من التسعين عاما. فلم يسلم نجيب محفوظ الذي تخطى كل أدباء العالم وفاز بالجائزة... من التنديد به, والإدانة له, والتهجم بل والاعتداء عليه!? مما يجعلنا نشير - ولو من بعيد - إلى هذه المواقف المؤسفة, قبل التعرض لحقيقة هذا الفوز, التي تقطع بأن هذا الرجل لم يصنع لأمته العربية من الخليج إلى المحيط إلا الخير, وأنه بريء مما نسب إليه, وأنه ما كان يستحق منا - وهو في هذه السن وتلك المكانة الأدبية - سوى التقدير والتكريم. ولكن ما العمل.. وزمار الحي لا يطرب أهله. مع الفارق في التشبيه!?

من وراء الجائزة?

كان نصيب نجيب محفوظ من البعض منا الاتهام بأن أجهزة إستشراقية كانت وراء فوزه بالجائزة, والسبب - على ما يدعون ويزعمون - الخروج على بعض المسلمات, في رواية (أولاد حارتنا), مع أن القراءة المدققة لهذه الرواية أو غيرها من أعمال نجيب محفوظ الروائية تنفي جملة وتفصيلا هذه المزاعم والادعاءات, أو أن دوائر الصهيونية العالمية, واليهود السويديين خاصة ساندته!? لأنه كان من المؤيدين لاتفاقية السلام مع إسرائيل!?

إلى آخر هذه الاتهامات والادعاءات التي جعلت واحدا من الشباب المتهوس في مصر, يحاول اغتياله, غير مدرك أنه بفعلته هذه إنما يحاول اغتيال أكبر رمز ثقافي لأمة بأكملها!? أقول إلى آخر هذه الاتهامات والادعاءات التي تعددت وإن كان السبب واحدا هو تفوق نجيب محفوظ, وفوزه بالجائزة, وكأننا بذلك نقلل من أنفسنا حيث نستكثر على أنفسنا الفوز بجائزة نالها من قبل أدباء أجانب أقل مقدرة وتفوقا من أديب العرب نجيب محفوظ!?

ويستمر هذا اللغط, حتى يظهر ما يؤكد أن نجيب محفوظ نال هذه الجائزة بكفاءته وموهبته الذاتية, ولم تتدخل في فوزه بالجائزة أي جهات أجنبية حيث كان وراء هذا الفوز أستاذ جامعي مصري يعيش في السويد منذ عام 1959, قرأه واقتنع به فرشحه للجائزة لا أكثر ولا أقل. هذا الأستاذ هو الدكتور عطية عامر أحد خريجي كلية دار العلوم, وعضو هيئة تدريسها قبل غربته عن مصر التي تركها فرارا من بعض المضايقات, وفي هذه الغربة عمل أستاذا بجامعة استكهولم, ومع الأيام والسنين أصبحت له مكانة بين المثقفين هناك, خاصة زملاءه بالجامعة, ومنهم أعضاء في لجان جائزة نوبل الأدبية, بعد أن اختير هذا الأستاذ رئيسا لقسم اللغة العربية بجامعة استكهولم بالسويد.

وقصة ترشيح نجيب محفوظ سجلها أديب وناشر تونسي هو الأستاذ حسن أحمد جغام بكتاب له صدر أخيرا عنوانه (طه حسين قضايا ومواقف) فيما يقرب من الأربعين صفحة مصحوبة بالوثائق المؤكدة لما يقول.

والقصة يسجلها المؤلف التونسي حسن أحمد جغام على لسان صاحبها د.عطية عامر, وتبدأ فصولها في شهر سبتمبر عام 1967, أي بعد الهزيمة بثلاثة شهور, حين أراد الدكتور عطية عامرالقيام بعمل ثقافي يرد به شيئا من الاعتبارلأمته,التي كانت تعيش وقتئذ مرارة ومحنة الهزيمة. وهنا فكر في ترشيح واحد من أبنائها المتميزين. فكان د.طه حسين, الذي كان معروفا وقتئذ بأعماله ومواقفه لدى الأوساط العلمية والثقافية في أوربا.

ولكي يمهد لهذا الاقتراح بدأ في إلقاء محاضرات باللغة السويدية بجامعة استكهولم تهيئة للرأي العام. إلا أن مشروع ترشيحه لطه حسين باء بالفشل الذي نجم عن عدم اختيار الوقت المناسب الذي لا يكون بالقطع بعد الهزيمة مباشرة. حيث كان المؤيدون لإسرائيل كثيرين, ويعيشون نشوة الانتصار, وبالتالي فكل أكاذيبهم عن مصر والعالم العربي مصدقة. ولم يكن غريبا والأمر كذلك أن يتكتل عدد من الأساتذة السويديين اليهود إلى جانب الصهاينة لإفشال هذا الترشيح ووأده قبل أن يولد. ولعل هذا أول ما يفسر موقف اليهود والصهاينة من ترشيح أي عربي للجائزة, كما يفسر إمكان تأثيرهم في توجه الجائزة.

وطبيعي والأمر كذلك أن يصمت د.عامر ويحبط بعد هذا الفشل سنوات, إلى أن سعت إليه جامعة استكهولم لتكريمه لبلوغه سن التقاعد, وفي إطار هذا التكريم طلبوا منه أن يرشح أديبا عربيا للجائزة جبرا لخاطره, وحتى يكون الأمر رسميا, تلقى الدكتورعامر رسالة من الأكاديمية السويدية في أكتوبر 1978 - ينشرها المؤلف في كتابه كوثيقة - أي بعد أكثر من عشر سنوات من محاولة ترشيح طه حسين عام1967, وكان مضمون الرسالة: أن يختار شخصية عربية يراها مؤهلة لجائزة نوبل, وفي هذا الوقت بالذات كان يقوم بمراجعة وتقويم مؤلفات نجيب محفوظ. فلم يفكر في ترشيح أي شخصية أخرى غيره, لأسباب كثيرة كان أهمها أن يثبت لهؤلاء المناوئين للعرب من اليهود السويديين والصهاينة أن بين العرب آخرين يستحقون الجائزة وليس طه حسين وحده الذي كان قد رحل عام 1973.

وطبيعي أن يرد على الأكاديمية برسالة باللغة السويدية بتاريخ 1979 - ينشرها المؤلف مع ترجمتها العربية كوثيقة - وملخص هذه الرسالة: (أقدم شكري للجنة جائزة نوبل في الأدب على الدعوة التي وجهتها لي طالبة مني ترشيح أحد الأدباء العرب لجائزة نوبل لعام 1979, وأفسر هذه الدعوة على أن اللجنة تريد مني ترشيح أديب يكتب باللغة العربية, ويسرني أن أزكي للحصول على الجائزة نجيب محفوظ, لأنه - في رأيي - أعظم ممثل للأدب العربي الحديث, وأحد كتاب القصة في العالم في عصرنا الحاضر).

تخبط حكومي

ولأجل أن يتم الترشيح كان عليه أن يوفر الكتب المطلوبة الخاصة بنجيب محفوظ, ولذلك أبلغ سفير مصر بالسويد عمر شرف وقتئذ بموضوع ترشيحه لنجيب محفوظ, وطلب منه المعاونة في توفير بعض مؤلفات نجيب محفوظ خاصة المترجمة إلى اللغات الأجنبية, وبديهي أن يبلغ عمر شرف الحكومة المصرية بذلك حتى تكون على علم بما يتم فتيسر له هذه المهمة, إلا أن العكس حدث منها. فبدلا من أن تيسر له الحكومة ذلك, قامت على الفور بأمر من القيادة السياسية وقتئذ بترشيح الأستاذ توفيق الحكيم مباشرة - ودون الرجوع إلى د.عطية عامر - لدى الأكاديمية السويدية بدلا من نجيب محفوظ الذي كان قد تم ترشيحه بالفعل بتزكية من د.عطية عامر.

وقبل أن يصل ترشيح الحكومة المصرية لتوفيق الحكيم, كان الدكتور عامر قد كثف حملته الإعلامية التي تدور حول أدب نجيب محفوظ, الأمر الذي كان له أكبر الأثر في الأوساط العلمية والثقافية, حيث بدأ حماس كبير لأعمال نجيب محفوظ, إلا أن هذا الجهد الإعلامي أجهض تماما, وتحوّل إلى رد فعل عكسي, بعد وصول ترشيح الحكومة المصرية لتوفيق الحكيم, إلى الأكاديمية السويدية, إذ ضاعت الفرصة على كل من الحكيم ومحفوظ, ذلك لأن لجنة الجائزة من تقاليدها رفض أي تدخل حكومي في اختيار المرشحين هذه واحدة, وأما الثانية فهي في البلبلة بين مرشحين من بلد واحد بظهور أديب آخر هو توفيق الحكيم غير الذي تم ترشيحه وتردد اسمه هو نجيب محفوظ, وهي فرصة انتهزها المناوئون من اليهود السويديين والصهاينة, وهنا قررت لجنة الجوائز منح الجائزة لشاعر صيني.

وما حدث من ضياع الفرصة على كل من الحكيم ومحفوظ, ومن قبل طه حسين حدث أيضا بالنسبة للأستاذ عبدالرحمن الشرقاوي, حيث استدعت السفارة المصرية بالسويد د.عامر, وأبلغته أن هناك رسالة مهمة جدا وردت من الخارجية المصرية, تتضمن ترشيح عبدالرحمن الشرقاوي لجائزة نوبل بدلا من ترشيحه لنجيب محفوظ الذي تم للمرة الثانية, حدث هذا بعد أن علمت القاهرة أن مساعي د.عامر كانت موجهة ومكثفة لترشيح نجيب محفوظ, وهكذا تسبب ذلك في ضياع الفرصة للمرة الثانية على نجيب محفوظ, وعبدالرحمن الشرقاوي معا خاصة أن الشرقاوي كانت هناك استحالة لقبول ترشيحه لأسباب تتعلق بشروط الجائزة الأدبية نفسها, التي تتطلب أن يكون مجموع إنتاج المرشح لها أدبيا, ومعظم إنتاج الشرقاوي في الفكر الإسلامي.

بعد الفشل ثلاث مرات يعود الإحباط من جديد للدكتور عامر, حتى يكاد يقرر أن يصرف النظر عن هذا الموضوع, على الرغم من أن الظروف باتت مهيأة وسانحة لفوز أحد أبناء الأدب العربي, وتمر سنوات من بعدها يزور القـــاهرة, التي كـــان ممــنوعا من دخولها إلى أن تم السماح له بدخولها بعد الثمانينيات, وفي أثنــاء زيارته في سبتمبر 1986 حرص على اللقاء بزميل الدراسة د.أحمد هيكل وزير الثقافة وقتئذ, وأبلـغه بأنه سيرشح نجيب محفوظ للمرة الثالثة لجائزة نوبل, وطلب منه راجيا ألا تتدخل الحكومة فيـــمن يرشــح للجــائزة, حتى لا يحدث ما حدث من قبل في المرشحين السابقين, وقد وعده د.أحمد هيكل بذلك.

وقد اتصلنا بالدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة السابق لتوثيق هذه المعلومة, وسألناه عن هذه المقابلة بينه وبين د.عامر, وقد أفاد بأنها تمت بالفعل, وأنه كان على علم بترشيح د.عامر لنجيب محفوظ, وأنه عمل بنصيحته في عدم التدخل في شأن ترشيح أي أديب آخر.

من فم الأسد

وهكذا بدأ تكثيف الجهد الإعلامي حول معطيات أدب نجيب محفوظ في الأوساط العلمية والثقافية بالسويد بناء على ترشيح د.عامر - نص الترشيح بالسويدية مع ترجمته بالعربية ينشره المؤلف - وبعد هذا الترشيح يفوز نجيب محفوظ بالجائزة عام 1988 بكفاءته وموهبته, ودون تدخل من أي جهة أجنبية كما يسجل د.عامر, وينشر المؤلف التونسي حسن أحمد جغام في كتابه (طه حسين قضايا ومواقف).

ولعل هذه القصة تكشف أمورا مهمة حول حقيقة فوز نجيب محفوظ منها:

أولا: أن الذي كان وراء حصول نجيب محفوظ على الجائزة, أستاذ مصري هو د.عطية عامر, وهو حي يرزق باستكهولم في السويد.

ثانيا: أن نجيب محفوظ لم يسع كغيره ممن يملأون العالم العربي ضجيجا حول ترشيحهم في كل عام.

ثالثا: أنه ليست هناك جهات أجنبية وراء ترشيح نجيب محفوظ, بل على العكس كان هناك رفض لهذا الترشيح, وعرقلة لمساره من الصهاينة والسويديين اليهود الذين كانوا يعملون جاهدين لإفشال أي ترشيح لأي عربي.

رابعاً: أن الترشيح تم من خلال أحد خريجي كلية دار العلوم والأستاذ بها بعد ذلك, وخريجو هذه الكلية وأساتذتها يهتمون في الأصل بالدراسات الإسلامية وإلى جانبها الدراسات الأدبية واللغوية, فلو كان هذا الأستاذ وجد في أعمال نجيب محفوظ عدم التزام بالقيم والمسلمات لما أقدم على ترشيحه.

خامسا: أن التوجه السياسي للدولة في مصر قبل الثمانينيات كان رافضا لنجيب محفوظ مرتين مفضلا عليه توفيق الحكيم مرة, وعبدالرحمن الشرقاوي مرة ثانية, وأن التزام وزير الثقافة أحمد هيكل بعدم تدخل الدولة في شأن هذا الترشيح كان له كبير الأثر في فوز نجيب محفوظ.

ولعل شيئا من ذلك قد أشار إليه مؤلف الكتاب الأستاذ حسن أحمد جغام حيث قال: (بعد كل ما سبق ذكره, لابد من أن نستنتج سخف البعض ممن لم تتسن لهم المعطيات الكافية والرؤى الموضوعية, حين انساقوا مع خيالاتهم يجزمون بأن نجيب محفوظ نال جائزة نوبل لعلاقاته بالإسرائيليين, على اعتبار أنه ممن أيدوا اتفاقية السلام, وهكذا يتبين لنا افتراء هؤلاء القوم وكيف كان جهلهم للحقائق, كما يتضح لنا من ناحية أخرى احتقارهم لأنفسهم وهم يشهدون بضآلتهم وكأنهم يعترفون بأن لا أحد من هذه الأمة يستحق جائزة نوبل).

ويشير إلى نكران فضل د.عطية عامر في ترشيح نجيب محفوظ وفوزه قائلا: (أشهد أمام الله, والأمانة العلمية أن د.عطية عامر لم يشك أو يتبرم من هذا النكران لا بالتلميح, ولا بالتصريح, وكأنه لم يكن المخطط والصانع لأسباب فوز نجيب محفوظ, أيام كانت الأمة العربية غارقة في بحر الهزيمة واليأس عقب 1967, ولم يكن حظها في جائزة نوبل إلاَّ الأحلام)

 

سامح كريم







 





أحد الأحياء الشعبية التي وصفها محفوظ في قصصه