الديمقراطية العربية ومستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي عبدالله الأشعل

الديمقراطية العربية ومستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي

تلح إسرائيل والولايات المتحدة على أن الديكتاتورية في العالم العربي هي التي أعاقت السلام العربي - الإسرائيلي, على أساس أن لغة الحوار بين الديمقراطية والديكتاتورية غير موحدة, وأن رموز الخطاب الإسرائيلي السلمية غير مفهومة, وأن هذه الرسالة السلمية لا تصل إلى الشارع العربي بسبب حجبها عن طريق النظم الديكتاتورية, فما مدى صحة هذه الدعاوى?

تقول الحجة الإسرائيلية أيضًا إن هناك علاقة وثيقة بين (الإرهاب العربي) والديكتاتورية العربية, لأن هذه الديكتاتورية تخلق أجيالاً بائسة قلقة مضطربة حانقة بسبب تردي أوضاعها وغموض مستقبلها وشعورها بالإهانة المتتالية, وهي ترى بلادها تعج بالخيرات ومنطقتها عامرة بالثروات, ومع ذلك فهي تعاني الفقر والحرمان والقمع إزاء تميز إسرائيل وما تتمتع به من حريات وقدرات رغم قلة إمكاناتها, كما يتمتع المواطن فيها بأعلى مستوى من الدخل (18 ألف دولار سنويًا) مقابل مئات الدولارات للفرد العربي, فضلاً عما تكشف عنه تقارير التنمية البشرية الدولية من فوارق هائلة بين إسرائيل والعالم العربي.

تقول إسرائيل أيضًا إن حجب الحريات وتدهور الأحوال المعيشية مع توافر الإمكانات, وشيوع النهب والفساد وتحول الدول العربية إلى إقطاعيات لصالح حكامها هو الذي ولد القهر والحرمان لدى هذه الشعوب, فأرادت النظم العربية أن تصرف شعوبها عما تعانيه. وتضيف الحجة الإسرائيلية أن الجماعات الإسلامية المعارضة لإسرائيل تتبنى استراتيجيات لا تقبل بأي شروط للصلح بين إسرائيل والعالم العربي, ونذرت نفسها لتدمير إسرائيل على أساس فهمها أن إسرائيل امتداد لليهود في الجزيرة العربية, وأن الصراع بين هؤلاء اليهود وبين الرسول صلى الله عليه وسلم قد امتد إلى الصراع بين أتباع الرسول وأحفاد اليهود. وقد خلصت إسرائيل إلى هذه النتيجة بيسر من تحليل الخطاب السياسي للجماعات الإسلامية المتطرفة في مناسبات مختلفة. وهذه النتيجة هي التي بنيت عليها استراتيجية إسرائيل ومنهج الفكر الصهيوني المعاصر, والتي تقضي بوضوح بأن الإرهاب في العالم العربي وضد الغرب سببه الديكتاتوريات العربية وعدم قدرتها على إقامة نظام لإعادة بناء المجتمعات العربية بحيث تستوعب هذه الجماعات في ثقافة ديمقراطية تشيع فيها قيم التسامح واحترام حقوق الإنسان والاختلاف في الرأي والمشاركة في القرار وحرية تكوين الآراء والتفاعل مع مدخلات البيئة الدولية الجديدة وأفكار التعايش والاعتماد المتبادل وعدم تفسير النصوص تفسيرًا مغلقًا يتسم بالقداسة العمياء. وتضيف الحجة الإسرائيلية أن اصطناع المواجهة مع إسرائيل هدفه أن يظل الانشغال بالصراع العربي - الإسرائيلي ذريعة تلهي الشعوب العربية في قضية تمس وجودها, بل ترى إسرائيل أن هزيمة العالم العربي العسكرية والسياسية في مواجهة إسرائيل تلقى ترحيبًا من حكوماتها التي تطول حياتها ما طال الصراع, وتؤجل الديمقراطية ما دام الصراع مستمرًا, حيث ترى هذه النظم أن الأولوية المطلقة لهذا الصراع وليس للتسوية أو للديمقراطية. وقد استشهدت الكتابات الإسرائيلية بحالة مصر عندما ظلت الديمقراطية مؤجلة, تارة لأن الثورة لم تستقر وأن أعداءها سوف يستغلون قسط الحرية الذي تبشر به الديمقراطية للانقضاض على (المكتسبات الثورية), وتارة ثانية, لأن تحرير الوطن من المستعمر البريطاني مقدم على تحرير المواطن من الحكم الديكتاتوري القمعي, وتارة ثالثة, لأن تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي يعلو على دعاوى تحرير المواطن, فلا حرية لمواطن في وطن غير حر, بينما يمكن أن يصبر المواطنون على قمع حرياتهم مادام حكامهم منشغلين في تحرير الأقاليم والمواطنين.

ولاحظت إسرائيل أنه حتى عندما سمح بتجربة الديمقراطية, فقد أدرك الحاكم أن حرية المواطن هي خصم من سلطاته وقيد على حركته, ولما كان الحاكم حريصًا على حرية الحركة, وهو الأقدر على معرفة احتياجات أبنائه, فقد سمح الحاكم لنفسه بأن يتصرف مع المواطنين تصرف الأب مع أبنائه بحيث تظل العلاقة بينهما دائمًا محكومة بإطار عام, وهي أن الأب لا يفرط في حقوق أبنائه مقابل تسليم هؤلاء الأبناء أقدارهم لهذا الأب الرحيم, فإن تجاسروا على الاستفسار أو المراجعة اعتبر ذلك عقوقًا يجب التصدي له بالقوة عقابًا على الخروج على آداب التعامل بين الأبناء والآباء. وهذه الديمقراطية الأبوية هي التي سمحت لمصر بعقد السلام مع إسرائيل, فضمنت احتواء ردود فعل الأبناء بحكمة الوالد الحكيم وبنظرته الثاقبة, الذي وعد أبناءه بالكرامة والأمن والرخاء والتفرغ للبناء والإعمار وحقن الدماء والإفلات من دائرة الصراع الجهنمية إلى شاطئ الفردوس المفقود.

الديكتاتورية والإرهاب

وقد خلص التحليل الأمريكي الذي بثته الولايات المتحدة في بياناتها الرسمية وخطابها الرسمي إلى أن الديكتاتورية والإرهاب في العالم العربي, وتعقد حل الصراع العربي - الإسرائيلي يمكن علاجها جميعًا بإقامة الديمقراطية في العالم العربي, بحيث يتم إعادة بناء المجتمعات العربية وخلقها خلقًا جديدًا.

فهل الديكتاتورية بصورها المختلفة في العالم العربي هي التي خلقت الإرهاب حقًا, الذي امتد إلى خارج العالم العربي, وعرقلت السلام العربي - الإسرائيلي? وهل الديمقراطية في العالم العربي هي الحل حتى تأمن إسرائيل من استمرار هذا الصراع الذي أرهقها, وهي العلاج للإرهاب (العربي والإسلامي) الذي يشكو منه العالم?

هذه المقالة لا تهدف إلى الدفاع عن العالم العربي دفاعًا أعمى, ولكنها تريد أن تصل حقًا إلى إجابة شافية وتشخيص سليم للمأساة. فقد أصبحت دعاوى شيوع الديكتاتورية في العالم العربي واستباحة أرزاق الناس لمخالب الفساد وتولي أسوأ عناصر الأمة زمام أمورها خطابًا طاغيًا في الغرب أدى إلى استنتاج مر, وهو أن الشعوب العربية اليوم حائرة في تجربة العراق ودروسها, كما أنها في حيرة في موقفها من خطاب الغرب وإسرائيل. ومؤدى ذلك أن الشعوب العربية بين نارين أو أمرين أحلاهما مر: هل توافق على أن الديكتاتورية في العالم العربي حكم وطني, وتفضل أن تؤكل من جانب حكامها وتسترق من قبل أبناء جلدتها, وعند الخيار بين جنة أجنبية ونار وطنية, فالنار الوطنية أرحم من جنة أجنبية? أم أن الشعوب ضاقت ذرعًا بالشكوى وملت من الصبر وعجزت عن إقناع حكامها بالتغيير وهم يمعنون في التزييف تأييدًا للتسلط ومصادرة الحقوق والحريات, وأن هذه الشعوب لاتمانع في أن يخلصها الغرب من جلاديها, بشرط ألا تستبدل بطشًا وذلاً بذل واستغلالا باستغلال واسترقاقا للشعوب من الحاكم الوطني باسترقاق لها من المحتل الأجنبي?

منعطف تاريخي

الحق أن الشعوب العربية في منعطف تاريخي خطير. وعليها أن تفرز الصحيح من الفاسد, والغث من السمين. صحيح أن النظم العربية قد تساهم في إعاقة الانطلاق العربي وتحتاج إلى تحديث وإصلاح حقيقيين وأن دعاوى الإصلاح ووعوده الزائفة قد استنفدت طاقات الشعوب واستذلتها وبددت طاقات بشرية خلاقة, ورفعت إلى السقف زَبد الأمة, بينما غاص في الأعماق أو هربوا بجلودهم أبناؤها النابهون.

وصحيح أيضًا أن بعض النظم مثل نظام صدام حسين قد فاق غيره من النظم العربية في البطش بشعبه حتى أصبح شعبه الذي عجز عن خلعه يرحب بأي نوع من الخلاص, كما أن هذا النظام جعلته قراءته الخاطئة للتحالفات والسياسات الإقليمية والعالمية يتراوح بين العمالة والإسفاف, إلا أن الصحيح أيضًا هو أن الشعوب العربية لم تتمكن حتى الآن من أن تجد لها طريقًا مقبولاً لكي تعكس السلطة تطلعاتها, أو أن تؤكد على حكم القانون الذي يجب أن ينزل عليه الجميع مهما كان قدره, وأصبح الخيار عندها بعد أحداث العراق: إما الاستمرار فيما هي فيه من تدهور في الأوضاع وفساد وقلب للأمور واستذلال لها على المستوى الدولي على يد الحاكم الوطني, أو الترحيب بقوة أجنبية تخلصها من حاكمها الوطني على الأقل, رغم عدم تأكدها من المستقبل الذي تهفو إليه.

والربط بين الديمقراطية العربية والسلام مع إسرائيل حق أريد به باطل, لأن الديمقراطية العربية الحقيقية لن تزيد الشعوب العربية إلا إصرارًا على السلام الحقيقي مع إسرائيل, ولكن المشكلة هي في إسرائيل التي تريد شعوبًا مستأنسة انتزعت منها حاسة الكرامة والعدل حتى تجبرها على قبول السلام الإسرائيلي بقوة السلاح. غير أن الديمقراطية العربية التي تستعين بأنصع عقول هذه الأمة سوف تقضي على هذا الوضع المزري الذي تُمعن إسرائيل في استغلاله وتتمسك في ظله بكل مصالحها في أقصى درجاتها. وسوف تخير إسرائيل بوضوح بين رغبتها في السلام الحقيقي الذي يقوم على إعطاء كل ذي حق حقه ونزع أسلحة المنطقة جميعًا, وبين الاحتكام إلى القوة, مفهومة على أنها القوة للجميع, وليس التسليم العربي المتتالي والتراجع المستمر مقابل تمسك إسرائيل بأسلحتها بدعوى أنها حالة خاصة ولاعتبارات نفسية تتعلق ببني إسرائيل على وجه الخصوص.

طريق السلام

وتقوم النظرية الغربية على الربط بين الديمقراطية والسلام, ولكن الحربين العالميتين الأولى والثانية قد أثبتتا فساد هذه النظرية على الأقل في عجز الديمقراطيات عن حماية نفسها من الديكتاتوريات التي تسببت في الحروب. كما فشلت هذه النظرية في حالة إسرائيل التي تقيم نظامًا ديمقراطيًا كجزء من منظومتها الصهيونية, ولم يعد مقبولاً حجة إسرائيل بأن ديمقراطيتها وسلامها تهددهما الديكتاتوريات العربية التي جعلت التفاهم مفقودًا, كما جعلت الإرهاب ناتجًا طبيعيًا لكبت الحريات. فإذا سلمنا بمفاسد الديكتاتوريات, وما أحدثته من انحطاط في القدرات العربية, فإن زوال هذه الديكتاتوريات لا علاقة له بالسلام العربي - الإسرائيلي, مادامت إسرائيل تحرص على أن تمتلك كل شيء: الأرض, والأمن, والقوة بكل أصنافها. بل أكاد أزعم أن العالم العربي إذا بدأ يعرف طريق الإصلاح الحقيقي والاستفادة من قدراته, فإن ذلك سيعد خصمًا من قوة إسرائيل, مادامت إسرائيل أيضًا تدير الصراع وفقًا لمعادلة صفرية, وتعتبر القوة أداة للتسلط, وليس دفاعًا عن الحقوق. ومن ناحية أخرى, فلابد من الفصل الكامل بين زوال النظم الديكتاتورية العربية, وهو أمرٌ مطلوب, وإقامة ديمقراطية عربية على النمط الذي تريده الولايات المتحدة. وجوهر المشكلة هو الشك في نوايا الولايات المتحدة بسبب انحيازها الكامل لإسرائيل والاعتقاد الصارم في العالم العربي بأنها تريد التغيير للقضاء على أي مقاومة عربية للتسلط الإسرائيلي والمطالبة العربية بتسوية عادلة, بينما تنوي إسرائيل تحقيق تسوية تعكس ميزان القوة الذي تريده الولايات المتحدة عن طريق برامجها الديمقراطية أشد خللاً لصالح إسرائيل مما يكرس وضعًا تختفي فيه الحقوق العربية وتسلم فيه الديمقراطيات العربية الجديدة بكل متطلبات المشروع الصهيوني.

 

عبدالله الأشعل