فتنة اللغة الشاعرة أحمد عبد المعطي حجازي إعداد: حسن طلب

فتنة اللغة الشاعرة

قد لا يحتاج جمهور الشعر في العالم العربي الى أن نقدم إليه (أحمد عبد المعطي حجازي), فهو عضو فاعل في حركة الثقافة المعاصرة, وهو أحد رواد الشعر الحر الذين قادوا حركة التجديد في العقد الذي يمتد من أواخر الأربعينيات الى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.

كان أحمد عبدالمعطي حجازي أصغر الرواد سناً, إلاّ أن نضجه الشعري المبكر قد سلكه في زمرتهم, فقد بدأ ينشر قصائده الأولى التي لفتت إليه الأنظار أوائل الخمسينيات, وهو دون العشرين.

خاض (حجازي) مع (صلاح عبد الصبور) معركة التجديد الشعري في مصر, الى أن تمكنا معاً - على اختلاف في الرؤية والنهج الشعري - من إقامة (عمود الشعر الحر) حسب التعبير الذي أشاعه (لويس عوض). وكذلك عرفت روح القصيدة (الحجازية) طريقها الى عدد غير قليل من شعراء الأجيال اللاحقة المتميزين في مصر والعالم العربي. وربما تصلح تجربة شاعر الرفض والتمرد: (أمل دنقل), مثالاً لهذا التواصل الإيجابي, الذي يرينا كيف أن صيحة (حجازي) المدوية: (قل لا هنا / لتقولها في كل مملكة سواها) لم تضع بدداً, وإنما تجاوبت أصداؤها حتى في أجواء شعر السبعينيات في مصر خاصة, لا سيما إذا قرنَّا بشعر (حجازي), تأملاته النظريّة الثورية من كتابه: (قصيدة لا).

إن تجربة (حجازي) الشعرية, هي في جوهرها نشيد رائع للحرية, وملحمة جياشة تنتصر لكرامة الإنسان في مواجهة قوى الطغيان كافة, مهما تنوعت صوره, أو تسترت خلف قناع السياسة أو الدين. ولعل أول ما يجذبنا إلى هذه التجربة, هو لغتها الشعرية الصافية التي تحتفي بأناقة اللفظ وطلاوة العبارة, ولكن دون أن تنسى انتسابها إلى هموم البشر وتجاربهم, الحياة التي تضطرب بمختلف الآلام والآمال. إن اللغة العربية تطلع علينا من خلال شعر (حجازي) وقد استعادت عافيتها واستردت فحولتها, من غير أن تفرط في شيء من حاضرها, فلا نملك إلاّ أن نفرح بها ولها, ونحن نطالع ديباجتها المشرقة التي خلت من جيل المثاقفة والتفلسف, وإن لم تخل من الروح الفلسفية بالمعنى العميق, وذلك أننا نجد أنفسنا أمام تجربة تكشف لنا عن لب الوجود, إذ تجلو لنا لحظاته الغنية المفعمة التي تفلت منا عادة, لأننا درجنا على أن نحصرها بين سبب يسبقها ونتيجة تتلوها, فإذا بنا نصحو - من خلال تلك التجربة الشعرية الثرة - على الحقيقة المرة, ألا وهي أننا قد أضعنا بين السبب ونتيجته أثمن لحظات الوجود وأشدها توتراً وأكثرها اكتنازاً بمأساة المصير الإنساني. وللقاريء أن يتأمل في هذه المختارات قصائد مثل: (مرثية لاعب سيرك) و(اغتيال), ليتعرف بنفسه النظائر الرمزية لتلك اللحظات الوجودية البينية, أو بالأحرى التجسيد الجمالي لها, حيث تقتنص القصيدة الأولى اللحظة الحرجة المحصورة ما بين انتقال لاعب السيرك بقدمه على الحبال, من موضع, إلى موضع جديد, في حركة يطوف بها شبح الموت. أما القصيدة الثانية, فتستنطق الهنيهة الخاطفة التي تقع ما بين ضغط القاتل على الزناد, واستقرار الرصاصة في جسد الضحية. وليس بوسعنا أن نقول إننا هنا أمام صورة عن صور الواقع, اللهم إلاّ إذا كنا نقصد الواقع غير المرئي, الواقع الذي لم يكن لنا أن نكتشفه ونراه إلاّ من خلال عين الفنان المبصرة, وخياله الخلاق.

ويبدو أن سر المتعة الجمالية التي تغمرنا حين نقرأ شعر (حجازي), راجع إلى أن فهم هذا الشعر والاستمتاع به, هما وجهان لحقيقة واحدة, أسماها (مصطفى ناصف) في أحدث كتاب أصدره عن (حجازي): (فتنة اللغة الشاعرة). ولا شك في أننا حين نسلم أنفسنا لإغواء هذه الفتنة, سندرك كيف كان (حجازي) متسقاً مع تجربته وهو يتصدى لمحاولات تمويه الشعر بالنثر, وكيف كان أميناً مع رؤيته, وهو يقف بالمرصاد في وجه سائر الاتجاهات العدمية والشكلية - على نحو ما أسماها في كتابه المهم: (الشعر رفيقي) - التي رأى أصحابها أن الشعر ليس في حاجة إلى الوضوح, ولا حتى إلى المعنى!

كان لي قلب

على المرآةِ بعضُ غبارْ

وفوق المخدع البالي, روائح نومْ

ومصباحٌ.. صغيرُ النارْ

وكلُّ ملامح الغرفهْ

كما كانت, مساء القبلةِ الأولى

وحتى الثوب, حتى الثوبْ

وكنتِ بحافةِ المخدعْ

تردّين انبثاقةَ نهدكِ المتْرَعْ

وراءَ الثوبْ

وكنت تريْنَ في عيني حديثاً.. كان مجهولاً

وتبتسمين في طيبه

وكان وداعْ,

جمعتُ الليلْ في سمتي,

ولفّقْتُ الوجوم الرحبَ في صمتي,

وفي صوتي,

وقلت.. وداعْ!

وأقسم, لم أكن صادقْ

وكان خداعْ!

ولكني قرأتُ روايةً عن شاعر

عاشقْ

أذلَّته عشيقتُه, فقال.. وداعْ!

ولكن أنت صدَّقْتِ!

*

وجاء مساءْ

وكنتُ على الطريقِ الملتوي أمشي

وقريتُنا.. بحضن المغربِ الشفقِي,

رُؤَى أفقِ

مخادعُ ثرّةُ التلوينِ والنقشِ

تنام على مشارِفها ظلالُ نخيلْ

ومئذنةٌ.. تَلوَّى ظلُّها في صفحة

التّرعَهْ

رُؤيً مسحورةٌ تمشي

وكنت أرى عناقَ الزهرِ للزهرِ

وأسمع غمغماتِ الطيرِ للطيرِ

وأصواتَ البهائم تختفي في مدخل

القريهْ

وفي أنفي روائحُ خصبْ,

عبير عناقْ,

ورغبةُ كائنيْنِ اثنينِ أن يلدا

ونازعني إليك حنينْ

وناداني إلى عُشِّكْ,

إلى عشّي,

طريقٌ ضم أقدامي ثلاثَ سنينْ

ومصباحٌ ينوّر بابَكِ المغلقْ

وصفصافه

على شُبّاككِ الحرّان هفهافه

ولكنّي ذَكرْتُ حكايةَ الأمسِ,

سمعتُ الريحَ تُجهش في ذُرى

الصفصاف,

يقولُ.. وداعْ!

*

ملاكي! طيريَ الغائبْ!

حزمتُ متاعيَ الخاوي إلى اللُّقمهْ

وفُتُّ سنيني العشرين في دربك

وحنّ عليّ ملاّحٌ, وقال.. اركبْ!

فألقيتُ المتاعَ, ونمتُ في المركبْ

وسبعةُ أبحرٍ بيني وبين الدارْ

أواجه ليليَ القاسي بلا حبٍّ,

وأحسد من لهم أحبابْ,

وأمضي.. في فراغ, باردٍ, مهجورْ

غريبٌ في بلادٍ تأكل الغرباءْ

وذات مساءْ,

وعمرُ وداعِنا عامان,

طرقتُ نواديّ الأصحاب, لم أعثر

على صاحبْ!

وعدتُ.. تَدعُنّي الأبوابُ,

والبوّابُ, والحاجبْ!

يدحرجني امتدادُ طريقْ

طريقٍ مقفرٍ شاحبْ,

لآخرَ مقفرٍ شاحبْ,

تقومُ على يديه قصورْ

وكان الحائطُ العملاق يسحقني,

ويخنقني

وفي عيني.. سؤالٌ طاف يستجدي

خيالَ صديقْ,

ترابَ صديقْ

ويصرخ.. إنني وحدي

ويا مصباحُ! مثلك ساهرٌ وحدي

وبعْت صديقتي.. بوداعْ!

*

ملاكي! طيريَ الغائبْ!

تعاليْ.. قد نجوعُ هنا,

ولكنّا هنا اثنانِ!

ونعري في الشتاء هنا,

ولكنّا هنا اثنانِ

تعَاليْ يا طعامَ العمرْ!

ودفء العمرْ!

تعاليْ لي!

مقتل صبي

الموتُ في الميدانِ طَنّ

الصمتُ حطّ كالكفنْ

وأقبلَتْ ذبابةٌ خضراءْ

جاءت من المقابرِ الريفيَّةِ الحزينه

ولَوْ لَبَت جناحَها على صبيِّ مات

في المدينه

فما بكتْ عليه عينْ!

*

الموتُ في الميدانِ طَنّ

العجلاتُ صَفّرَتْ, توقفتْ

قالوا: ابنُ من?

ولم يجبْ أحدْ

فليسَ يعرف اسمَهُ هُنا سواه!

يا ولَداه!

قِيلتْ, وغابَ القائلُ الحزينْ,

والتقت العيونُ بالعيونْ,

ولم يجبْ أحد

فالناسُ في المدائن الكبرى عَدَدْ

جاء ولدْ

ماتَ ولدْ!

الصدرُ كان قد همدْ

وارتدّ كفٌ عضّ في الترابْ

وحملقتْ عينانِ في ارتعابْ

وظلّتا بغير جَفْنْ!

*

قد آن للساقِ التي تشردت

أن تستكنْ!

وعندما ألقَوْهُ في سيارةٍ بيضاءْ

حامت على مكانه المخضوب بالدماءْ

ذبابةٌ خضراءْ!!

أغنية

أتحدَّاهُ أن يَرى

فيكِ بعضَ الذى أرى

مدنُ الحزنِ مقلتاكِ, ولى فيهما

سُرى

واكتشافاتُ مُقبلٍ

مِنْ قُريً

قاصدٍ قُرى

كيف يغشاهما الذي عرف الحبَّ

آخِراً

كيف يرتاد عالَماً

لم يكن قَطُّ مُقْمِراً!

صـورة

من هو هذا الرجل السكِّيرْ

هذا الذي أمال كأسه ليشرب القرار

كأنه مستغفرٌ في عتمةٍ

ووجهه في النورْ

هذا الذي صبَّ احمرار عينه

على الجدار

هذا الذي يطلب كأساً ثانياً

وينثني منتشياً مُغنِّياً

كأنه عصفورْ

كأنه في كل ليلةٍ يؤدِّي دينه المقدورْ

لدائنٍ خلف الستار!

السجن

لي ليلةٌ فيهِ

وكلُّ جِيلنا الشهيد

عاش لياليهِ

فالسجنُ بابٌ, ليس عنه من محيدْ!

والسجنُ ليس دائماً سوراً, وباباً

من حديدْ

فقد يكون واسعاً بلا حدود

كالليل.. كالتيهِ

نظل نعدو في فيافيهِ

حتى يصيبنَا الهمودْ?

وقد يكونُ السجنُ جفَناً, قاتمَ

الأهدابِ نُرخيهِ

وننطوي تحت الجلودْ

نجترُّ حُلمَ العمرِ في صمتٍ, ونخفيهِ!

والساقُ سجنٌ, حين لا تقوى

على غيرِ القعودْ

يشدها مكانُها.. والقلبُ ترميهِ

مراميهِ

لعالمٍ يعطى المني, ولا يزيد!

وأَن نعيشَ دون حُبٍّ, دونَ إنسانٍ

ودودْ

نُغلِقُ أبوابَ البيوتِ خلفنا

لأن أرضاً لا تضمُّ أهلَنا ليست لنا

والوجهُ إن لم يحتفلْ بنا,

بدا مُسَطَّحاً.. بلا حُدودْ

ضاعت معانيهِ

فلم يعد فيهِ

بابٌ يقودنا لدفئه البعيد!

مِنْ أين آتيهِ

حبي الوحيدْ

من أين آتيهِ

والليلُ يغلق الحدودْ

 

أحمد عبد المعطي حجازي





 





أحمد عبدالمعطي حجازي