في وقت مناسب للغاية, يأتي هذا الكتاب ليقدم لقراء العربية كثيرا من
المفاهيم التي يعتورها اللبس والغموض في أحد أهم فروع علم الجغرافيا ألا وهو
(الجغرافيا السياسية). أما المجال الذي يغطيه التحليل في هذا الكتاب فهو (عالمنا
المعاصر), وهو مجال يخرج بالكتاب من الدائرة الضيقة التي يتصورها البعض - خطأ -
حينما يشرع في قراءة كتاب في الجغرافيا. فمشكلات العالم المعاصر على اختلاف
ألوانها, من العولمة, والاقتصاد العالمي, وصراعات مناطق المركز والأطراف, إلى
مشاركة المرأة في العمل السياسي والتزوير في الانتخابات على أساس جغرافي وغيرها, هي
أهم موضوعات هذا الكتاب.
وضع المؤلفان الكتاب بعد مسح شامل ومركز لقضايا عديدة على أسس نظرية
وتطبيقية. أما المترجمان - عبدالسلام رضوان ود.إسحق عبيد - فقد نقلا لقراء العربية
بدقة واقتدار أفكاراً ومعلومات كان يصعب على الكثيرين قراءتها في نصها الأصلي.
العولمة... اقتصادية
يُستهل هذا الكتاب بمناقشة قضية تشغل مجتمعنا المعاصر ألا وهي الصراع
بين الفقر والثراء في عصر اصطلح على تسميته بعصر العولمة. ومفاهيم العولمة بأطيافها
المتباينة (اقتصادية, ثقافية, سياسية, بيئية, سوسيولوجية, مالية, تكنولوجية) ليست
بدعة جديدة في علم الجغرافيا. ففي مطلع الخمسينيات أشار ماكيندر (عالم الجغرافيا
السياسية الأشهر) إلى مدى ارتباط الأحداث العالمية بعضها بالبعض الآخر لدرجة جزم
معها بكوكبية تأثير النظم السياسية والقوى الاجتماعية. وبدهي أن تستأثر العولمة
الاقتصادية نصيب وافر من معالجة الفصل الأول والذي يحمل عنوان (منهج النظم العالمية
في تحليل الجغرافيا السياسية).
وينتقل الفصل من عرض للعناصر الثلاثية للاقتصاد العالمي - اقتصاد
السوق, النظام الاقتصادي متعدد الأطراف, الاستغلال التجاري - إلى تحليل توجه
الاقتصاد العالمي وصياغته في دورات متعاقبة من الركود والازدهار (وأشهرها دورة
العالم الروسي كوندراتييف) إلى تحليل الاقتصاد العالمي على أسس مكانية (جغرافية)
والذي بدأ يتشكل مع التوسع الاستعماري الذي ربط مناطق شاسعة من الأرض بنظام اقتصادي
واحد (النظم الاقتصادية الإمبريالية). ويعقب هذا التحليل عرض لصراع العلاقات
الاقتصادية بين مناطق المركز (الدول الغنية - نموذج الولايات المتحدة) ومناطق
الأطراف (دول العالم الثالث - نموذج الهند) والمناطق المتداخلة (ما بين الدول
الغنية ودول العالم الثالث - نموذج روسيا). وبعد أن تكون قراءتك لهذا الفصل قد وصلت
إلى درجة حماسية يأخذك المؤلفان إلى قضية أكثر تركيزاً وهي استكشاف العلاقة
المتشابكة بين قوة الدولة سياسياً وموقعها في الاقتصاد العالمي (النهب الاستعماري
القديم ونهب الشركات متعددة الجنسيات حالياً).
الجيوبوليتيكا وعودة الروح
الاشتباك والتداخل التاريخي (منذ منتصف القرن العشرين) بين الجغرافيا
السياسية والجيوبوليتيكا هما السمتان المميزتان لعلاقة العلمين كل منهما بالآخر.
ويلفت الكتاب نظر القارئ - في الفصل الثاني منه الذي يحمل عنوان (الجيوبوليتيكا
تزدهر من جديد) - إلى تشابك آخر بين الجيوبوليتيكا والإمبريالية, ويفترض لفض
الاشتباك التمييز بينهما باعتبار أن الجيوبوليتيك علم يعنى بالبحث في طبيعة
التنافسات بين القوى العظمى (دول المركز وأشباه الأطراف الصاعدة) بينما الإمبريالية
هي ترجمة مباشرة لهيمنة دول المركز القوية على دول الأطراف الضعيفة. وإذا كانت
الجيوبوليتيكا قد عنيت بعلاقات التنافس بين الشرق والغرب فإن الإمبريالية هي ترجمة
مباشرة لهيمنة الشمال على الجنوب.
وفي هذا الفصل, يتناول المؤلفان تطور قضايا الجيوبوليتيكا بداية من
تتبع التوظيف (السيئ) للجيوبوليتيكا فيما بين الحربين وخاصة في ألمانيا حيث تطور
علم الجيوبوليتيكا مروراً بنظرية ماكندر الشهيرة حول السيطرة على مركز العالم
(الاتحاد السوفييتي), والانتقال إلى تغير مفهوم المركز على أسس جغرافية - اقتصادية
(التكتلات الاقتصادية). ثم تناول الصياغة الأمريكية الجديدة لمفهوم المركز والأطراف
بعد خروجها من الحرب العالمية الثانية (بموقعها البحري) كأكبر قوة عالمية, وتوجهها
إلى تطويق الاتحاد السوفييتي والوقوف على أعتاب بيته, إما بإقامة تحالفات عسكرية
كحلف الناتو والسينتو (وريث حلف بغداد) أو بالتدخل العسكري المباشر كحرب كوريا وحرب
فيتنام, ودور الردع النووي في إعادة تقييم مناطق المركز والأطراف في الصراع
العالمي. ويسلم القارئ نفسه - بعد عرض دسم للقضايا السابقة - إلى عرض سلس للتحليل
الجغرافي السياسي للحرب الباردة, لينتقل بعدها إلى قراءة نماذج من السياسات
الجيوبوليتيكية لبعض الدول والتي يختتم بها المؤلفان هذا الفصل الموسوعي, فمن
الأبعاد الجيوبوليتيكية للهيمنة الأمريكية على العالم إلى المبادئ التي اتكأت عليها
الديجولية الفرنسية وصولا إلى نموذج الهند - نهرو في عدم الانحياز يجد القارئ نفسه
في حاجة للتأمل, لا يلبث أن يهجرها لينتقل إلى الفصل التالي (جغرافية
الإمبريالية).
جغرافية السيطرة
مع بداية الفصل الثالث يصدم المؤلفان القارئ في اعتقاده بالمهمة
العلمية البريئة للجمعيات الجغرافية الأوربية بالإشارة إلى الدور المحوري الذي
لعبته هذه الجمعيات في خدمة الاستعمار. ومنذ الحرب العالمية الأولى صارت الجغرافيا
تعمل في خدمة الاستعمار والتوسع الإقليمي للدول الكبرى. وبعد أن يستعرضا (قصة)
الإمبريالية من بدايتها إلى تصفية الاستعمار ينتقل المؤلفان إلى تحليل للسمات
الاقتصادية للإمبريالية (مستعمرات إفريقيا وأمريكا الوسطى).
ومن الموضوعات الرشيقة العرض في هذا الفصل المساعدات الاقتصادية
بوصفها إمبريالية مستترة. فقد واصلت دول المركز ممارسة نفوذها في بلدان الأطراف -
بعد انتهاء الاستعمار الرسمي - باستخدام برامج المساعدات الاقتصادية. ولو كان هدف
هذه المنح رفع المعاناة عن كاهل الفقراء في العالم لما كان هناك تمييز في تقديم
الدعم, غير أن واقع الحال يشير إلى تسخير هذه المساعدات لخدمة أغراض جيوبوليتيكية
بعينها. ومن ثم فإن الدول التي تحصل على المساعدات الاقتصادية هي تلك التي يمكن أن
تقدم (خدمات جليلة) للدول المانحة. ولعل أفضل توضيح لذلك هو مراجعة برنامج
المساعدات الأمريكية لدول العالم (وأبرزها في منطقة الشرق الأوسط) سواء إبان حقبة
الحرب الباردة أو فيما بعدها. وعلى الجانب الآخر يبرز نموذج المساعدات اليابانية ذو
التوجه الاقتصادي والذي ربط المنح اليابانية بضرورة استيراد المنتجات والبضائع
اليابانية الصنع. ويختتم الفصل بتناول قضيتين مهمتين, الأولى الهيمنة الاقتصادية
للولايات المتحدة على العالم (كصورة من صور الاستعمار الاقتصادي الجديد), والثانية
هي العلاقة الوثيقة بين الإمبريالية والعولمة. ومن الصور المميزة التي يعرض لها هذا
الفصل الهيمنة الثقافية وتشويه صورة (الآخر) باستخدام أدوات الحرب الإعلامية والتي
يغطي نفوذها مناطق جغرافية واسعة.
المتلاعبون بالقومية
يُعرف القرن العشرون بأنه قرن القومية والأيديولوجية, وبالفعل
فالقومية المولودة في أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين صارت قوى وحركات
اجتماعية - اقتصادية متعددة استطاعت أن تحدد المحاور الأساسية لتطور الدول والشعوب.
وتحت دعاوى القومية ثارت أحداث أفضت في النهاية إلى اشتعال الحرب العالمية
الأولى.
وتمخضت هذه الحرب ذاتها عن تشكيل سلسلة من الدول القومية الجديدة, وهو
ما أكد أهمية وتأثير أفكار ومبادئ الهوية القومية. وتباينت صور القومية ما بين
قومية (برجوازية), وقومية (ليبرالية) إلى قومية (البرجوازية الصغيرة) والقومية
(الشوفينية) والقومية (الفوقية) وغيرها, وذلك لتصديق ودعم أهداف أيديولوجية سياسية
والوقوف خلف برامج اجتماعية - سياسية مستهدفة.
ويقدم الفصل الخامس كرنفالا من الأفكار التقليدية والحداثية عن مفاهيم
(الأمة والقومية). وينتقل المؤلفان في هذا الفصل من الخلفيات الأيديولوجية للحركات
القومية إلى مكانة الرمز والتقاليد في الفكر القومي (سواء كانا موجودين بالفعل أو
تم اختراعهما لتحفيز الشعوب). كما يُفصّل المؤلفان لأنواع القومية وتطورها
التاريخي. ومن الموضوعات الساخنة جغرافيا في هذا الفصل الخداع بالخرائط.
ويضرب المؤلفان لذلك مثال الجغرافي اليوغسلافي الشهير يفيجيتش الذي
(زيّف) في الخرائط الاثنية لمقدونيا - مستغلا شهرته الدولية والثقة الممنوحة له في
مؤتمر الصلح في باريس 1919 - ليخدم أغراضا مفادها (سحب) أراض مقدونية وضمها إلى
الصرب, وكانت المحصلة إذكاء الروح القومية للصرب وطموحهم للتوسع. ولعل هذه سابقة
جغرافية جاءت مبكرة للتوظيف السيئ للجغرافيا السياسية لاحتلال أي أرض يقطنها ناطق
بالألمانية في أوربا إبان العهد النازي.
وفي هذا الفصل أيضاً تناول لموضوعات وثيقة الصلة كحقوق السكان
الأصليين والتوجه نحو الاستقلال الذاتي, وتحليل الحركات القومية من زوايا مختلفة
كالنظر إلى القومية بوصفها مقاومة وفاعلا أساسيا في كفاح الشعوب ضد الاستعمار,
والكفاح القومي بوصفه صراعاً طبقياً, والنضال القومي بوصفه حركة ضد النظام.
التزوير الانتخابي على أساس جغرافي
لغير المتخصصين, قد لا تبدو ثمة علاقة قوية بين العملية الانتخابية
والخصائص الجغرافية. غير أن (المكان) هو ببساطة الملعب الذي تجرى فيه تلك العمليات
الديمقراطية المعروفة بالانتخابات. ويمكن أن يستغل (المكان) في الخداع والتزييف
الانتخابي. فالحكومات المحتكرة لعمليات رسم حدود الدوائر الانتخابية على دراية
بمواطن تركز الناخبين الذين سيدلون بأصواتهم للمعارضة, ومن ثم فهي لن تعدم الحيلة
في رسم حدود مكانية واسعة تشمل أماكن هؤلاء الناخبين (المعارضين) مع إعطاء هذه
الدوائر عددا من المقاعد يساوي العدد نفسه الممنوح لدوائر أصغر مساحة وأقل سكاناً
ولكنها ستصوت لأنصار الحكومة. وهذا التزوير الانتخابي هو إحدى الصور العديدة
للتزييف الانتخابي على أساس جغرافي. ومثل هذه التجاوزات غير الدستورية لا تُتهم بها
الدول الديكتاتورية فحسب, فتاريخ التزييف الانتخابي عبر العبث في الحدود المكانية
وعلى أسس جغرافية هو صناعة أوربية - أمريكية في الأساس. ونقلتها الدول الديكتاتورية
بشكل سافر فيما بعد.
والكتاب - في الفصل السادس منه - يقدم (قراءة جديدة لجغرافية
الانتخابات) من خلال دراسة موضوعات شديدة الترابط كتحليل المؤثرات الجغرافية في
التصويت الانتخابي, ومعالجة الأبعاد الجغرافية للتمثيل النيابي, والعوامل الجغرافية
المتحكمة في عملية الانتخابات. كما يتناول الكتاب في هذا الفصل خريطة تقلبات السلطة
التنفيذية من خلال مقارنة دول المركز بدول الأطراف, وكذلك معالجة جديدة لخريطة
الديمقراطية العالمية بتقسيم دول العالم إلى فئات حسب درجة الديمقراطية.
ويعرض الكتاب لأفكار عديدة في تبني وقبول الديمقراطية في دول العالم
المختلفة مع الرجوع إلى بعض الأفكار الكلاسيكية في هذا الشأن. من ذلك المفاهيم
المتناقضة في الأيديولوجيات الليبرالية والتي ترى أن جرعات الديمقراطية الزائدة في
دولة ما قد تنذر بوقوع الكارثة, وذلك لأن هذه الديمقراطية ستأتي بعناصر من الطبقات
الدنيا إلى سدة الحكم وسينتهي بهم الحال إلى نهب ثروات الشعب. ويختتم الفصل بتناول
العلاقة بين الانتخابات والديمقراطية الليبرالية بمقارنة هذه العلاقة بين دول
المركز ودول الأطراف. وقد قام المؤلفان بمراجعة ذلك في فترة الحرب الباردة بين
العالم الرأسمالي ونظيره الاشتراكي.
ولا بد لك حتى تقرأ هذا الكتاب الدسم المؤلف من جزأين - في كل جزء
أربعة فصول - أن تعقد العزم على أن تقتطع وقتا كافيا تجلس فيه إلى موضوعات تجمع
معالجتها بين الفكر النظري والتطبيقي, بين الأفكار التقليدية والحداثية, لأنك لن
تتلقى جرعة فكرية جغرافية فحسب بل وتاريخية وسياسية واقتصادية وقانونية في آن واحد,
ولكنها جميعاً تستحق منك القراءة والتأمل