مكتبة الإسكندرية نسيم مجلي تأليف: د. روي ماكلويد وآخرين

مكتبة الإسكندرية

كانت مكتبة الإسكندرية القديمة واحدة من أعظم المغامرات الفكرية في التاريخ, ثم اختفت هذه المكتبة منذ 1600 عام, لكنها باقية في الذاكرة الجماعية للشعوب, مصدرا للإلهام يستوحيه كل أولئك الذين يعملون من أجل ترقية البحث العلمي والسعي وراء المعرفة والانفتاح على الآخر, وانطلاقاً من أهمية إعادة افتتاح مكتبة الإسكندرية تأتي أهمية هذا الكتاب الصادر حديثا الذي كتب أبحاثه علماء وباحثون متخصصون في التاريخ والآثار والكلاسيكيات. تتناول هذه الأبحاث دور هذه المكتبة في جمع التراث الإنسانى وحفظه, وتطوير مناهج البحث في العلوم والرياضيات والفلك ونشر هذه العلوم والمناهج شرقاً وغرباً في عصر كانت فيه الإسكندرية البطلمية هى عاصمة الدنيا وسرة العالم.

وقد أشرف على هذه الدراسات وقدمها د. روى ماكلويد أستاذ التاريخ بجامعة سيدنى بأستراليا.

لم تكن مكتبة الاسكندرية مجرد مكتبة جمعت نصوص الكتب المعروفة للعالم في عصرها ثم دمرت بطريقة مأساوية, بل هي أكبر كثيرا من مجرد كونها مستودع كتب, وقد اختفت مكتبة الإسكندرية ليس بفعل حريق هائل بل لأنها كانت ضحية للاضمحلال البطيء عبر عدة قرون بعدما كانت مجتمعاً للباحثين والعلماء, وبهذا تجاوزت مهمة المكتبات القديمة في مصر وبلاد اليونان, وذلك نتيجة امتلاكها نظرة شاملة لتعدد الثقافات بين الأمم,بجانب رسالة تهدف إلى الوصول إلى عالمية المعرفة.وأمكن تحقيق هذه الرسالة نتيجة التحولات الهائلة التى أحدثتها إمبراطورية الإسكندر الأكبر وكذلك بفضل التزام لا مثيل له من البطالمة الأوائل لتدعيم أحلامهم بالميزانيات الضخمة. وفي هذا السياق أنجز مجتمع العلماء تراثاً هائلاً في مجال الفكر والعلم والأدب مازال يؤثر فينا حتى اليوم.

وعلى شكل طائر العنقاد قام صرح المكتبة الحديثة في نفس الموقع حيث كانت مكتبة الاسكندرية القديمة ذات يوم.

تمهيد الكتاب الذي جاء بقلم ماكلويد يشير إلى أن جمعيات كثيرة من أصدقاء مكتبة الإسكندرية تألفت في جميع أنحاء العالم, وأن جمعية الصداقة الأسترالية بمدينة (سيدني) اضطلعت بعدد كبير من الأنشطة والبرامج في الموسيقى والفن والأدب, وإسهاماً في هذا النشاط اتفقت مجموعة من أساتذة التاريخ والآثار والدراسات الكلاسيكية وانتهزت الفرصة للمشاركة في هذا الصرح الجديد وكانت ثمرة جهودهم هذا الكتاب.

ثم يتحدث ماكلويد في تقديمه لهذه الأبحاث عن الإسكندرية في التاريخ والأساطير بادئا بتعريف المصطلح فيقول إن النبيل والعلامة الإسبانى إزيدورالسفيلى الذى عاش في القرن السادس خصص فصلاً في كتابه الموسوعى حول الاشتقاقات اللغوية لكلمة De Bibliothecis فعرف Biblion بمعنى (scroll) أى لفافة من ورق الكتابة ثم عرف theke بمعنى ((depository أى مستودع وكلاهما أماكن, وأيضاً رموز للثقافة الغربية. وفي الروايات الأقدم التى سبقت هذا التعريف بسبعة قرون واستمرت بعده بزمن طويل ظهر تقليد بين الباحثين أسماه البعض / تاريخ أسطورة (المكتبة المختفية (vanished library) يقصد مكتبة الإسكندرية وتأثيرها. إن أصول هذه المكتبة تكمن بين الأصداء البعيدة لذاكرة الشعوب الأوربية وتنتظر منا أن نعيد اكتشافها.

بدأت القصة قبل إنشاء الإسكندرية ذاتها, إذ يقال إن (بيزاستراتوس) طاغية أثينا كان أول من أنشأ مكتبة. وهي التى حملها (إكسركسيس) فيما بعد إلى بلاد فارس. هذا العمل هو الذي أدخل لدى الملوك والمدن ذات السيادة تقليد البحث عن الكتب عند كل الشعوب وخاصة في البلاد الأجنبية والمهزومة, وعن طريق الترجمة يتم نقل محتوياتها إلى لغاتهم وإلى شعوبهم من أصحاب الثقافة المهيمنة. وطبقاً لقول إريان Arrian فإن الإسكندر الأكبر, أشهر تلاميذ أرسطو توقف في إحدى رحلاته عند نهاية الطرف الغربى لدلتا النيل, بين بحيرة مريوط والبحر الأبيض وقال إن هذا المكان هوأفضل موقع لتأسيس مدينة يمكن أن تنمو وتزدهر, وعندما نظر إلى أن المكان يقع بعيداً عن مزارات آلهة الأوليمب, أمر ببناء مكتبة وإهدائها لربات الشعر Muses في أهم المدن التى تحمل اسمه. انتشى خلفاء الإسكندر بالطموحات الإمبريالية فاجتهد البطالمة الثلاثة الأول في إطاعة تعليماته, وأقاموا هذه المؤسسة ذات التأثير البعيد المدى, والتى تركت تراثا هائلاً للتقاليد الفكرية الأوربية. هذا التراث يتم إحياؤه الآن باستعادة مكتبة الإسكندرية عند نهاية القرن العشرين.

يضيف ماكلويد أن قصة مكتبة الإسكندرية يمتزج فيها التاريخ والأسطورة. فمنذ عشر سنوات كتب كانفورا الإيطإلى رواية غير خيالية فحص فيها الوسط الثقافي لمصر الهللينستية عندما اختار حكام الإسكندرية أن يستعرضوا سلطتهم ونفوذهم من خلال تشجيع البحث العلمى والتحكم فيه وقد تبلور المشروع في مجتمع من الباحثين يعيشون داخل القصر في حى اليروكيوم وهوالحى اليونانى بالمدينة.

وواضح أن هذا المشروع السكندري إن لم يكن عملاً غير مسبوق بالنسبة لأغراض الملوك, فمن المؤكد أنه مشروع فريد من نوعه في المجال وفي التنظيم. إنها المرة الأولى في التاريخ التى يتم فيها التعهد بالانفاق على برنامج استعمار ثقافي, لكى يكون (مركزاً للحساب والتخطيط) بتعبير برونولاتور, ولمثل هذه الأسباب ذاتها, أنشئت فيما بعد المكتبات الملكية في جميع مراكز الثقافة الهللينستية. من أجل السمعة وحسن الصيت, والوعى الثقافي, وكذلك خدمة الأغراض العملية للإدارة والحكم. فضلاً عن ذلك, فإن مكتبة الإسكندرية على خلاف منافسيها في يرجاموم, سترحب بقدوم رجال العلم الإغريق للعمل فيها, ومتابعة بحوثهم في الرياضيات والطب وفي الأدب والشعر وكذلك في الطبيعة والفلسفة.

هكذا في هذا الموقع المثالي, عند ملتقى تجارة البحر المتوسط تم تدشين أول صناعة للتعليم من أجل تقدم الحكم والثقافة لأنهما هدفان جوهريان لأى حاكم يتصف بالنزاهة والعقل.

وتحت إشراف بطليموس فيلادولفس وبتشجيعه سنة 283 ق.م وفد إلى مصر ما أطلق عليه استرابو اسم سنودس (أي مجمع) ربما من 50-30 من رجال العلم اليونانيين لم يكن بينهم نساء, كأعضاء معينين بمرتبات حسب قائمة الأعمال المدنية, لتقديم خدماتهم كمعلمين, معفيين من الضرائب مع إقامة كاملة مجانية في الحي الملكي من المدينة حيث كانوا يتناولون طعامهم جماعياً في قاعة مستديرة تعلوها قبة, وفي الخارج كانت توجد فصول دراسية لأنه كان يطلب القيام بالتدريس من وقت إلى آخر.

من أوائل العلماء الذين دعاهم ديمتربوس الفاليرى للعمل بالمتحف كان إقليدس عالم الرياضيات المشهور. لقد سأله بطليموس سوتر ذات مرة عن طريقة سهلة لتعليم الرياضيات. فأجابه إقليدس بأنه ليس هناك طريق ملكي للتعليم. لقد جمع إقليدس كتابه (المباديء) في عصر بطليموس فيلادلفوس, وقام بتعليم أبوللونيوس البرجاوى (205-180ق.م) عالم الهندسة العظيم الذى كتب ثمانية كتب عن أقسام المخروط, توجد سبعة منها أربعة باليونانية وثلاثة باللغة العربية. . يقال إن بطليموس فيلادلفوس كان مغرماً بالحيوانات وقد احتوى قصره على حديقة حيوانات ومرصد. ومن عصر بطليموس الخامس (180-205ق.م) كان العلماء يقومون بتنظيم المباريات الرياضية, والمهرجانات والمسابقات الأدبية.

ظل المتحف أشبه شيء بمقر طائفة دينية يديرها كاهن. فإذا كان المعبد الرئيسى لأبوللو,في ديلفي ومعبد زيوس في الأوليمب فإن معبد ربات الشعر في الإسكندرية. بالقرب من المتحف كانت المكتبة , يديرها عالم برتبة أمين مكتبة, يعينه الملك ويتولى وظيفته كمعلم في البلاط الملكي ويقال إن بطليموس الثالث كتب إلى كل ملوك العالم, طالباً منهم إعارة كتبهم من أجل نسخها, وعندما أعارته أثينا النسخ الأصلية ليوربيدس, وايسخيلوس وسوفوكليس, أمر بنسخها ولكنه احتفظ بالأصول ورفض إعادتها. ويحكي جالينوس أن موظفي الجمارك كانت لديهم تعليمات بمصادرة الكتب من السفن المارة بالميناء.

ويلاحظ معظم الباحثين عدم ارتباط المكتبة أوالمتحف بأي مذهب فلسفي أو مدرسة فلسفية. وقد عرفنا أن الباحثين كانوا يتمتعون بقدر من الحرية الأكاديمية والوظيفية. لكن كانت هناك طرق لإنهاء التعاقدات.

هناك قصة تروى عن الشاعر سوتاديس وكان شاعراً موهوباً يتمتع بقدر كبير من الذكاء لكنه كان يفتقر إلى الكياسة. كتب هذا الشاعر قصيدة يسخر فيها من زواج بطليموس الثانى فيلادلفوس من أخته أرسينوى وحين كشف أمر القصيدة وضع الشاعر في السجن, لكنه هرب فقام أحد القادة بمطاردته حتى قبض عليه ثانية ووضعه في وعاء من الرصاص وألقى به في البحر حتى مات غرقاً.

سُرَّة العالم القديم

وفي مقال بعنوان (الإسكندرية: سرة العالم القديم) لأستاذ اللغويات الرحالة (ويندي برازيل) يقوم عن طريق رحلة يمتزج فيها الواقع بالخيال بعملية استطلاع للأماكن المهمة والوقوف أمام ما يرويه المؤرخون والأدباء يتأمله ويعبر عن ذلك بنوع من الشجن فنحس في بعض الأحيان أنه يبكي على الأطلال خصوصاً حين يحكي عن المفاتن التي كانت تزين هذه المدينة وعن أشهر زوارها من الأباطرة ورجال السياسة والفلاسفة والشعراء ويبدأ بقول فيلوجودايوس الفيلسوف اليهودى اليونانى الذي ولد في الإسكندرية عام 15ق.م, بأن المدينة كانت تنقسم إلى خمسة أقسام بأسماء حروف الهجاء اليونانية آلفا, بيتا, جاما, دلتا ثم ابسيلون. كان حى بيتا في الشمال, وكان يضم القصور الملكية, والمتحف وضريح الإسكندر, أما حي دلتا فكان موقعه ناحية الشرق ويعرف بالحى اليهودى, لكن الأحياء الثلاثة الباقية لم تعرف حدودها على وجه التأكيد.

ثم يزور ضريح الإسكندر الذي كان من أهم معالم المدينة واختفي في القرن الرابع الميلادي ولم يعد يعرف له مكان. يستحضر الكاتب ذكريات هذا الموضوع ويقول (الجثمان مازال أمامنا, لكنه ليس في كفنه الذهبي الأصلى( لأن الذهب سرقه بطليموس الحادي عشر الذي سمي (القرمزى) , و(المغتصب) .الكفن الحالي مصنوع من مادة شفافة من الألباستر أوالزجاج ويرقد الجثمان الآن وأنفه مكسور, لأنه عندما جاء أوكتافيوس قيصر إمبراطور روما إلى الإسكندرية طلب أن يرى الجثمان, لكنه لم يكتف برؤية الجثمان بل لمسه بسبب هذا كُسرت قطعة من الأنف. ثم يختم رحلته بأن يحكي لنا عن أيام أنطونيو وكليوباترا الأخيرة, وهي قصة معروفة.

وعن (ديدان الكتب) في مكتبة الإسكندرية يخصص روبرت بارنز بحثه الطويل, الذي يبدأه بالكلام حول تأسيس المكتبة وبطليموس الأول (سوتر) أي المنقذ ويقول إنه كانت لديه اهتمامات فكرية كبيرة, وأنه كتب تاريخ الإسكندر الأكبر, ونجح في إغراء المفكرين الإغريق بالمجيءإلى الإسكندرية وكان أشهرهم ديمتريوس الفاليري, وهو فيلسوف أرسطي, وسياسي من أثينا. وآخرين من بينهم الشاعر فيليتاس القوسي, وزينودوت الأجرومي من افسس, واسترابو وهو فيلسوف أرسطى أصبح معلماً لبطليموس الثاني فيلادلفوس وفي عهد الأخير جاء الإسكندرية كثير من العلماء والشعراء.

يسجل استرايو على أساس معرفة شخصية أن المتحف كان جزءاً من القصور الملكية. وإن الرعاية الملكية كانت أمراً حاسماً بالنسبة للمتحف. البطالمة الأوائل الذين كانوا من رجال الفكر, حافظوا على تمويله, لكن في القرن الثاني ق.م بدأت الأسرة المالكة تواجه مقاومة متزايدة من المصريين, وكذلك تهديدات خارجية فتقلصت مساندتهم للبحث العلمي.

أسس بطليموس الأول عبادة سيرايبس, وهي (ربة مركبة من الآلهة المصرية أزوريس وأبيس), التى قدر لها أن تلعب دوراً مهماً في الدعاية السياسية للأسرة البطلمية. وقام خلفاؤه بتأسيس معبد السيرابيون في حي راكوتيس الشعبى بالإسكندرية, وقد أصبح هذا المعبد مكاناً لمكتبة ثانية, سميت المكتبة الابنة, التى يبدو أنها بقيت بعد دمار المكتبة الرئيسية.

وعندما تولى دمتريوس الفاليري مسئولية المكتبة أغدقت عليه الأموال بقصد الحصول إذا أمكن على جميع كتب العالم, ويضيف استرابو أنه حينما سئل الفاليري في أثناء حضورالملك عن عدد الكتب بالمكتبة قال (أكثر من مائتي ألف يا مولاى وسوف أحاول في أقصر وقت أن أصل إلى رقم الخمسمائة ألف). كما وافقه الملك على ترجمة كتب الشريعة اليهودية وأمر بمخاطبة الحاخام الأكبر في هذا الشأن.

حكايات حول النهاية

ومن أهم الأمور التى يناقشها هذا البحث موضوع النهاية المأساوية لمكتبة الإسكندرية.

يورد الكاتب أهم الروايات القديمة ويخلص منها إلى أن جميع المكتبات العامة بالإسكندرية قد دمرت في القرن الرابع الميلادى, ثم يناقش القصة التى تروى عن حرق العرب لمكتبة الإسكندرية عندما فتحوا المدينة سنة 642م, ويقول: (لقد ظهرت هذه القصة لأول مرة عند أبى الفرج (وهو مؤرخ عربى مسلم في القرن الثالث عشر الميلادى) وخلاصتها أن كاهناً مسيحياً اسمه يوحنا النحوي, قد تقرب من الفاتح العربى عمرو بن العاص وطلب منه كتب الحكمة الموجودة في الخزائن الإمبراطورية على أساس أن هذه الكتب سوف تكون قليلة الفائدة بالنسبة للعرب, فـــكتب عمرو بن العاص يطلب رأي الخليفة عمر بن الخطاب الذي أجابه ( فيما يختص بالكتب التى ذكرتها, فإذا كان ما هومكتوب فيها يتفق وكتاب الله, فلا حاجة لنا بها, وإذا كان يختلف مع كتاب الله فإنها مرفوضه وعليك بحرقها).

فأمر عمرو بن العاص بإرسال الكتب لاستخدامها كوقود لحمامات الإسكندرية, وكما أشار الفريد بتلر إلى أن هناك اعتراضات كثيرة على هذه القصة! لأنها ظهرت بعد ستة قرون من الفتح العربى لمصر, وأن يوحنا النحوي هو الفيلسوف يوحنا فيلوبونوس, الذي لابد أنه مات قبل هذا التاريخ! وينتهى روبرت بارنز إلى أن جميع المكتبات العامة بالإسكندرية قد دمرت بنهاية القرن الرابع الميلادى ولا يوجد ذكر لأى مكتبة في الأدب المسيحي المكتوب بعد هذا التاريخ.

ثم يقول: ومن المثير للشك أيضاً أن الخليفة عمر قد أبدى نفس الملاحظة حول الكتب التي وجدها العرب أثناء غزوهم لبلاد فارس. باختصار فإن هذه القصة دليل على استمرار الأساطير حول المكتبة بعد أن اختفت بزمن طويل.

وفي بحث ممتع ومثير حول أعمال أرسطو,يحل لنا د.جودفري تانر خبير المكتبات والباحث الكلاسيكي لغز التاريخ المعقد الذي واكب وصول أعمال أرسطو إلى الإسكندرية: إن محاولاته لحل هذا اللغز تتناول الأعمال التي أخذها بطليموس وحده, وتلك التي وصلت إلى المكتبة سنة 40ق.م تقريباً, وهي مادة للدراما البوليسية كما يقول روي ماكلويد.

وفكرة البحث قوامها أن هناك مصدرين لنقل أعمال أرسطومن العالم القديم إلى العالم الحديث: أولهما ما تناقله القدماء من أن أعمال أرسطو قد ورثها ثيوفراستوس خليفة أرسطو, وأنها دفنت فيما بعد, ثم بيعت ثم نسخت في روما ومن ثم عرفت بعض النسخ طريقها إلى المكتبة في زمن الرومان.

والمصدر الثانى يقوم على نظرية أخرى هي مثار للجدل الشديد ولكنها قد تكون هي الأهم وتؤكد أن هناك مجموعة من أعمال أرسطو التي أخذت عن الأعمال التى أعدت في ميزا Meiza من أجل تعليم الإسكندر الأكبر وهذه الأعمال إما أن الإسكندر قد منحها للإسكندرية أو أن بطليموس قد اغتصبها فيما بعد ووضعها في المكتبة.

فكر أرسطو

ويوضح د.تانر أن هاتين الروايتين تعرضان لنا فكر أرسطو في مرحلتين من مراحل تطوره التاريخى وهي ما يمكن أن نسميه بالمرحلة التربوية وهي تضم كتابات أرسطو الأربعة المسماة أعمال غير علمية وهى الشعر, والأخلاق, والسياسة, والخطابة. أما الأخرى فيمكن أن نسميها أعمال أرسطو الفلسفية الكبرى.

لقد اختار فيليب الثاني ملك مقدونيا الفيلسوف أرسطو ليقوم بتعليم ابنه الإسكندر, وبدأ تعليم الإسكندر سنة 343 ق.م عندما كان ذلك الأمير في الثالثة عشرة من عمره, لكن الجدل مازال مستمراً حول ما إذا كان الإسكندر قد تلقى تعليمه منفرداً أم معه مجموعة من أولاد الأسرة المالكة.

ويعتقد مستر تانر أن التعليم كان جماعياً يهدف إلى تدريب جماعة من أقران الإسكندر الشباب على الولاء له ومشاركته مثله وأهدافه في إدارة تلك الفتوحات الآسيوية التي كان والده يفكر فيها. ثم يشير إلى نمط التعليم الذي تلقاه الإسكندر فيقول: إن أثينا كانت تهدف من التعليم إلى إعداد مواطن صالح قادر على تولي المناصب العامة في دولة المدينة في أوقات السلم والحرب. وكان هذا النمط يؤكد أهمية التربية الرياضية والتدريب على استعمال السلاح ثم الموسيقى والخطابة. ويقال إن أرسطو أعد للإسكندر بحثين أحدهما حول (النظام الملكي) والثانى عن (المستعمرات) كما أعد له نسخة خاصة من هومر حملها الإسكندر معه حتى وفاته. ثم يتابع د.تانر بحثه حول مجموعة أعمال أرسطو التي يعرفها بأنها الكتابات التي وصلت إلى أوربا في ترجمة عربية تمت في سوريا وفي بغداد في ظل حكم الأمويين والعباسيين والتي ترجمها باحثون كان معظمهم من المسيحيين النسطوريين الذين يتكلمون السريانية, أو العلماء اليهود. وهو يتناول بالتفصيل سمات هذه الأعمال ومحتوياتها. ثم ينتقل إلى محاولة تحديد كتب أرسطو التي كانت موجودة بمكتبة الإسكندرية. إلى أن يصل في النهاية إلى دراسة حول بنية الأعمال غير العلمـية وهـــي تفاصيل لا مجال لها هنا.

وعن المنح الدراسية والعلاقة بين النظرية والممارسة العملية يتحدث جون فالانس وهو أستاذ العلوم القديمة ومؤرخ لعلوم الطب, ويقرر أن المتحف والمكتبة أديا إلى ازدهار غير عادى للعلوم التجريبية التي ساعدت أفراداً من العظماء لأول مرة على أن يتحرروا من المعوقات الفكرية للفلاسفة ثم ينقل رأي هيروديت الذي سجله في القرن الخامس ق.م من أن مصر كانت تعج بالأطباء وبعد زيارته بقرنين وصل الأطباء اليونان بأعداد كبيرة للزيارة أوللإقامة حتى أن علم الطب في الفترة بين أرسطو وجالينوس كان يوصف دائماً بأنه (إسكندراني) وكان جالينوس يشير دائماً إلى فرص التعليم والتدريب التي كان يتمتع بها الأطباء في الإسكندرية في القرون السابقة عليه.

لكن جون فالانس ينكر تمتع الأطباء بالرعاية الملكية أو أن الدراسات الطبية كانت جزءاً من برنامج المكتبة. ثم يسخر من الفلاسفة الأطباء الذين كانوا منهمكين في دراسة كتب الطب القديمة النظرية, ويسميهم ديدان كتب. لكن التطور استمر معتمداً على تراث التشريح المصري, ومن أشهر الأطباء الذين تمتعوا بالرعاية الملكية يذكر هيروفيلوس وارازيستراتوس وكانت الصلة التي تربط بينهما هي أنهما كانا يتبادلان بحوثاً تفصيلية في الجسم البشري عن طريق تشريح جثث المجرمين الذين كانوا يرسلون خارج السجون بأمر الملك.

الطب في المكتبة

والخلاصة أن وجود المكتبة قد ساعد على دراسة الأعمال المبتكرة في نظرية الطب بأساليب جديدة, وأنها ساهمت في إبراز طائفة عظيمة من أكثر الأطباء انشغالاً بالممارسة العملية.

وفي الاتجاه الخاص نفسه بدراسة العلاقة بين النظرية والتطبيق يمكن تصنيف مقال (مسرح بافوس ومسرح الإسكندرية) للأستاذ ريتشارد جرين الذي يطرح فيه بعض أفكاره حيث يقول (بالنسبة للإغريق في البلاد الأجنبية أوالمفتوحة حديثاً, فإن المسرح يعد مؤشراً إلى الأغرقة (أي الطابع الإغريقي), وكان المسرح نشاطاً متقدماً لا تشاركهم فيه الشعوب الآخرى.

مستر ريتشارد جرين مؤرخ للتاريخ القديم ومؤرخ للمسرح وهو يستخدم خبرته ومعرفته في مسرح القرن الرابع في بافوس, العاصمة البطلمية لقبرص, ليكشف عن الميراث الثقافي والمنهجي الذى تركته الإسكندرية ثم يشير إلى أن الحفريات التي تقوم بها جامعة سيدنى في مدينة بافوس منذ ثلاثة مواسم, توشك على التوصل إلى استنتاج عن شكل المسرح السكندري الذي يحمل وجوه تشابه دقيقة مع المسرح الكلاسيكي اليوناني. وهذا البحث يهم الباحثين في المسرح والدارسين للمعمار المسرحي بوجه خاص.

وفي البحث قبل الأخير تحاول باترشيا جونسون المدير المساعد السابق لمتحف جامعة سيدني أن تجري تقييما لمساهمة الإسكندرية في حماية الفكر الفلسفي الإغريقى حيث تقول: لعل أعظم إنجازات الإسكندرية كان يتمثل في قدرتها على استقبال حكمة العالم الهللينستي وتوليفها مع الأفكار الجديدة.

فقد ورث العالم الهللينستي طريقتين عظيمتين للتأمل هما: ديانات الأسرار ومدارس الفلسفة الإغريقية التي أخذت في التقارب والتوحد في نظرية فكرية واحدة جديدة, وقد قام بهذه المبادرة فيثاغورث صاحب العبقرية الرياضية العظيمة. وقد أعقب ذلك ظهور فلسفة أفلاطون التي تميل إلى التصوف في القرن الرابع (427-337).

وكان لهاتين الفلسفتين - مذهب فيثاغورث ومذهب أفلاطون - أكبر الأثر في أغرقة الجزء الشرقي للبحر المتوسط بين القرن الرابع والقرن الأول ق.م وهى حركة فكرية حققت أرقى تعبير لها بفضل الوسط الذي وفرته ثقافة الإسكندرية المتروبوليتنانية العظيمة.

ما وراء اللهب

وفي آخر مقال يتطلع جون وارد في الأفق البعيد, إلى ما وراء ألسنة اللهب التي أحرقت مكتبة الإسكندرية ويتحدث عن أوربا العصر الوسيط أو ما نسميه عصور الظلام التى اختفت فيها المكتبات العامة تقريباً ولا يجد ما يقارنه بمكتبة الإسكندرية غير المكتبة التي صورتها رواية (اسم الوردة) التى كتبها أمبرتو إيكو.. وهي مكتبة خيالية لم توجد قط.

يشير جون وارد إلى ما تبقى من تراث الإسكندرية في عصر الملوك الكارولنجيين ويتساءل إلى أي مدى كان يمكن لحالة أوربا في عصرها الوسيط أن تختلف عما كانت عليه حقيقة لو أن مكتبة الإسكندرية لم تدمر أوتتلاشى من الوجود.

وفي الختام نعود إلى مقدمة روي ماكلويد لنلتقط هذه العبارات الجميلة التى تبشر بالأمل وتعبر عن قوة العزيمة لدى هؤلاء الكتاب إذ يقول:

هذه المقالات في جملتها تشكل مقدمة لعمل جديد صادر عن منظور واسع للدراسات الأدبية والتاريخية مبعثه قوة نبض الإسكندرية,والمقالات تمثل تلاقياً بين الأثار واللغة وتاريخ الفلسفة والطب, وكذلك الرحلات من خلال مفهوم تقليدي يرفض أن تظل الإسكندرية ضائعة في طوايا الخرافات والأساطير دون أن نقوم بإعادتها إلى الحياة من جديد

 

نسيم مجلي

 
 




غلاف الكتاب