حياة أحمد أمين.. الكتابة في مواجهة النهاية جابر عصفور

حياة أحمد أمين.. الكتابة في مواجهة النهاية

بعد أن انفض عنه الجميع وأنهكه المرض وضعف البصر, جلس أحمد أمين في مواجهة ذاته وأمسك القلم في محاولة منه لدفع نذر النهاية.

إذا كانت (الأيام) الشهيرة لطه حسين تفجّرت إبداعيا مع تصاعد أزمة كتاب (في الشعر الجاهلي) سنة 1926, حين ثار الثائرون على طه حسين, واتهموه بالكفر, وصادروا كتابه, وعملوا على طرده من الجامعة, وتقديمه للمحاكمة, وآذوه في مشاعره, كما آذوا أفراد أسرته على نحو ما تحكي زوجه في كتابها الذي كتبته بالفرنسية بعنوان (معك) وترجمه محيي الدين عرودكي - أقول إذا كانت (الأيام) الشهيرة تفجر الدافع إلى كتابتها في سياق أزمة حادة, فإن كتاب أحمد أمين (1886-1954) (حياتي) جاء في سياق مشابه رغم اختلاف التفاصيل والتوجهات. وكان طه حسين (1889-1973) في السابعة والثلاثين من عمره حين عانى الأزمة الحادة التي ترتبت على كتابه (في الشعر الجاهلي) والتي واجهها باستعادة حياته التي وضعها موضع التأمل, ليعيد وعيه بما فعلته (الأيام) وما فعله فيها وبها, أما أحمد أمين, فكان في الثامنة والستين من عمره حين قرر أن يكتب حياته, وأن يستعيدها متأملا مغزى الرحلة ومعناها, فضلا عن إنجازاتها التي لم تتحقق بسهولة, بل بالصبر على المكاره, والإصرار على المواجهة, إلى أن شعرت الذات بقرب النهاية فانتابتها رغبة استعادة كل شيء لتأمله, خصوصا بعد مجموعة متتابعة من الأحداث الصادمة التي تضع الوعي في مواجهة نفسه, أو في مواجهة حضوره المتعامد على الزمن والوجود. ومن هذه الأحداث التي عاناها أحمد أمين انفضاض الكثيرين من حوله بعد أن لم يعد له منصب ينفع أو يضر, والتدهور الحادّ في عينيه اللتين ظلتا نافذته على عوالم المعرفة اللانهائية التي عشقها, والجلطة التي أسلمته إلى شلل نصفي لم تذهب آثاره إلا بعد شهور مريرة. وكلها أحداث تترك الذات في مواجهة النهاية التي لا تقاومها إلا بالكتابة, الكتابة التي تنتزع الوجود من العدم, وتمنح الحياة معنى بإعادة اكتشاف ما مضى منها لمواجهة أقل القليل الذي بقى فيها. وليس من الغريب - والأمر كذلك - أن يفرغ أحمد أمين من صياغة الطبعة الأولى من (حياتي) قبل وفاته بأربع سنوات, فقد أنهى كتابة المقدمة في بيته بالجيزة في السادس والعشرين من مارس 1950, وتولى تنقيح هذه الطبعة والزيادة عليها بما يساير السنتين الأخيرتين في الثامن عشر من ديسمبر سنة 1952, وكان ذلك قبل عامين فحسب من وفاته.

مؤكد أن دافع كتابة السيرة الذاتية التي أخذت عنوان (حياتي) في حال أحمد أمين يختلف عن دافع الكتابة التي أخذت عنوان (الأيام) في حال طه حسين, وهو اختلاف راجع إلى التباين الحاد بين الشخصيتين اللتين تقاربتا كل القرب لسنوات طويلة, وتباعدتا كل البعد لسنوات غير قليلة, فالطبيعة العقلانية الهادئة لشخصية أحمد أمين تخالف الطبيعة الصدامية المقتحمة لشخصية طه حسين, والتضاد بين الشخصيتين أشبه بالتضاد الرمزي الذي يقيمه دارسو الأساطير والفنون بين رمزية (أبوللو) الإله اليوناني الوثني الذي يرمز إليه قرص الشمس بوضوحه وسطوعه وتحدده, والإله الوثني النقيض (دينسيوس) الذي يقترن بالليل وغموضه واندفاعات عواصفه وأعاصيره المقترنة بجموحه واندفاعه وتلهبه. ولذلك كانت حياة طه حسين عاصفة متصلة, لا تهدأ إلا لتندفع من جديد, مثيرة حولها غبار الطلع وزوابع الرفض وفيضا من الأسئلة التي لا نهاية لها. ومن الممكن تقسيم حياة طه حسين بلحظات هبوب العاصفة المتصلة التي تجسدت فيه, سواء في صدامه مع مشايخ الأزهر الذين حرموه من العالمية, أو مخالفته المناهج السائدة في أطروحته الأولى التي كانت أولى درجات الدكتوراه التي تمنحها الجامعة المصرية سنة 1914, حين كتب عن (تجديد ذكرى أبي العلاء) فأثار بكتابته المشايخ الجامدين والمتدينين المتعصبين. وهو الأمر نفسه الذي فعله سنة 1926 عندما قلب الحياة الفكرية والجامعية رأسًا على عقب بكتاب (في الشعر الجاهلي). وتكررت العواصف في مطلع الثلاثينيات, حين طرد من الجامعة سنة 1932, وفي الأربعينيات حين كتب ما كتب عن (المعذّبين في الأرض), وفي مطلع الخمسينيات حين تجسّد فيه وزيرا حلم (الوفد) العام وحلمه الخاص بأن يكون التعليم والثقافة كالماء والهواء حقا لكل مواطن.

شخصيتان متناقضتان

ومن المؤكد أن شخصية طه حسين الحدّية, النارية, المندفعة, ظلّت على النقيض من شخصية صديقه أحمد أمين الذي ولد قبله بثلاث سنوات, وتوفي قبله بتسع عشرة سنة. وأتصور أن ما جمع بينهما في صداقة عميقة طويلة هو رغبة مشتركة في أن يكمل كل نظير نظيره, عقلانية أحمد أمين الهادئة وحدّية طه حسين العاصفة, وما فصل بينهما هو تنافر الطباع الذي كان لابد أن ينتهي في لحظة تستبدل رغبة التكامل بحتمية المواجهة, وانقلاب الصديق الهادئ الصابر المتسامح على نقيضه الذي لا يعرف الحلول الوسطى, أو التوسط بين الأضداد. وأتصور أن طبيعة أحمد أمين الهادئة المثابرة أتاحت له من الصبر ما أكمل به ما بدأه مع صديقيه طه حسين وعبدالحميد العبادي من مشروع التأريخ للحضارة العربية في جوانبها المختلفة, السياسية والفكرية والإبداعية. وقد اتفق الثلاثة على أن يتولى طه حسين التأريخ للحياة الأدبية, في مسيرة الحضارة العربية, والعبادي الحياة السياسية, وأحمد أمين الحياة الفكرية, ولم يكمل طه حسين وعبدالحميد العبادي ما وعدا به, ومضى أحمد أمين وحده, حاملا عبء إنجاز ما حلم به الثلاثة, فأنجز كتابه العلامة في تاريخ الثقافة العربية. أعني ثلاثيته الرائعة التي بدأت بكتاب (فجر الإسلام) في جزء واحد, وانتقلت إلى (ضحى الإسلام) بأجزائه الثلاثة, ثم (ظهر الإسلام) بأجزائه الأربعة, وما كان يمكن إنجاز هذا الكتاب - الموسوعة إلا بصبر طويل, وتفرغ كامل لسنوات, وحياة هادئة منظمة, حياة لا تعرف الانفلاتات الديونسية, ولا تقلبات التمرّد الحديّة, بل تعرف الوضوح الأبوللوني الشمسي بنظامه الساطع, وتحدده القاطع, وتتابعه الذي لا يعرف الملل, كما تعرف العقل الذي يحب النظام حبّا شديدا, حيث كل شيء في موضعه وكل شيء في وقته.

والذات الهادئة التي يحكمها هذا العقل الأبوللوني لا تحب البتّ السريع في الأمور, ولا تحسمها إلا بعد تفكير طويل. وحياتها اليومية حياة لا تخلو من رتابة التكرار, كأنها قطار لا ينحرف عن السير على قضبانه, فلا مغامرات ولا مفاجآت, تصحو قبل الشمس دائما مهما تأخرت في النوم, والعمل بعد اليقظة هو الشعيرة الثابتة التي تتخلل أسئلتها. النوم, قبل الكتابة أو أثناءها, والهدوء التام أثناء الكتابة هو لازمة هذه الشعيرة التي تمارسها ذات تؤثر الوحدة التي تتيح لها العمل الهادئ, والعزلة التي تبعدها عن المشكلات, منطوية على إيمان ديني عميق لا يخلو من نزعة صوفية, مفعمة بالحب الذي يقترن بالتسامح, والاتزان الذي يؤمن بالاختلاف, فمن خصال هذه الذات توسّطها بين المتناقضات والجمع ما بين مذهب أهل السنة ومذهب النشوء والارتقاء, أو بين مذهب الجبر ومذهب الاختيار, أو بين كتب خطية قديمة في موضوعات قديمة, قد أكلتها الأرضة ونسج الزمان عليها خيوطا, وأحدث الكتب الأوربية فكرا وطبعا وتجليدا. وإذا طاف طائف الإلحاد بفكر هذه الذات لم تطاوعها طبيعتها. وإن شك عقلها حينا آمن قلبها دائما, ولذلك فساحتها تسع الجميع, ومحبتها تصل ما بين السكّير والزاهد. الفاجر والعابد, وتجيد الاستماع كما تجيد الصبر على تقلبات العقول.

مقدمة عقلانية

وأول ما يلفت الانتباه في اختلاف السيرة الذاتية لأحمد أمين هو أنها تبدأ بمقدمة ولا تدخل موضوعها مباشرة. والمقدمة عقلانية على نحو لافت, تبدأ مباشرة بتأكيد التهيب من كتابة السيرة الذاتية, وتعقلن ذلك بتبرير مؤداه أن كل كتاب سبق كان موضوعه خارج الذات. وذلك بما يجعل الموضوع هو المعروض والذات هي العارض, الموصوف وهي الواصف, أما السيرة الذاتية ففيها يغدو الكاتب العارض والمعروض. والواصف والموصوف, والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة, والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته, والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أو صديق, أو بمحاولة للتجرّد تم توزيعها على شخصيتين, ناظرة ومنظورة, وحاكمة ومحكومة, وما أشق ذلك وأضناه, والعقلنة التي تمضي فيها المحاجة دالة بقدرتها على التجريد والتنظير, ولافتة في منحاها الذي يعلو على الوقائع ليفلسفها. وتشبيه المرآة أوضح من أن ألفت النظر إليه, فكتابة الذات عن نفسها لا تتحقق إلا بانقسامها إلى ذات ناظرة وذات منظور إليها, وذلك في درجة متميزة من الوعي الذاتي الذي يغدو فاعلا للوعي, وموضوعا له على السواء. وأغلب مَن كتبوا سيرهم الذاتية لا يلجأون إلى مثل هذه المقدمة الفلسفية, ولا يحتاجون إلى كل هذا القدر من العقلنة, وإنما يستسلمون على الفور لتداعيات الذاكرة من اللحظة الزمنية المحددة أو غير المحددة التي يبدأ بها سرد الذات الناظرة عن تاريخها المنظور إليه.

وعندما أقول اللحظة الزمنية غير المحددة, أضع في اعتباري استهلال طه حسين لكتابه (الأيام) حيث نقرأ): (لا يذكر لهذا اليوم اسما, ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة, بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتا بعينه, وإنما يقرّب ذلك تقريبا). هذا التقريب الذي يتحدث عنه طه حسين هو النقطة التي تنتسب إلى زمن غائم, يقع بعيدا في اللاوعي, ويستخرجه الوعي من مكمنه, كي تستبين العين رؤية الأشياء البعيدة بين الضباب. وضمير الغائب الذي هو ضمير متكلم غير مباشر وسيلة لتباعد الذات عن موضوعها, كي تبقى على المسافة اللازمة بينها والموضوع الذي تتأمله. وليس هذا النوع من اللاتحدد أو التقريب الذي يتأمل الأحداث الغائمة, هو ما نراه في مقدمة أحمد أمين أو سيرته, وإنما الحسم الواضح الذي يقترن بضمير المتكلم المباشر والصريح, والذي يستهل سيرته أو مسيرته بقوله:

(ما أنا إلا نتيجة حتمية لكل ما مرّ علي وعلى آبائي من أحداث, فالمادة لا تنعدم وكذلك المعاني, وكذلك الشأن في العواطف والمشاعر والأفكار والأخيلة, تبقى أبدا, وتعمل عملها أبدا, فكل ما يلقاه الإنسان من يوم ولادته, وكل ما يلقاه أثناء حياته, يستقر في قرارة نفسه, ويسكن في أعماق حسّه, سواء في ذلك ما وعى وما لم يع, وما ذكر وما نسي, وما لذّ وما ألم, ولو ورث أي إنسان ما ورثت, وعاش في بيئة كالتي عشت, لكان إياي أو ما يقرب مني).

ولكن قوانين الوراثة الجبرية التي ينطق بها ضمير المتكلم, مستهلا سيرته, سرعان ما تتقبل منطق الاختلاف, فالإنسان الذي هو جرم صغير, وفيه انطوى العالم الأكبر, لو نظرت إليه من منظور وجدته كلاً متشابهًا, ولو نظرت إليه من منظور مغاير وجدته متفرّقا مختلفا, فمن الناحية الأولى تستطيع أن تقول: ما أشبه الإنسان بالإنسان, ومن الناحية الثانية تقول: ما أوسع الفارق بين الإنسان والإنسان, والنتيجة هي ما يؤكده ضمير المتكلم من أن ناطقه عالم وحده, تقع عليه الأحداث فينفعل بها انفعالا خاصا به, وأنه يروي من الأحداث ما تأثرت به نفسه, ويترجمها بمقدار ما انفعل به شعوره وفكره.

ومعنى ذلك أن أحمد أمين يلفت انتباهنا - منذ البداية - إلى أنه سيتبع في الكتابة عن حياته طريقة الموضوعية النسبية, أي الموضوعية التي تحاول فيها الذات أن تتباعد عن نفسها لتراها على نحو ما هي عليه, في نوع من الحياد الذي يليق بانقسام الذات الذي يجعل منها فاعلا للإدراك وموضوعا له, فلا تغلب مشاعر اللحظة المتغيرة لفعل الكتابة ملامح الكتابة التي تغدو - بعد انتهاء الفعل - ثابتة ودائمة. ولكن الموضوعية بمعناها المطلق عسيرة التحقق في هذا المجال, فالذات الفاعلة للإدراك هي بعض موضوعها المدرك والناظر فيها هو المنظور إليه الذي يسقط نفسه على الناظر بأكثر من معنى, تماما كالمفعول الذي يتعدى فاعله بصفاته, ولذلك فالموضوعية المشتهاة محكومة بنقيضها الذي تقاوم جموحه, وجموح الموضوع - وإن عَقَل الذات الفاعلة للإدراك - يستبدل بدلالة الموضوعية الكاملة الموضوعية النسبية التي تعني نوعًا من التوازن بين مبدأ الرغبة ومبدأ الواقع - إذا جاز أن نستخدم المصطلح الفرويدي.

وأذكر أنني في المرات التي قرأت فيها (حياتي) لأحمد أمين في مطلع الشباب, أو ميعة الصبا, كنت أعبر على هذه المقدمات والتأويلات الفلسفية, وأدخل في السيرة مباشرة, ابتداء من الواقع الملموس الذي عاشته أسرة أب في بلدة (سمُخراط) من أعمال البحيرة, وأمضي مع الوقائع والأحداث التي لا تخلو من التشويق. ولكني - وأنا أكتب هذا المقال - أتوقف عند ما كنت أعبره صغيرا, وأرى دلالته التي تتصل بصفة العقلنة الملازمة للملامح الأبوللونية من السيرة الذاتية, خصوصا من حيث التجريد الذي تتسم به, والقدرة على الإجمال قبل التفصيل, والكشف عن العقل الذي يكتب عن نفسه مدّعيا الحياد إلى حد بعيد, حريصا على الموضوعية التي تدفعه إلى تأمل تاريخه الفردي بوصفه نتيجة حتمية لعوامل جبرية لا يمكن أن تنتج إلا ما أنتجت.

بوح دون الاعتراف

والواقع أن هذا الإعلان يكشف عن منحى عام في فن السيرة الذاتية العربية منذ ازدهارها مع الجيل الذي تولى قيادة الحياة الثقافية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى, وفي أعقاب ثورة 1919 التحررية, جيل طه حسين ومحمد حسين هيكل والعقاد والمازني وأحمد أمين وبقية الأقران الذين كتبوا السيرة الذاتية, أو وضعوا سيرتهم في قالب روائي يباعد بينهم وبين البوح المباشر. ولكن هذا البوح لم يصل إلى مداه الاعترافي قط, حيث لم يذكر واحد منهم - في كتابة سيرته الذاتية - كل الحق حتى وإن لم يذكر سوى الحق. ومقارنة سريعة بين ما كتبه - مثلا - الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو من سيرة حياته في (الاعترافات) وما كتبه أحمد أمين في (حياتي) أو طه حسين في (الأيام) أو هيكل في (مذكرات الشباب) أو العقاد في (أنا)...إلخ. تجد أن الحقيقة لا تذكر كاملة, والبوح لا يمضي إلى نهايته, والحديث عن النفس يتم بضروب من اللباقة وأفانين من اللياقة, قد تختلف هذه الضروب والأفانين من كاتب إلى آخر من الذين ذكرتهم, لكنها تظل في النهاية محكومة بدرجة من التحرج في المضي مع تداعيات الذات إلى مداها العفوي, وذلك على نحو يفرض نوعًا من الرقابة الذاتية التي تبتعد عن حساسيات الجنس أو تجاربه الباكرة أو اللاحقة, ومشكلات العقيدة في توتراتها أو شكوكها, ومواقف السياسة أو الأخلاق التي لا تخلو من رقابة, وكما نقرأ (الأيام) من أولها إلى آخرها, فلا نجد خطأ دالا لطه حسين, أو لحظة ضعف إنساني, أو حيرة ميتافيزيقية عاصفة, أو انغماسا في جنس, أو تجارب ممنوعة, نجد الأمر نفسه عند أحمد أمين, حيث الذات لا تتحدث عن نفسها إلا من خلال مصفاة اللباقة واللياقة.

والمبدأ الحاكم هو الوعي الاجتماعي الصارم الذي تتشرّب الأنا نواهيه ومبادئه منذ الصبا, فتتمثل المعايير التي تتحكم فيما يقال وما لا يقال, المنطوق به والمسكوت عنه, في كل مجال من مجالات الحياة, وفي كل مستوى من مستويات الكتابة عن النفس. ولذلك تختلف كتابة السيرة الذاتية (الغربية) التي تنبثق, عادة, في مناخ مفتوح من سياقات ليبرالية, سياقات تقبل مبدأ الاعتراف الكامل والبوح المفتوح. ولذلك يصف بعض المنظرين الغربيين فن السيرة الذاتية - في تنظيرهم له - بأنه أشبه بالاعتراف الديني الذي يذكر كل الآثام المقترفة لتتطهر منها الروح بمباركة العطف الديني الذي يتجسّد في الكاهن الذي يتلقى الاعتراف. كما يشبهون التدفق الذاتي في كتابة السيرة بالتدفق الذاتي للبوح, أو للتداعيات الحرة التي ترد على المرء المسترخي على أريكة التحليل النفسي. وفي كلا الموقفين, يمكن للذات أن تكشف عن عريها, أو أن تتعرى كاملة, ففي تمام عريها خلاصها الديني, واستواؤها النفسي. وكتابة السيرة الذاتية - من هذا المنظور - تحرير لذات كاتبها بما يعيد له استواءه الذي اهتز نتيجة الأزمة العنيفة التي أطاحت به, والتي دفعته إلى فعل كتابة السيرة التي هي تطهر وتحرر واعتراف كامل لا يستعاد التوازن النفسي إلا به. ولذلك أطلق جان جاك روسو على سيرته اسم (الاعترافات) مؤمئا إلى المعنى الوظيفي لقدرة فعل الكتابة على تحرير الذات, ولكن شريطة الاعتراف الكامل الذي لا تخجل معه الذات من ذكر شيء, فعري الذات هو الأصل, وهو شرط التحرر والخلاص.

وليس ذلك هو المبدأ الحاكم لفعل كتابة السيرة الذاتية العربية في الأغلب, حيث عري النفس غير مستساغ مثل عري الجسد, نتيجة سياقات ثقافية واجتماعية وسياسية مغايرة. ونتيجة الرقابة متعددة الأبعاد التي تتغلغل في داخل النفس, وتغدو رقيبا داخليا, يتحكم حتى في حالات الاعتراف الذاتي. ولذلك يختفي معنى (الاعترافات) الذي نجده عند القديس أوجسطين أو جان جاك روسو, مثلا, ويحل محله معنى (الفضفضة) المتجهة إلى الآخرين الذين تنطوي عليهم الذات الساردة في النهاية, أعني أن انقسام الوعي - أثناء كتابة السيرة الذاتية - إلى ذات فاعلة للإدراك وذات هي مفعول هذا الإدراك يظل انقساما غير معزول عن الخارج. ويحل فيه الآخرون الذين يتخللون المسافة بين الفاعل والمفعول, بل ينطوي عليهم الفاعل والمفعول معا, بعبارة أخرى, ينطوي عليهم الوعي الذي يتضمن الآخرين, ويحلون فيه كما يحل الرقيب أو الأنا العليا الحاكمة للوعي أو اللاوعي, حتى في لحظات التمرد على هؤلاء الآخرين والثورة عليهم.

والواقع أن مصفاة اللباقة واللياقة أضيق عند أحمد أمين منها عند طه حسين, وذلك من حيث هي أكثر تحكما في تدفق التداعيات, وذلك بسبب طبيعة شخصيته العقلانية التي تكبح جماح الانفعالات وتدافعها الذي قد يراه الوعي اليقظ ضارا, ويلجأ الوعي الذي يحسب حساب العواقب - في مثل هذه الحالات - إلى العقلنة التي تبدأ من إعلان صعوبة الحديث عن النفس, وتنتهي بالتبرير المباشر لنشر (حياتي) على الناس, خصوصا حيث يعلن أحمد أمين أنه ليس بالسياسي العظيم, ولا ذي المنصب الخطير الذي إذا نشر مذكراته, أوترجم لحياته, أبان عن غوامض لم تعرف, أو مخبآت لم تظهر, فجلّى الحق وأكمل التاريخ, ولا هو بالمغامر الذي يستكشف مجهولا من حقائق العالم, فحاول وصفه, وأضاف ثروة إلى العلم, أو مجهولا من العواطف - كالحب والبطولة أو نحوهما - فجلاه وزاد بعمله في ثروة الأدب وتاريخ الفن, ولا هو بالزعيم المصلح المجاهد, ناضل وحارب, وانتصر وانهزم, وقام الكبراء والأمراء, أو الشعوب والجماهير, فرضوا عنه أحيانًا, وغضبوا عليه أحيانًا, وسعد وشقى, وعذّب وكرّم, فهو يروي أحداثه لتكون عبرة, وينشر مذكراته لتكون درسا.

وكل ذلك كلام يدفع القارئ البريء إلى السؤال: ولماذا إذن ينشر أحمد أمين مذكراته, وتأتي الإجابة بأن عصر الأرستقراطية قد انتهى, وحل محله عصر الديمقراطية, وانتقل الأدب من سير (الأبطال) الذين كتب عنهم كارلايل إلى زمن المغمورين الذين لهم قيمة المشاهير, الأمر الذي شجع أحمد أمين - فيما يقول - على الكتابة عن نفسه, والتأريخ لها, لعلها تصور جانبا من جوانب جيله, وتصف نمطا من أنماط حياة هذا الجيل. ولعلها تفيد قارئا اليوم, وتعين مؤرخا في الغد, خصوصا أن صاحب السيرة حرص على أن يصف ما حوله مؤثرا في نفسه, ونفسه متأثرة بما حوله, وفي استطراده حول هذه النقطة يكشف أحمد أمين عن مظهر آخر من مظاهر عقلانيته, فقد اعتاد منذ أول عهد شبابه أن يدوّن مذكرات يومية عن رحلاته, وعن حياته في الأسرة وأيام زواجه, ويسجل في المفكرات السنوية أهم أحداث السنة, ما يسوء منها وما يسرّ, ومن ذلك نمت فكرة كتابة المذكرات, وانفجر دافعها مستجيبا إلى شروطه, فبدأ عملية الكتابة بإعادة ترتيب ما كتب ووصل ما انقطع منه باعتصار الذاكرة لاستقطار ما اختزنته منذ أيام الطفولة إلى الشيخوخة.

ورغم أن أحمد أمين لا يبين عن الشروط المطمورة السكوت عنها التي كانت وراء تفجير الكتابة, حرصا على اللياقة واللباقة, فإنه يكشف عنها في تدافع الذكريات نفسها. خصوصا عندما يتأمل ما انتهى إليه, فيجد في (شريط) حياته شيئا غير قليل من الغرابة والخطوط المتعرجة, فما أبعد أوله عن آخره, وما أكثر ما فيه من مفارقات, وتغير في الاتجاه ومخالفة للاحتمالات, فمن كان يراه وهو في مدرسة أم عباس الابتدائية يظن أنه سيكمل دراسته الابتدائية والثانوية, ولكنه لم يفعل, وانتقل من المدرسة الدينية إلى الأزهر, وكاد يمضي في طريقه المحتوم ليكون إماما في مسجد, أو عالما في الأزهر له كرسي بجانب عمود من عمده, يجلس عليه بعمامته الكبيرة وجبّته الواسعة يشرح المتن والشرح والحاشية. ولكن ذلك لم يحدث, فقد تغير الطريق ودخل مدرسة القضاء الشرعي, لكنه لم يمض في طريقها إلى النهاية, فاتصل بالجامعة وغدا أستاذا في كلية الآداب. ومع كل تحول, كانت عقليته تتحول, لكن بما يستبقي العناصر الثابتة التي تجعل من الشخصية على ما هي عليه, ومن الوعي ما ينضجه بتراكم الخبرة فيميل إلى المحاسبة ووضع الحياة كلها موضع المساءلة الختامية, أعني المساءلة التي دفعت أحمد أمين - في النهاية - إلى تأكيد أنه لو استدبر من أمره ما أسلف لهجر المناصب التي شغلها والمجالس واللجان التي التهمت وقته, وبعثرت زمانه, ووزعت جهده, وتفرغ تماما لإتمام سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره وعصره, فقد كان ذلك أجدى وأنفع وأخلد, ولكن للظروف أحكاما فيما يقول.

مأساة صديق

وقد توقفت على نحو خاص - في مراحل تكوينه - حول ما ذكره من أصدقائه ذوي الثقافة الإنجليزية, ومنهم (مس بور) التي قرأ معها جمهورية أفلاطون, وأصدقاؤه ذوو الثقافة الفرنسية الذين كان عميدهم الشيخ مصطفى عبدالرازق والدكتور منصور فهمي وعزيز مرهم والدكتور محمود عزمي وغيرهم. ويتوقف أحمد أمين من بين هؤلاء على شاب هو المرحوم كامل (بك) حسين الذي تثقف ثقافة قانونية, وامتاز بالشجاعة الأدبية والصراحة, فكان لا يقول إلا ما يعتقد, ولا يعمل إلا وفق ما يعتقد, تزوج فتاة مصرية, وإذ كان يعتقد السفور حملها عليه فأطاعته, في وقت عزّ فيه السفور, وعلا الصوت في نقده ومقته, فكان يخرج بها في المجتمعات ويزور معها الأصدقاء. ويجلس هو وهي في مقهى ولا يعبأ بنقد الناقدين ولا عيب العائبين. وكان وكيل نيابة في أسيوط, وأسيوط بلد محافظ, فعابوا عليه تصرفه, وشكوه للحقانية فلفتت نظره, فصمم على عمله فنقل إلى الإسكندرية, ولم يتحول عن طريقته, وأخيرا, رماه الزمان الذي لا يرحم بداء السلّ, وألحّ عليه المرض فألزمه السرير, وتفرق عنه أهله وأقرباؤه, فعكف وهو على سرير الموت يكتب كتابا عنوانه (كلمتي إلى أمتي) ثم لفظ النفس الأخير.

والحق أن الكيفية التي يحكي بها أحمد أمين مأساة كامل (بك) حسين تكشف عن شخصيته هو, تلك الشخصية التي لم تبلغ هذه الدرجة من الجسارة الاجتماعية, فاختار الزواج على الطريقة التقليدية, ولم ير عروسه إلا يوم زفافه, وظل محافظا في مواقفه الاجتماعية السلوكية بمعنى من المعاني, كما ظل محافظا في ممارساته السياسية, فلم يكن من أنصار سعد زغلول الجانحين, وإنما من أنصار عدلي يكن العقلاء. ولكن هذه المحافظة - النسبية - لم تمنعه من المشاركة مع عبدالحميد حمدي في تحرير جريدته (السفور) التي جمعت ما بين مصطفى عبدالرازق ومحمود تيمور وكامل سليم وأحمد زكي. ولم تمنعه هذه المحافظة النسبية من الإعجاب بحركة السفور في تركيا, عندما ذهب إليها سنة 1928, وتقبّل في هذه الحركة ما شرحه له علي بك فوزي الذي أوضح له أن من أكبر مظاهر الانقلاب التركي السفور الذي أفاد الأمة التركية من حيث إصلاح الزواج, فكل من الزوجين يرى صاحبه ويأنس به قبل عقد الزواج, ثم إن السفور مكّن المرأة من معرفة كثير من شئون الدنيا التي كانت تجهلها, والسفور في مصلحة المرأة, فالحجاب كان يحيطها بهالة تمكّن الرجل من الإمعان والتخيلات والجري وراء التصوّرات.

علاقات حذرة

ومن الواضح أن هذه المحافظة النسبية ظلت مقترنة بنوع من الحذر الذي يمنع الحديث التفصيلي عن العلاقة بالمرأة, فلا يبقى سوى الحديث الإجمالي الذي يشير إلى الحب الأول في نحو الخامسة عشرة, حيث البطلة ابنة جار للأسرة, وتلتهب العواطف المقترنة بأرق الليل والبكاء الطويل. لكن مع العجز الكامل عن المصارحة, فلا حديث إلا في غير الغرام, وهناك المدرّسة الإنجليزية الشابّة التي أسعدت أحمد أمين الشاب في درسها له, وألهبت فيه عاطفة حب يائس, فقد كانت متزوجة ومخلصة لزوجها, سعيدة بزواجها. ولذلك ظلت عاطفة الحب مكبوتة بسبب الموروثات المتأصلة, والتربية الدينية المتزمّتة التي كانت تعد الحب فجورا, والنظر إلى الفتاة وحديثها إغواء شيطانيا, ولم تكن مدرسة القضاء الشرعي التي دخلها أحمد أمين أقل تزمّتا وتعنّتا من بيئته, فلا ترتاح لأن يجلس طالب في قهوة, وتعاقب مَن وجد في صالة غناء, ويحكي أحمد أمين أن متخرجا حديثا من المدرسة شوهد جالسا في مقهى الأزبكية مع صاحبين من غير المدرسة, وأمامهم كاسات من البيرة, فكان من سوء الحظ أن مرّ عليهم عاطف بك المشرف على المدرسة, ورأى المنظر, ومع أنه لم يتحقق من شرب هذا الشاب البيرة, فقد حرمه من تولّي القضاء سنين, ورفض كل رجاء في العفو عنه, ولم يعين فيما بعد إلا بضغط شديد عليه أو رغما عنه.

ولم يشأ أحمد أمين الشاب أن يصدم هذه البيئة, أو يخرج عليها خروجا حادا كخروج صديقه طه حسين الذي أتاح له التعليم في فرنسا ما لم يتح لأحمد أمين من جرأة جذرية وحدية في اتخاذ المواقف المخالفة. وقد سبق أن قلت إن رغبة التكامل بين الأضداد هي ما جمعت بين طه حسين وأحمد أمين الذي يتحدث عن فضل صديقه عليه, فهو الذي دعاه إلى التدريس في الجامعة سنة 1926, حين كان أحمد أمين قاضيا بمحكمة الأزبكية, وهو الذي أغراه بقبول التدريس في كلية الآداب - وكانت في قصر الزعفران بالعباسية في ذلك الوقت - فأقبل أحمد أمين على التدريس الجامعي, ووجد نفسه في عالم جديد, لا هو كالأزهر ولا كمدرسة القضاء, أساتذة كأنهم عصبة أمم, هذا إنجليزي وهذا فرنسي وهذا بلجيكي وهذا ألماني, وقليل من الأساتذة المصريين, وليس فيهم معمّم إلا أحمد أمين, وعميد الكلية بلجيكي, والطلبة أحرار, يحضرون الكلية أو لا يحضرون, ويحضرون الدرس أو لا يحضرون. وقد احتاج أحمد أمين إلى وقت ليتكيّف مع هذا العالم الجديد الذي انتهى به إلى خلع العمامة. كما انتهى به إلى أن يشهد التحوّل في إقبال الطالبات على الكلية, فبعد أن كان الطلاب جميعا من الذكور, شاهد مرة ثلاث بنات في قسم الفرنسية, علم أنهن نصف مصريات, أبوهن طبيب مصري كبير هو علي إبراهيم حسن, وأمهن ألمانية, وظلت الأعوام تتعاقب, فإذا بعدد البنات يتزايد إلى أن امتلأت الكلية بالبنات بعد قليل.

العلاقة مع طه حسين

أما عن كيفية تغير العلاقة بصديق العمر طه حسين, ففي كتاب أحمد أمين بيان لها مكتوب بلغة تحرص على كبح جماح العاطفة والانفعال, شأن العقلانية السائدة التي تستبدل بالقلب العقل, وتبدأ المشكلات باختيار أحمد أمين لعمادة الكلية التي شغلت وقته كله بأعمال إدارية, أكثرها لا قيمة له فيما يقول, ومكث على هذا الحال سنتين, ظل يشكو فيهما من ضياع الوقت, وعندما وجد الفرصة مناسبة تقدم باستقالته ليفرغ للعلم الذي يريد كي يتمكن من إتمام سلسلة (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) فاستطاع أن يخرج الجزء الأول من ظهر الإسلام. ولكن كان واضحا أن سلطة العمادة وضعت أحمد أمين في اختيار صعب, خصوصا في المستوى الخاص بالتناقض بين العاطفة والواجب, حكم العقل ورغبات الأصدقاء, فكانت النهاية أسيفة موجعة, تركت جرحا لم يندمل بسبب الأصدقاء قبل الأعداء. ومن هذا المنظور يكتب أحمد أمين عن سبب انقطاع علاقته بصديقه طه حسين. وسوف أنقل أسطره كاملة لصدقها الدال, وطبيعتها الكاشفة عن التباين الحاد بين شخصيتين متضادتين, لم تفلح صيغة التكامل في الإبقاء على صداقتهما التي انتهت نهاية آسفة. يقول أحمد أمين:

(وكانت مأساة العمادة أني فقدت بها صداقة صديق من أعز الأصدقاء, وما أقل عددهم, كان يحبني وأحبه, ويقدّرني وأقدّره, ويطلعني على أخص أسراره, وأطلعه, وأعرف حركاته وسكناته, ويعرفها عني, ويشاركني في سروري وأحزاني وأشاركه, وكنت هواه وكان هواي, واستفدت من مصادقته كثيرا, من معارفه وفنه ووجهات نظره, سواء وافقته أو خالفته, فأصبح يكوّن جزءا من نفسي ويملأ جانبا من تفكيري ومشاعري, على اختلاف ما بيننا من مزاج, فهو أقرب إلى المثالية, وأنا أقرب إلى الواقعية, وهو فنان يحكمه الفن, وأنا عالم يحكمه المنطق. وهو يحب المجد ويحب الدويّّ, وأنا أحب الاختفاء وأحب الهدوء. وهو مغال إذا أحب أو كره, وأنا معتدل إذا أحببت أو كرهت, وهو نشيط في الحكم على الأشخاص وعلى الأشياء, وأنا بطيء, وهو عنيف إذا صادق أو عادى, وأنا هادئ إذا صادقت وعاديت, وهو واسع النفس أمام الأحداث, وأنا قلق مضطرب غضوب ضيق النفس بها. وهو ماهر في الحديث إلى الناس فيجذب الكثير. وليست عندي هذه المقدرة, فلا أجتذب إلا القليل, وهو في الحياة مقامر يكسب الكثير في لعبة ويخسره في لعبة, وأنا تاجر, إن كسبت كسبت قليلا في بطء, وإن خسرت خسرت قليلا في بطء).

وقد حرصت على نقل هذه الفقرة كاملة لأنها من أعذب فقرات كتاب (حياتي) لأحمد أمين, وأقدرها على وصف شخصية الرجل في تضادها مع شخصية طه حسين, ولا أدلّ على ذلك من الصفات المتقابلة التي تحتشد بها الفقرة في تصوير التضاد الذي سبق أن تحدثت عنه بين رمزية (أبوللو) ورمزية (دينسيوس). هو التضاد الذي يوازي ما سبق أن وصفه يحيى حقي بالتقابل بين (الإستاتيكية) والديناميكية) في أدب نجيب محفوظ. لكن من المهم ملاحظة الإيقاع في وصف التضاد. والكيفية التي ينحو بها الأسلوب منحى يذكر بكتابة طه حسين نفسها, حيث يبرز التوازي بين الجمل والتراكيب, والحرص على القفلات النغمية والدلالية, والتلاعب بأنواع الطباق والتكرار ورد العجز على الصدر, وذلك في منحى يبدو كما لو كان مقصودا به الإشارة إلى طه حسين بخصائصه الأسلوبية, وبعض المحاكاة الأسلوبية - في هذا المقام - تعريف بصاحب الشخصية الذي لم يذكر اسمه, لكن الذي تدل عليه ملامح أسلوبية ملازمة لسلوكه الذي هو على النقيض من سلوك صاحب السيرة, وهي محاكاة أسلوبية لا تخلو من حضور شفيف مبطن من السخرية الممتزجة بالمرارة والحزن في آن.

 

جابر عصفور