تعقيب: أسس اللغة بين التعميم والتخصيص صلاح الدين يونس

 بدأ الدكتور أحمد عُلبي مقاله من مسلمة تقول : لا لغة من غير فكر كما أنه لا فكر من غير لغة. اللغة وعاء الفكر، حتى يصبح الفكر لغة واللغة فكرا، ولا أسبقية لأحدهما على الآخر.

هذه المسلمة باتت مقولة مدرسية (سكولاستيكية) تحتاج إلى رؤية وتفصيل أكثر مما تحتاج إلى التصديق بها. وإذا كنا نريد لها التعميم فالمطلوب توضيحها، لأن اللغة غير الفكر فلو كانا شيئا واحدا لبطلت عن أحدهما أسماؤه وصفاته. وما داما شيئين أو مفهومين، فإنهما متجاذبان متفاصلان، يُغني كل منهما الآخر ولكنه لا يلغيه، العلاقة بين الطرفين يحكمها قانون التفاعل والتداخل، لذلك نرى أن اللغة هي الفكر معلنا، وأن الفكر هو اللغة مُستنبطة. وهذا ما يجعلنا نعود إلى الوراء إلى مرحلة التجريب (محاولات البشرية الأولى للانفصال عن الطبيعة) التي تعد اللغة بالقياس إليها مرحلة ارتقاء لأنها مرحلة تكثيف لحالة الانتقال. هذا التكثيف تطور إلى التجريب. حيث بدت اللغة - هنا - الأداة الأهم في نقل علاقة الإنسان بعالمه إلى العالم القادم. إذ بدت تسمية المسميات مرحلة سابقة على مرحلة تكوين المفهوم الذي تعد اللغة أداته ولكنه ليس هي. وليست هي- اللغة- هو- المفهوم. لكن اللغة صارت غير منفصلة عن الارتقاء الفني والروحي والحضاري- فالتجريد والتعميم جعلا من اللغة وسيلة لا يستغني عنها العقل البشري في طوره الصاعد.

الوقوع في العمومية

وفي مرحلة تالية: صارت اللغة تحقن في أضلاعها ملامح الأفراد والمجتمعات وبعد ذلك ينتقل الدكتور علبي إلى القول: "إن لكل لغة خصائص تكوينية وهذا تمايز اللغات ..".

هذا رأي سليم لا مرية فيه ولكنه عمومي. والاعتراض عليه من حيث لم يشر إلى أسباب أخرى لتمايز اللغات. فإذا اعتمدنا على البدهية القائلة: تختلف اللغات باختلاف مجتمعاتها، فإننا لا نجانب الصواب. لكن هذا يوقعنا في العمومية أيضا على الرغم من الاعتقاد بأن اللغة إرث حضاري وإنتاج بشري، إلا أن لكل لغة حالاً من الخلاف مع هذا، فكثيرا ما تسبق التجربة اللغوية- الفنية (الشعر) التجربة الحضارية لشعب ما- وشاهدنا- العرب في مرحلة ما قبل الإسلام (من القرن الخامس إلى القرن السابع الميلادي) فالمستوى الفني للشعر الجاهلي أرقى من المستوى الحضاري للعرب في ظل الهياكل البدوية. وبالمقابل تجاوز المستوى الثقافي للعرب المسلمين في ظل هياكل الخلافة الإسلامية اللغة العربية، فاضطرت إلى التفتق والاعتصام بلغات الشعوب الإسلامية، والتوليد - وتجربة أبي تمام واضحة في هذا المجال- حتى اضطر اللغويون العرب إلى أن يعملوا بالمبدأ التالي: ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم.

الاعتماد على حالة خاصة

وتحت عنوان الأساس المادي للغة نؤيد قول د. علبي " إنها نتاج أوضاع بشرية واجتماعية وجغرافية وثقافية عاشتها هذه اللغة في المحيط الذي عاشت فيه" ويعطي أمثلة: من لغة العرب أثلج الله صدرك- أي أراحك، وفي حديث لعمر: حتى أتاه الثلج واليقين. الشاهدان استخدمهما العرب من موقع افتقاد الشيء، فالبيئة الصحراوية الحارة يكون نقيضها البرودة. والبديل هنا فرضه الواقع المرفوض لأنه الحلم بالأحسن. ملاحظتي على د. علبي باستخدامه للشاهدين السابقين هي اعتماده على الحالة الخاصة التي يُنتجها الذهن البشري في حال من الانفعال بالمحيط، ومحاولة الخروج منه. وإني أرى أن الشاهد الفكري- الروحي يكون أدل وأعمق على التجربتين السابقة واللاحقة. والشاهد الذي أعنيه- القرآن الكريم- وهو يصور الجحيم والنعيم، فالحديث عن الأول: يكون من مضاعفات البيئة وتضخيمها، لتغدو وسائل مجسدة لردع الفرد البشري عن ارتكاب الخطيئة - النار- ماء المهل- السعير.. اللظى- اللهب - الصلي.. كلها مراتب للحرارة لا تحل واحدة منها محل الأخرى- انظر سورة البقرة- 24- فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.

والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 39- البقرة.

وإذا أراد القرآن الترهيب، اعتمد على ما توضَّع في الذاكرة من مخيفات الطبيعة فوظفها لصالح رهبة الله: هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال. ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال " 12، 13- الرعد وأما الحديث عن الثاني فهو البدائل- التي تشبع تطلع الفرد إلى الخلاص: الفيء، الظلال، الاتكاء، الراحة، العسل، اللبن، انظر البقرة- 25.

وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

وفي سورة النحل 67.- ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون .

اللهجة فرع من اللغة

وتحت العنوان السابق، يؤكد د. علبي: اللغة مشاع عام لا يحق لشرعية اجتماعية أن تدعي ملكيته .. ويعطي شاهدًا من الهند واليابان، إذ أنف بعضهم أن يتساوى في ضروب النطق- كونه سيدا- مع غيره- كونه عبدا- نحن نسلم مع الدكتور علبي بأن اللغة ملك عام، ولنا على هذا شواهد، فالعربية خدمت فقراء العرب وأغنياءهم، والروسية خدمت المرحلة الرأسمالية والمرحلة الاشتراكية، فاللغة كوسائل الإنتاج تتجاوز مشكلة الطبقات، لأنها- اللغة- تعيش بعد انهيار البناء التحتي الذي أنشأها. فهي تتكون عبر سلسلة من العهود، تصقلها التجربة والمعرفة. فهي لا تحمل طابعا طبقيا، فالإسكندر المقدوني، والرشيد ولينين- تكلموا- وكتبوا بلغاتهم القومية، لكن هذا لا يعني أن الطبقات تتكلم بمستوى واحد أو بلهجة واحدة، فاللهجة العربية في أي بيئة عربية ليست لغة وإن لم تكن خارجها، لأنها غير قادرة على أن تكون أداة تواصل، لأنها خاصة لا تعمم. يقول ماركس: إن اللهجات تتمركز في لغة وطنية واحدة تبعا للمركز السياسي والاقتصادي. ونسوق شاهدا على رأي ماركس من تاريخ العرب- سوق عكاظ- حيث يلتقي فيه الشعراء ويتبادلون اللغة الفنية، ويؤسسون المرجعية اللغوية، التي تعود فتنتشر من المركز إلى الأطراف، كما نقلها الشعراء والتجار من الأطراف إلى المركز. أما إنجلز فيقدم رأيا أوضح في اللهجة واللغة فيقول: اللهجة فرع من اللغة الوطنية .. الطبقة العاملة في إنكلترا مع تقدم الانقلاب الصناعي استوت لغتها- اللهجة- على غير لغة الارستقراط الإنكليز، بمعنى أن اللغة شيء والأفكار الطبقية شيء آخر. وهذا شاهد على ما كنا قد بدأنا به، وهو الفصل بين اللغة والفكر.

البيئة تبدل في أديم اللغة

وتحت عنوان دينامية العربية وديمومتها، يقول الدكتور علبي:" ونلتفت إلى تراثنا الثقافي منذ امرئ القيس إلى نجيب محفوظ، فنجد أن هذه اللغة كما كانت في جاهليتها الأخيرة ...

إن ميزة التواصل في العربية ميزة كبيرة، فهي ممتدة على خمسة عشر قرنا، لكن هذا لا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن العربية في الجاهلية الأخيرة - القرنين السادس والسابع الميلاديين - هي نفسها مع كتابنا اليوم، فعلى رأي شكري فيصل الشعر الجاهلي محلي التعبير إنساني العاطفة. يعني أن البيئة المكانية الزمانية - الثقافية- تُبدل في أديم اللغة وتسقط مفردات وتنشئ أخرى، على رأي ميخائيل نعيمة في الغربال، كشجرة الزيتون، دائمة الخضرة لكن هناك أوراقا يابسة. لقد دخلت ألفاظ الحضارة الفارسية وحلت محل التسميات البدوية. ثم عززت اللغة الفقهية مسألة الاشتقاق، حتى اضطر اللغويون إلى أن يكتبوا كتبا كثيرة في الأضداد- الدخيل- العرب. وليس هذا عيباً في اللغة، إنه تناغم مع التاريخ وحركة الحياة. إن الثابت في اللغة هو نظام التعبير وليس المفردات وحتى ثبات نظام التعبير يتغير إذا ما هيئ للركيزة الثقافية أن تتزحزح. وفي موقع آخر يحمل د. علبي على "متهمي العربية بأنها قاصرة تجاه العلوم الدقيقة" لا أعتقد أن المشكلة هنا مع اللغة، إنها مع أصحابها. فالشعوب الصناعية كما تصدر نتاج معاملها، تصدر معه تسمياته، ليس إلى العربية فقط، بل إلى اللغات الأوربية. فالفرنسية صدرت إلى الإنكليزية ألفاظ المدينة والاستهلاك، والإنجليزية صَدَّرت للفرنسية مفردات التقانة والتقدم التقني. لكن المشكلة مع العربية تبدو في نظرتنا للغتنا المقدسة، لأنها جزء من مقدسنا الروحي، لذلك يُرفض المساس بها.

قياس الغائب على الحاضر

مادمنا كذلك فإن العزلة المعرفية تنتظرنا، إلا إذا عزلنا بين القداسة واللغة، وأحلنا لغتنا إلى سياق تاريخي قابل للنقد والتصويب.

وتحت عنوان اللغة والعمل يقول د. علبي: "فذهنية أمةٍ ما تنعكس في تراكيب لغتها وفي مصطلحاتها واستعاراتها وقد عرف الإنكليز بحسهم التجاري، فانتبه بالإنكليزية أي ادفع من انتباهك".

لماذا لم يشر الدكتور علبي إلى الحال التجارية عند العرب التي تبدو أوضح من لغة الإنكليز، لأن القرآن استعان بانشداه الذهن العربي باتجاه التجارة ليقرنها بالإيمان، لا على أنهما طرفان يلتقيان، بل على أساس قياس الغائب على الحاضر. ففي سورة الصف الآية- 10- 11- يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فالاستعانة أو التوسل بنمط سائد لا يعني هيمنته على اللغة كلها.

فقد نرى الذهن التجاري ينتج بعض المقولات، والذهن الإيماني ينتج بعض مقولاته أيضا، لكن لا يقوى أي منهما على وسم اللغة بسماته، لأنها حال تركيبية- يتداخل فيها التاريخي والثقافي الروحي والمادي، فاستجابة اللغة لشرط حضاري ما لا يعني وقوفها عنده.

وتحت عنوان- علم الاجتماع اللغوي: الذي أَبْدى فيه رأياً على غاية من الأهمية وهو أننا نجهل حلقات اللغة العربية ... وهذا أمر يحتاج إلى دراسة، بالقدر الذي يحتاج إلى القناعة بأن اللغة لا تتكون في لحظة زمنية جاهزة، وهي إلى حد كبير تشبه الحوض المائي المنفجر نبعا في مكان ما. لكن مكان التفجر لا يعني أنه من مصدر واحد، وأما قول الدكتور علبي: "اللغة العربية حضارية الطابع" فهذا يحتاج إلى معالجة، إذ كيف تكون اللغة حضارية لأمة بدوية؟ كيف تكون حضارية لمجتمع وتائر الحضارة فيه ليست متصاعدة، إنها بدوية المنشأ، أدخلها الإسلام في مناخه فتبادلت معه الاتساع والتوسع. كبرت الدولة المركزية في بغداد فضاقت العربية حتى تهيأت لها سبل الاشتقاق والجذب من الثقافات الوافدة ونشأت لغتان، لغة الحضر في الحواضر ولغة البداوة للشعراء في الأطراف- فمن الأول لغة أبي تمام ومن الثاني لغة الغزل العذري- وصعاليك العصر العباسي الأول؟

وإذا ما جاء عهد الدول المتتابعة 1258- 1798 نشأت على هامش اللغة المركزية - الفصحى- لغات الصناعة اللغوية وإعادة صياغة الذات اللغوية، حتى صارت الوظيفة اللعبية عند شعراء هذه المرحلة أكبر من الوظيفتين الإفهامية- الجمالية.

يختتم الدكتور علبي مقاله - الأساس الاجتماعي للغة - بمعالجة الأشكال والأساليب اللغوية (ومدى تأثرها بالمعطيات الاجتماعية) ويقول: " لا شكل لغويا مجرد عن أي عامل اجتماعي منبعث من ذاته- سابح في الهيولي".

لا أعتقد أن المسألة بين الأشكال اللغوية والمعطيات الاجتماعية متلازمة إلى هذا الحد. فإذا كان إدراك الإنسان للعالم جزءاً من نشاطه العملي (الاجتماعي- الثقافي- الروحي) فإن هذا الإدراك محكوم بالخبرة الذاتية للفرد - للمجتمع والأفراد (فمعرفة العالم نسبية لأنها تاريخية).

تنعكس صورة الواقع وتظهر في صيغ فكر، والفكر يحيلها إلى أشكال لغوية. عملية الإحالة تُظهر خصوصية المحيل أي صاحب اللغة- في خلق أسلوبه الواصل بينه وبين الفكر والعالم وعند العرب أخذت سيطرة المضامين على الأشكال حالة من التقديس، فالمضمون هو العنصر الروحي الإسلامي، والشكل هو لغة العرب. فالمضمون ثابت والأشكال مستمرة هي الأخرى. وهذه مشكلة لا يمكن تجاوزها إلا بالفصل بينهما، والانتقال بنظام الجملة العربية إلى نظام البنى والأشكال المتجددة دوما.

وفي نهاية هذه الملاحظات أشكر للدكتور أحمد علبي جهوده في سبيل إيضاح الأسس الاجتماعية للغة. وأشكر لمجلة "العربي" مساهماتها الدائمة في إرواء القارئ العربي من كل المناهل.