مستقبل بلا فقر أو جوع هل يمكن أن يتحقق? أحمد أبوزيد

مستقبل بلا فقر أو جوع هل يمكن أن يتحقق?

800 مليون جائع... ألف مليون فقير...خمس البشرية على حافة المجاعة والفقر...أيّ عالم هذا الذي نعيشه?!... وهل نقدر على تغييره?!

الفقر هو الذي يتسبب أكثر من غيره من العوامل المناوئة في ظهور كثير من المشاكل السلبية مثل أنواع خطيرة من المرض وانتشار الجريمة والعنف. فعلى سبيل المثال يتراوح عدد الأطفال الذين يموتون تحت سن الخامسة بسبب الجوع ونقص التغذية بين عشرة ملايين واثني عشر مليون طفل في العام الواحد. وهذه في حد ذاتها مشكلة تؤرق ضمائر المهتمين بحقوق الإنسان والمشتغلين بشئون التنمية والمهمومين بوضع الإنسان في المجتمع الحالي ومصيره في المستقبل. وقد حاول المجتمع الدولي التوصل إلى حل لهذه المشكلة - مشكلة الفقر والجوع - وطرحت اقتراحات براقة كثيرة لم تخرج إلى حيز التنفيذ الواقعي بحيث أصبح السؤال العويص الذي لم يجد له إجابة نهائية حتى الآن هو: هل سيتمكن المجتمع الإنساني من القضاء تماما في المستقبل على هذه المشكلة/ المأساة وهل يمكن أن يظهر في يوم من الأيام مجتمع إنساني عالمي لا يعرف الجوع والفقر بحيث يجد كل فرد فيه ما يكفيه من طعام يشبع جوعه ويحفظ له حياته ويوفر له مستوى مقبولا من الكرامة الآدمية?

فثمة علاقة قوية إذن بين الفقر والجوع, بمعنى أن الفقر هو سبب أساسي في انتشار الجوع كظاهرة على مستوى العالم مع وجود مفارقة غريبة وهي أن الجوع أكثر انتشارا في المجتمعات المنتجة للطعام, وهي المجتمعات الريفية الزراعية, عنه في المجتمعات الصناعية التي تأتي الزراعة وإنتاج الطعام في مرتبة تالية من أولويات اهتمامها. فالريف الزراعي المنتج للطعام هومركز الجوع وبؤرة الفقر في العالم, والفقراء فيه يعانون الجوع نتيجة عدم توفر المال اللازم للحصول على الطعام مما يعني ضمنا أن الوسيلة الوحيدة لمحاربة الجوع والقضاء عليه باعتباره أحد الأمراض الاجتماعية الخطيرة هي توفير الدخل الكافي عن طريق إيجاد فرص العمل والقضاء على البطالة والارتفاع بمستوى التعليم والتأهيل لممارسة الأعمال والأنشطة المثمرة التي تدر عائدا ماديا كافيا في عالم تشتد فيه روح التنافس والصراع على مصادر العمل المحدودة بالنسبة للتزايد السكاني المتسارع وبخاصة في مجتمعات العالم الثالث الفقيرة أصلا. وقد لا تؤدي هذه الإجراءات إلى اختفاء الجوع تماما من العالم ولكنها قد تساعد على تحسين نوعية الحياة بالنسبة لهذه المجتمعات ولو في حدود معينة. والسائد في بعض اتجاهات الفكر التنموي هو أن القضاء على الفقر الريفي يستتبع بالضرورة تراجع الفقر الحضري والحد من ضراوته.

الحاجة إلى ثورة خضراء

وحتى يمكن توفير الغذاء لسكان العالم الذين سوف يصل عددهم إلى ثمانية بلايين نسمة عام 2025 والقضاء - ولو جزئيا - على مشكلة الجوع وبخاصة في دول العالم الثالث, فإن الأمر يحتاج إلى قيام ثورة خضراء جديدة - أو ثورة خضراء ثانية على ما ذهبت إليه قمة الغذاء العالمي عام 1997. فلقد بدأت الثورة الخضراء (الأولى) في الستينيات ونجحت في تنبيه الأذهان إلى ضرورة الاهتمام بتوفير الطعام وساعد ذلك ولو في حدود معينة على مواجهة الزيادة في الطلب خلال العقود الثلاثة التالية عن طريق مضاعفة محصولات المعيشة ثلاث مرات في كثير من الأحيان مما أدى إلى تقليل حجم الأضرار التي كانت ستلحق بالجنس البشري نتيجة للزيادة المطردة في السكان. إلا أن ما حققته تلك الثورة الخضراء (الأولى) يعتبر (نجاحا مؤقتا) أوجزئيا في نظر واحد من أكبر المهتمين بمشكلة توفير الغذاء في العالم وهو نورمان بورلوج Norman Borlaug الخبير الدنماركي - الأمريكي في علوم الوراثة geneticist والحاصل على جائزة نوبل عام 1970. فهو يرى أن الخطر الذي يواجه المجتمع البشري أكبر من أن يواجه بزيادة المحصول من الأراضي المتاحة, وأنه لا بد من اتباع سياسة صارمة للتحكم في النمو السكاني والحد من سرعته وبخاصة في العالم الثالث الفقير. وإذا كانت الثورة الخضراء (الأولى) أفلحت في الارتفاع بإنتاجية محاصيل المعيشة الثلاثة الرئيسية (القمح والأرز والذرة) فإن الثورة الخضراء الثانية سوف تعمل على زيادة إنتاجية المحاصيل الأخرى, التي يعتمد عليها كثير من الشعوب في سد الجوع. ولكن هناك إلى جانب هذه النظرة المتفائلة من يثير الشكوك حول إمكان تحقيق مثل ذلك النجاح الذي صادفته الثورة الخضراء الأولى نظرا للأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية في المجتمعات الفقيرة التي تنتمي بحكم الواقع إلى العالم الثالث, إذ إن هذه الأوضاع تمنع من اتباع سياسة زراعية حكيمة تقوم على الاهتمام بزيادة خصوبة الأرض ومحاربة التصحر وتنمية الموارد الطبيعية, إلى جانب توفير المخصبات اللازمة والعمل على القضاء على الآفات الزراعية التي يبدو أنها اكتسبت درجة عالية من المناعة ضد المبيدات.

وقد تكون هناك وفرة هائلة في الطعام في بعض مناطق العالم الغنية بمواردها الطبيعية وقدراتها الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية ولكن هذا لا ينفي وجود ظاهرة الجوع وسوء التغذية في المناطق الأكثر فقرا وتخلفا. وتذهب بعض التقديرات (عدد ديسمبر 1977 من التقارير السكانية Population Reports التي تصدرها جامعة جون هوبكنز) إلى أن حوالي بليوني نسمة من سكان العالم يعانون سوء التغذية والنقص الغذائي, وأن حوالي 840 مليون شخص منهم يعانون سوء التغذية المزمن, وأن 70% من النساء في إفريقيا جنوبي الصحراء يعانين الأنيميا الحادة الناجمة عن سوء التغذية. وثمة أرقام كثيرة ومخيفة تبين سوء الوضع الحالي واحتمال تفاقم الضرر والأذى مما يقتضي الإسراع بالتصدي لمشكلة الجوع والتغلب عليها أو منع استفحالها وهو ما تؤمل في تحقيقه المؤسسات الدولية المهتمة بالموضوع وبعض المؤسسات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني. ومع الاعتراف بأهمية هذه الجهود فالمتوقع أنه في عام 2020 على سبيل المثال سوف يظل هناك حوالي مائة وخمسين مليون طفل تحت سن السادسة يعانون سوء التغذية, وهو عدد يقل بحوالي 20% فقط عما كان عليه الحال عام 1993. بل المتوقع أن يرتفع عدد الأطفال المصابين بسوء التغذية في إفريقيا بحوالي 45% عما كان عليه الوضع في تلك السنة ذاتها (1993). وتكفي هذه الأرقام للتدليل على سوء الوضع, وما قد ينجم عنه في المستقبل إن لم يستطع المجتمع الإنساني ككل الوصول إلى حلول عملية سريعة, لإنقاذ الموقف والتخفيف من ويلات الجوع والحد من انتشاره إن لم يمكن القضاء عليه تماما, وهو على أية حال أمر يبدو بعيد المنال في ضوء الظروف الراهنة.

الطعام من أجل السلام

وقد فرضت الدعوة إلى توفير الغذاء لسكان العالم نفسها بقوة على الرأي العام العالمي, منذ حوالي ثلاثة عقود تحت شعار (الطعام من أجل السلام) وتحمس لها الكثيرون من رجال السياسة والفكر, وبخاصة في أمريكا. وكان من أهم الداعين إليها هناك السناتور جورج ماكجفرن الذي عينه عام 1998 الرئيس كلينتون سفيرا لدى وكالات الأمم المتحدة عن الغذاء والزراعة. ويقول ماكجفرن للتدليل على خطورة الموقف الناجم عن انتشار الجوع المزمن في العالم إنه لم يحدث أن قتلت أية حرب من الحروب خلال كل مراحل التاريخ أو تسببت أية أزمة من الأزمات في نشر الآلام والأمراض والأوبئة في أي عام, مثلما يلحقه الجوع بالبشرية في وقتنا الحالي. وقد ظهر له في عام 2000 كتاب بعنوان (الحرية الثالثة) The Third Freedom وله عنوان فرعي هو(في القضاء على الجوع في زمننا الراهن) حاول فيه أن يضع برنامجا يشتمل على عدد من الخطوات الإجرائية الكفيلة في نظره بالقضاء على ظاهرة الجوع المزمن بحلول عام 2030, وتتراوح هذه الخطوات والإجراءات بين خطة لتقديم وجبة غداء يومية لطلاب المدارس في المناطق الفقيرة في كل أنحاء العالم إلى إقامة ما يسميه (محميات الغذاء) في مختلف الدول, وبخاصة دول العالم الثالث إلى التطبيق العلمي الدقيق لسياسة الزراعة المعدلة وراثيا مع نشر الدعاية اللازمة للتعريف بها ودحض المزاعم التي تثير المخاوف منها وتبين المكاسب التي يمكن للعالم النامي أن يفيده منها. ويعترف بأن تنفيذ هذه السياسة سوف يتكلف عدة بلايين من الدولارات بحيث يصعب على أي دولة أو أي منظمة دولية واحدة الاضطلاع بها بمفردها ولذا فلا بد من أن تتعاون معا الدول الغنية والمؤسسات المانحة مع منظمات هيئة الأمم المتحدة لتنفيذ مثل هذا البرنامج الطموح.

ولم تسلم هذه الاقتراحات من النقد بل والرفض, إذ ذهب بعض الكتاب إلى أن توفير الطعام لكل شعوب العالم, ولكل الفئات الفقيرة المحرومة قد يساعد على تفاقم المشكلة السكانية, إذ قد تغري الوفرة بالتغاضي عن سياسة التحكم في الإنجاب التي تنادي بها كل المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني وبذلك تزداد الفجوة اتساعا بين الزيادة السكانية والقدرة الإنتاجية على توفير الطعام وتظل المشكلة قائمة بل وقد تزداد سوءا عما عليه الوضع الآن. بل إن البعض يذهبون إلى حد القول إن الشعوب والفئات الفقيرة قد اعتادت على الجوع الذي أصبح جزءا من حياتها وأحد المعالم الأساسية المميزة لثقافة الفقر, بل إنه يمكن الحديث عن ثقافة الجوع على وجه التخصيص, وأنه ليس ثمة جدوى من بذل الجهود للقضاء على الجوع إلا إذا ارتبط ذلك الجهد بالعمل على تغيير نمط الحياة السائد بين الجماعات التي عاشت حياتها كلها دون أن تعرف معنى وفرة الطعام. وبالرغم مما في مثل هذه الآراء من قسوة بالغة, فالذي لا شك فيه هو أن ثمة أسبابا راسخة في المجتمعات الفقيرة ذاتها تساعد على قيام واستمرار ظاهرة الجوع, ولا بد من القضاء عليها مثل فساد نظم الحكم واستفحال الرشوة والعجز عن متابعة التقدم التكنولوجي في الزراعة والإفادة منه على الوجه الأكمل وسوء استخدام المعونات الغذائية التي تقدمها الهيئات الدولية أوالدول الغنية كمرحلة أولية إلى أن تستطيع المجتمعات الفقيرة إصلاح أوضاعها الداخلية والاعتماد على جهودها الذاتية في توفير الطعام اللازم لشعوبها. ولكن ينبغي ألا ننسى أنه بالإضافة إلى هذه العوامل الذاتية السلبية كان للاستعمار دخل كبير في تفشي ظاهرة الجوع في المستعمرات التي تؤلف الآن بعد استقلالها نسبة كبيرة جدا من العالم الثالث. فقد اهتمت الدول الاستعمارية بتوجيه الزراعة في المستعمرات نحو إنتاج محاصيل قابلة للتصدير والتصنيع مثل القطن وقصب السكر, وذلك على حساب محاصيل المعيشة, مما أدى إلى تكريس الفقر والجوع واعتماد تلك المستعمرات على الاستيراد من الخارج لسد حاجتها إلى الطعام مما زادها فقرًا على فقر وجوعا على جوع. يضاف إلى ذلك الدور المدمر الذي تلعبه الحروب الطاحنة بين القبائل في كثير من مجتمعات العالم الثالث كما هوالشأن في إفريقيا جنوب الصحراء. فالمشكلة معقدة إلى أبعد حدود التعقيد, ولها جوانب وأبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية لا بد من التغلب عليها والقضاء على أسباب التوتر بين المجتمعات المتجاورة بل وأحيانا داخل المجتمع القبلي الواحد حتى يمكن الإفادة من التقدم العلمي والتكنولوجي في الإنتاج الزراعي وتوفير الطعام, بل وتوفير الخدمات الاجتماعية الأخرى التي لا تعرفها بعض الجماعات الفقيرة. ومن الطريف هنا أن بعض المتحمسين لآراء السناتور ماكجفرن يرون أن تقديم الوجبة الغذائية اليومية لتلاميذ المدارس الذين يعانون سوء التغذية في المجتمعات الفقيرة سوف يشجع الفتيات بالذات على الاستمرار في الدراسة مما يساعد على ارتفاع المستوى الذهني للمرأة بحيث تدرك الأبعاد الحقيقية للسياسة الإنجابية وأهمية التحكم في الإنجاب, وبذلك تسهم المرأة إسهاما فعالا في الحد من الزيادة السكانية الرهيبة, وبالتالي في توفير قدر أكبر من الطعام للسكان يقلل من قسوة الجوع ويحد من انتشاره كظاهرة. كذلك يرفض نورمان بورلوج الذي سبقت الإشارة إليه المزاعم التي يثيرها المعترضون على الاعتماد على الزراعة المعدلة وراثيا ويذهب إلى أن الذين يهاجمون الاستعانة بالعلم والتكنولوجيا في زيادة الإنتاج الغذائي ينتمون إلى شعوب لم تعرف الجوع, وأن المخاطر المزعومة لم تثبت خطورتها على وجه اليقين, وأن العلم كفيل بالتغلب على أية أخطار قد تظهر في المستقبل, بل إن تكنولوجيا الغذاء الحديثة قد تؤدي إلى زيادة القيمة الغذائية لبعض المحاصيل بما قد تضيفه إليها من معادن وفيتامينات.

التكنولوجيا حلا...

ويبدو أنه ليس ثمة مهرب أمام الدول النامية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالفقر وانتشار الجوع من أن تعتمد على منجزات العلم الحديث والتكنولوجيا لزيادة الإنتاجية الزراعية وتحسينها وتحقيق الأمن الغذائي لشعوبها وتقليص مساحة انتشار الفقر مع حماية التربة بل والعمل على زيادة خصوبتها بشتى الطرق العلمية المتاحة. وهذا ينطبق بشكل خاص على المناطق شبه الصحراوية وشبه المدارية في العالم النامي, حيث لا يمكن الاعتماد كلية على الأمطار القليلة نسبيا والتي يعتبر عدم انتظام سقوطها من أهم العوامل المناوئة للتنمية الزراعية الناجحة. والوضع يتطلب على أية حال إجراء كثير من البحوث التي تحتاج إلى مؤازرة الحكومات في الدول الغنية, وبخاصة فيما يتعلق بالتمويل ثم التنفيذ, وسوف يتطلب الأمر في هذا الصدد تبادل المعلومات وتداولها بين الأجهزة والهيئات المعنية على مستوى العالم, وخاصة أن المناطق المدارية شبه القاحلة تشغل مناطق واسعة في خمسين دولة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وكلها تعاني التدهور البيئي والتصحر. فالاعتماد على منجزات العلم والتكنولوجيا في مجال الزراعة هوالكفيل بتهيئة الظروف الملائمة لنجاح الثورة الخضراء الثانية إذا روعيت بعض الأبعاد الاجتماعية والثقافية, التي لم تلق الاهتمام الكافي من قبل.

فالملاحظ أنه على الرغم من كل ما أحرزته الثورة الخضراء الأولى من تقدم في مجال توفير الغذاء وإثبات قدرة التكنولوجيا على زيادة الإنتاجية الزراعية فإن ذلك لم يحل بشكل نهائي مشكلة الفقر والقضاء على الجوع بين الطبقات والفئات الفقيرة في العالم ككل وبخاصة في مجتمعات العالم الثالث. وكل ما حققته تلك الثورة الخضراء الأولى ينحصر في المناطق التي تتوافر فيها الإمكانات التي تساعد على الاستجابة للجهود المبذولة, كما أنها لم تحقق النجاح المنشود إلا في مجال إنتاج الحبوب التي تعتبر بطبيعتها مهيأة للاستجابة لوفرة الري والمخصبات, ولذا كانت المحصلة النهائية لهذه الجهود - كما يقول أحد تقارير جامعة العلوم الزراعية بالهند في مارس 2001 - هي اتساع الفجوة بين الأراضي المروية وتلك التي تزرع بأسلوب الزراعة الجافة لدرجة أن 48% من مجموع سكان جنوب آسيا لا يزالون يعانون سوء التغذية المزمن.

فالتحدي الأكبر الذي يواجه العالم الآن لتحقيق مستقبل أفضل يخلو- بقدر الإمكان - من الفقر والجوع, هو نجاح الثورة الخضراء الثانية المرتقبة في المناطق التي لا تستجيب بسهولة للمستجدات التكنولوجية ولنتائج البحوث العلمية مما يجعل من الصعب تأمين الغذاء لسكانها الفقراء وانتشالهم من مذلة الجوع.

ليست خضراء ولكن دائمة

وتحقيق هذه الثورة الخضراء الجديدة - التي يحب البعض إطلاق اسم (الثورة الدائمة) عليها - يستلزم, ليس فقط توفير الظروف المادية والتكنولوجية الملائمة, وإنما سوف يتطلب أولا وقبل كل شيء الالتزام الذي يعبر عن رغبة وإرادة التغيير وخلق واقع جديد يختلف اختلافا جذريا عن الأوضاع السلبية الحالية التي تفرض الفقر والجوع على نسبة كبيرة من سكان العالم. وسوف يشمل هذا التغيير موقف الناس في المجتمعات الفقيرة واتجاهاتهم نحو الحياة, ونظرتهم إلى واقعهم ومستقبلهم مثلما يشمل تغيير تقييم الدول الغنية أو مجتمعات الوفرة للمجتمعات الأكثر تخلفا وإعادة النظر في الواجبات والمسئوليات والالتزامات التي يجب الاضطلاع بها نحو تلك المجتمعات. فهذه كلها جوانب لم تتم مراعاتها على الوجه الأكمل في الثورة الخضراء الأولى, فشرط أساسي لتحقيق الثورة الجديدة هو تغيير أسلوب التفكير وتهيئة المناخ الذهني الملائم على المستوى العالمي نحو المناطق الهامشية التي لا تجد ما تستحقه من عناية الأغنياء ولا حتى من اهتمام المنظمات الدولية بالقدر المطلوب. وتحقيق هذا الشرط كفيل في رأي الكثيرين بأن يجنب العالم كثيرا من الشرور المترتبة على انتشار الجوع والفقر مثل ازدياد معدلات العنف والجريمة والثورات الداخلية والعصيان المدني فضلا عما ينجم عن الجوع من أمراض وأوبئة قد تهدد وجود واستمرار مجتمعات وثقافات بأكملها. فالثورة الخضراء الثانية لن تكون إذن مجرد ثورة تكنولوجية في مجال الزراعة ولكنها ستكون فوق كل شيء ثورة حضارية اجتماعية وثقافية من شأنها تقليص الفجوة بشكل محسوس بين المجتمعات الأكثر تقدما والمجتمعات الأقل نموا في جانب واحد على الأقل من جوانب الحياة الكثيرة المعقدة وهو جانب الفقر والجوع, وإن لم تؤد إلى تحول المجتمعات الفقيرة المعدمة إلى مجتمعات وفرة ورفاهية والأهم من ذلك هو أنها سوف تزيد من إحساس الأغنياء بآلام الآخرين من فقراء العالم, أو هذا هوالمؤمل منها على الأقل.

***

في مقال عن (المشكلات المزمنة: تنمية العالم الثالث) ظهر في عدد يوليو - أغسطس 1987 من مجلة Share International تقول الكاتبة كارول جوي Carol Joy (إننا جميعا نقف في صف واحد على حافة هاوية سحيقة, وإن لم يقتنع الكثيرون بذلك. ولكن حقيقة المأساة التي نعيش فيها لن تتضح بكاملها إلا لهؤلاء الذين يعرفون كيف يمكن التوحد مع الآخرين بالرغم من اختلافهم عنهم في كل شيء, وكذلك الذين يتمتعون بالقدرة على اكتشاف الجانب الإنساني المشترك بين أبناء البشر بالرغم من كل الاختلافات والفوارق, لأن مثل هذا الاكتشاف هو الذي يحدد لنا أساليب وطرق توكيد ومؤازرة العلاقات داخل العائلة الإنسانية العالمية, وهذا ما سوف يتحقق في المستقبل).

 

أحمد أبوزيد