التيراهرتزية تكشف المستور محمد الدنيا

التيراهرتزية تكشف المستور

أصبح اكتشاف المتفجرات المطمورة تحت التراب أو السرطانات تحت الجلدية غير المرئية بالعين المجرّدة أمرًا ممكنًا بفضل الأشعة التيراهرتزية المدهشة, دون عواقب خطرة على الإنسان.

في ميدان الكهرومغناطيسيات, هناك ناحية بقيت غير مستشكفة لزمن طويل, ونعني بها مجموعة ترددات التيراهرتز, الواقعة بين الموجات المكروية والإشعاعات تحت الحمراء, والتي تسمى أشعتها المطابقة (الأشعة التيراهرتزية) (أيضا الأشعة التائية rayons T), إلا أن السيطرة عليها واعدة بإحداث ثورة في ميادين مختلفة, بدءًا بالأمن, ومرورًا بالطب, وحتى الفلك, مع ذلك فإن وجود هذه الأشعة معروف منذ بداية القرن العشرين, (غير أننا لا نملك التكنولوجيا القادرة على توليدها إلا منذ عشر سنوات فقط, واليوم, اتخذت الأمور منحى جديدًا أوسع: لا يكف الباحثون والصناعيون على مر الشهور عن اكتشاف مزيد من التطبيقات للأشعة التائية, ذلك أن هذه الموجات الجديدة يمكن أن تحل محل الأشعة السينية (أشعة إكس) في كل شيء), حسب عبارة البروفسور (هسي - شنغ زهانغ), مدير مركز الأبحاث حول التيراهرتز في معهد Rensselaer بنيويورك.

من الليزرات إلى النبضات فائقة القصر

مثلاً, في ميدان الأمن: يمكن أن تكشف هذه الأشعة متفجرات, وأسلحة غير معدنية, بل حتى وجود عوامل كيميائية أو بكتريولوجية كالجمرة الخبيثة. وفي ميدان التصوير الطبي أيضا, تكشف عن سرطانات الجلد, وعلى صعيد الصناعة الصيدلانية وعلم الفلك, يمكنها تعيين التركيب الكيميائي للأشياء البعيدة.

تتراوح ترددات الأشعة التائبة, التي لا تُرى بالعين المجردة, بين ,0و30 تيراهرتز (1 تيراهرتز =1210 هرتز), أي ما يعادل عدة تريليونات من الدورات في الثانية. تعود أول الأجهزة القادرة على إنتاجها وقراءتها (من خلال مستقبلات) إلى نهاية ستينيات القرن العشرين: (في ذلك الحين, بنى بعض المختبرات الأمريكية بشكل خاص, منشآت قادرة على توليد وتلقي أشعة تقع ضمن مجموعة التيراهرتز, على أساس استخدام الإشعاعات الليزرية. وكمنت مشكلة هذه الأجهزة, المكرّسة غالبًا لعلماء الفلك, في أنها ثقيلة ومكلفة جدا), على حد عبارة (ب.مونيه), مدير الأبحاث في مركز الفيزياء الجزيئية البصرية والهرتزية/المركز الوطني للأبحاث العلمية - جامعة بوردو الأولى/فرنسا. في الواقع, كان طول الليزرات المستخدمة آنذاك من أجل إنتاج الأشعة التيراهرتزية يصل إلى أكثر من عشرة أمتار. وخلال تسعينيات القرن الماضي, تسارعت الأمور بفضل الأعمال المنجزة في مختبرات Bell (نيوجرسي/الولايات المتحدة) التي أفضت عام 1994إلى تصميم جهاز يولد بشكل فعال أشعة تيراهرتزية عبر استخدام ليزر يسمى (الليزر التعاقبي الكمّي) (الذي يتعلق طوله الموجي بثخانة المادة شبه الناقلة التي يتألف منها). ومع تطوير الليزرات ذات النبضات فائقة القصر, المسمّاة (فمتوثانية) (01-15 من الثانية), وهي ليزرات متراصّة وقليلة الكلفة, أمكن توليد الأشعة التائية لتكون متاحة لجميع المختبرات بشكل فعلي. تصدر هذه الليزرات نبضات وجيزة جدا, من مرتبة الفمتوثانية التي نال العالم العربي أحمد زويل جائزة نوبل عن أبحاثها.

ما مبدأها? يطلق الليزر أشعة ضوئية على شكل رشقات من معدل مائة فمتوثانية باتجاه مرسل قوامه أشباه موصلات أو بلورات ضوئية. يشع هذا المرسل حينئذ على شكل طيف من الموجات الكهرومغناطيسية معدل تردداتها الوسطي هو تيراهرتز, ويمكنها أن تخترق عددا كبيرا جدا من المواد, بدءا بالثياب ومرورا بالورق وحتى الباطون, ولا توقفها (أي لا تتعرض إلى الامتصاص أو الانعكاس) بشكل نهائي سوى جزيئات الماء أو الجزيئات التي تتشكل منها غالبية المواد المعدنية. السبب? في الواقع, تشمل ترددات امتصاص جزيئات الماء والمعدن كل مجموعة التيراهرتزات, إلا أنها أظهرت فاعلية أفضل من الأشعة السينية, التي تخترق المواد ضعيفة الكثافة بسهولة, مثل الأنسجة أو اللحم, غير أن كل المواد الصلبة الكثيفة توقفها, كالعظام مثلاً, وهو ما يشكّل أساس التصوير الطبي بأشعة إكس.

كشف المتفجرات والأسلحة

إن فائدة الأشعة التيراهرتزية تنعدم إذا لم يكن بالإمكان استقبالها من خلال لاقطات من أجل قراءتها عقب مرورها عبر الأشياء التي تتعرض لإشعاعها. (للحصول على معلومات حول شكل أو تركيب مادة يتم تفرسها بالأشعة التائية, نستخدم مستقبلات ذات تركيب مشابه لتركيب المرسلات, والتي تكمن وظيفتها في التقاط الإشعاعات المارّة عبر الشيء, أو التي عكسها هذا الأخير), يضيف (ب.مونيه), وبمقارنة مميزات هذه الأخيرة بالأشعة الأصلية, يسهل جدًا حينذاك البحث عن الخاصيات الجوهرية للمادة الجاري تحليلها. المبدأ هنا مختلف عن التصوير الطبي بأشعة إكس, حيث يكشف الفيلم (غير المستعمل) عن شدة أشعة إكس التي تعرض لها في كل نقطة منه, في حين أن المناطق غير المتأثرة تتوافق وأجزاء الجسد التي امتصت هذه الإشعاعات, كالعظام. (مثلا, إذا امتص غاز واقع تحت الأشعة التيراهرتزية ترددًا خاصًا من حيث تركيبه الجزيئي النوعي, فإنه يظهر (تجويف) في طيف الأشعة الحاصلة, وهذا ما يشكل (علامة كيميائية) تتيح استنتاج طبيعة هذا الغاز), يقول الباحث الفرنسي, وبالطريقة نفسها: الأشعة التيراهرتزية قادرة على إعادة نسخ شكل المواد الصلبة التي تعكسها, كالأشياء المعدنية, أو حتى الأشخاص, من حيث الماء الذي يحتويه الجسم.

خاصيات كهذه مثيرة للحماس اليوم. فبالنسبة لخبراء الأمن العالميين, (تعد الأشعة التيراهرتزية بتطبيقات هائلة في ميدان الكشف عن المتفجرات. وخلال السنتين الأخيرتين تم التوصّل في المختبر إلى تعيين البصمة الكيميائية للعديد من المواد المتفجرة المختلفة. ثم إن هذه الأشعة تمتاز بأداءات مماثلة في الكشف عن العوامل البيولوجية والكيميائية), يقول البروفسور (زهانغ), الذي تمكّن وفريق معهده عام 2002 من إثبات فاعلية الأشعة التيراهرتزية في الكشف عن وجود عصيات الجمرة الخبيثة, الأبواغ التي تسبب هذا المرض, والتي أحدثت رعبًا في الولايات المتحدة عقب إرسالها بالبريد بعد وقت قصير من اعتداءات سبتمبر2001. وهذا ما دفع وكالة أبحاث وزارة الدفاع الأمريكية (Darpa) أخيرًا للإفراج عن نحو 18 مليون دولار لتمويل المرحلة الأولى (بدأت في فبراير 2004) من برنامج أبحاث واسع مكرس لتطبيقات الأشعة التيراهرتزية في ميداني الأمن ومكافحة الإرهاب. الأسلحة المخفية تحت الأغلفة أو تحت الثياب, كالبنادق والمسدسات والسكاكين, هي أيضًا من استهدافات هذه الأشعة. في هذا الاتجاه, طوّرت شركة (تيرا فيو) البريطانية, التي تعمل خصيصًا في تسويق تطبيقات مرتبطة بالأشعة التيراهرتزية, مفراسًا محمولا اسمه (Terahertz Pulsed Imaging) TPI. ويقوم دوره على تعيين كل أنواع المواد غير القابلة للكشف عمومًا بالطرق التقليدية, مثل البلاستيك والخزف وأيضًا الورق.

غير مؤذية

كان باحثو شركة (تيرا فيو) قد أثبتوا أن جهازهم TPI قادر على كشف أشياء غير معدنية مطمورة تحت التراب, على عمق قليل, وتلك نتيجة مشجعة جدا إذا عرفنا الصعوبات التي تصادف في تحديد مواضع الألغام المضادة للأشخاص, ذات البنية غير المعدنية المصممة هكذا للإفلات من تقنيات الكشف التقليدية. كذلك, لن يمكن للسكاكين المصنوعة من الخزف, المخفية داخل كيس أو حقيبة أو جيب سترة, الإفلات من الكشف بالأشعة التيراهرتزية, وليست تلك هي الحال مع المعاينة بالأشعة السينية. هناك استخدامات أخرى تنتظر الأشعة الجديدة, خصوصًا في ميدان خطف الرهائن: لما كانت قادرة على اختراق أكثر الجدران ثخانة, فإن هذه الأشعة ستتيح تحديد مواضع الإرهابيين ورهائنهم بالزمن الحقيقي داخل الأبنية, وهو أداء غير متاح لأي تكنولوجيا أخرى.

هناك ميزة مهمة لهذه الأشعة: غير مؤذية. تتفوق الأشعة التائية على الأشعة السينية من حيث إنها غير مؤذية, أي أن طاقتها غير كافية لانتزاع إلكترون من ذرة, على عكس السينية, التي تضاءلت أهميتها باستمرار بسبب ضررها, وتأيينها لخلايا الجسم الحي الذي يمكن أن يصل إلى حد السرطنة أو العقم, الأمر مختلف مع الأشعة التائية: (طاقة فوتون صادر عن حزمة من معدل 1 تيراهرتز هي وسطيًا أضعف بمليون مرة من طاقة فوتون صادر عن أشعة سينية, وفي المحصلة: لا تتعرض نسج البدن للتلف), يضيف البروفسور (زهانغ). يبقى أن الدراسات الجارية حول هذه النقطة الأخيرة, في أوربا والولايات المتحدة, لم تعط بعد نتائجها الدقيقة, التي تنتظرها قطاعات مختلفة, خصوصًا التصوير الطبي, وقد أثبتت دراسة أنجزها باحثو شركة (تيرا فيو) البريطانية عام 2003 على عشرة مرضى قدرة هذه الأشعة على الكشف عن سرطانات الجلد, وتلك قفزة مهمة إلى الأمام.

من التسوس إلى الأورام

حتى ذلك الحين, لم يستطع الأطباء الكشف عن سرطانات الجلد بالعين المجردة, ويعتقد الباحثون أن قدرة الأشعة التيراهرتزية على كشف الأورام السرطانية الجلدية, ناتج عن الغزارة الكبيرة في السوائل داخل النسج السرطانية, فإذا ما تعرضت لحزمة أشعة تيراهرتزية بدت أغمق لونًا. وإذا كان ماء الجسم, الذي يتصرف كدرع واق, يعيق اليوم الأشعة التيراهرتزية من تعيين أورام أعمق, فإن باحثي شركة (تيرا فيو) يأملون بإضافة وظيفيات طبية أخرى للأشعة التيراهرتزية, كتصوير الثدي بزيادة قدرة الحزمة الكهرومغناطيسية, فضلاً عن ميادين أخرى, مثل جراحة الأسنان, حتى تتيح الأشعة الجديدة مثلاً الكشف عن التسوسات, تحت الميناء, قبل أن تصبح مرئية.

مع ذلك, إذا كان بعض التطبيقات على وشك أن يكون عمليًا, كمراقبة الأدوية بتحليل تركيبها الكيميائي, أو أيضًا في الكشف عن عيوب الرغوة العازلة في مكوكات الفضاء, التي يتعذر على الأشعة السينية أو الموجات فوق الصوتية اكتشافها, فإن البعض الآخر يبقى غير مؤكد كثيرًا. وهكذا, فإن باحثين من جامعة (ليدز) البريطانية لديهم مشروع يهدف إلى تصميم جهاز يتيح قراءة كاملة لأي كتاب, دون اللجوء إلى فتحه أبدًا. وبما أن الأشعة التيراهرتزية تتصرف بالطريقة نفسها, وفقًا للتركيب الكيميائي للمواد المعنية, فإنها يمكن أن تكون في الواقع قادرة على تمييز مناطق الورق غير المكتوبة عن تلك التي أعيد تحبيرها, وبالتالي إعادة نسخ محتوى المخطوطات القديمة التي يمكن أن تتأذى عند فتحها.

 

محمد الدنيا 




جهاز الاشعة التائية





يمكن أن يتعزز الأمن في المطارات بفضل الأشعة التيراهرتزية, التي يمكن أن تكشف الأشياء غير المعدنية التي لا ترى بأشعة إكس, كهذا النصل الخزفي والمتفجرة البلاستيكية المخفية في النعل





أذيات على جبين مريض تبدو على أنها سرطان جلد, وتبدو باللون الأحمر من خلال المعاينة بالأشعة التيراهرتزية. ويمكن للأشعة التيراهرتزية أن تتيح كشفًا أبكر عن حالات تسوس الأسنان بجعلها الانسجة الموجودة تحت الميناء مرئية, وهو ما لا تستطيع أشعة إكس كشفه