بيشيليه.. شعوب المتوسط.. فنون العالم أشرف أبو اليزيد عدسة: أشرف أبو اليزيد

بيشيليه.. شعوب المتوسط.. فنون العالم

مثل عملة عريقة من معدن أصيل, ترقد مدينة بيشيليه في الجنوب الإيطالي على شاطئ البحر الأدرياتيكي (34 كيلومترًا شمال باري). تستمع بوجهين لا يتناقضان, فيهما لغة البحر والبر. تمد قدميها في المياه التي تصلها بالبحر المتوسط, وتمد كفيها بقنينة زيتون وحفنة كروم وكرز, وحلوى ابتكرتها قبل خمسة قرون. ولها غير ذلك كله ولعٌ بأن تجمع على وجهيها شعوب المتوسط, شماله وجنوبه, وفنون العالم بكل أبجدياته.

إذا كانت كل الطرق تؤدي إلى روما, فهي تقودك أيضا إلى بيشيليه! الطريق إليها يمر بإحدى مدينتين; بارليتا أو باري. فإلى أي منهما ستصل أولا, قادمًا من العاصمة الإيطالية, بالقطار أو بالطائرة أو بالسيارة, (وقد تصلها بحرًا!) كلما أوغلت في الطريق إليها, أحسست أنك تمضي في قراءة صفحات رواية كلاسيكية, لا تقفز فيها المفاجآت, لكنها ملآنة بالحركات الموسيقية كسيمفونية تنتظر من يعزفها.

مدينة وثائران

بيوت المدينة, حتى الجديد منها, لا يزال يحتفظ بطابعه المحلي. فلم تستطع البنايات الشاهقة, أو المجمعات التجارية الصاخبة, أن تغزو الأحياء الجديدة. أما الأحياء القديمة فتحتفظ ببيوتها سواء تحولت إلى مؤسسات حكومية, أو متاجر حديثة, أو بقيت لساكنيها. الأرضيات ذات الأحجار البازلتية التي تصل بين هذه البيوت تشكل خرائط للقدم العاشقة للقديم. حتى في الأسماء الوطنية التي يحفل بها التاريخ مثل بطلهم غاريبالدي الذي وحد إيطاليا بعد سقوط نابليون, قبل أن ينفى إلى أمريكا اللاتينية, تراه يعود على واجهة المسرح الرئيسي, ولافتات المخابز, وأسماء المقاهي. ومثل كل الحروب الوطنية, هناك من يرى في حركة غاريبالدي حرب عصابات, ولكن التاريخ يقول إنه صاحب فكرة الوحدة الإيطالية, وينتصر التاريخ في النهاية لأبطاله.

وإذا كان البعض يختلف على تعريف غاريبالدي, فأوربا كلها تدين لبيشيليه التي أنجبت الموسيقار ماورو جولياني سنة 1783, وهو أحد أشهر المؤلفين الموسيقيين العالميين والعازفين على آلة الجيتار, وقد صادق بيتهوفن في فيينا, عاصمة الموسيقى الأوربية, قبل أن يعود ليستقرّ في روما فيتعرف على الموسيقي العالمي روسيني, ولتتحول مدرسته في العزف على الجيتار والتأليف له إلى ثورة موسيقية, حتى أن دورية للموسيقى صدرت باسمه في بريطانيا هي الجوليانيات. وبعد أن طور الإيطالي جيوفاني باتيستا الجيتار مضيفاً إليه الوتر السادس, أصبح جولياني أول العازفين على هذا الغيتار المطوّر ورائده في أوربا. لذلك تحتفل المدينة بابنها الموسيقي الثائر, وتقيم له مهرجانًا جيتاريًا يحييه عاشقو هذه الآلة الموسيقية الثورية في العالم.

التسكع في الحارات والأسواق البيشيلية يقودك إلى مشاهد متوسطية مألوفة: أصدقاء مسنين يتجادلون بصوت عال, نساء يراقبن الطريق من الشرفات, وأخريات يفترشن الأرض أمام البيوت في الشوارع الضيقة والملتفة تعلوها أقواس كأذرع متعانقة, الخضار والفاكهة والأسماك والنداءات التقليدية, والابتسامات الدافئة والضحكات الساخنة مثل فطائر خبز خرجت من نار الفرن.

تاريخ وجغرافيا

فيم ستتحدث مع سائق إيطالي متحمس? إنها كرة القدم ونجوم الدوري الإيطالي, وعشاقهم حول العالم, والراغبات في الزواج بهم, وخيبة المنتخب الآزوري في كأس الأمم الأوربية, وحين تتيقن أنه استاء, تقول له: ولكننا اخترنا في مصر مدربًا إيطاليًا للمنتخب الوطني, وكأننا نطمع في حظ إيطاليا العاثر لولا أهداف أليساندرو ديل بييرو, وليس لدينا في مصر مثله! تضحك دليلتنا جوليا وأنا أقول لها إن المدرب يقضي معظم وقته في إيطاليا مع أسرته, وإنه يدرب منتخبنا بالبريد الإلكتروني!

تتوقف السيارة قرب (دولمن لاتشيانكا), وأمام لوحة سوداء لا تحمل سوى سبعة سطور باللون الأبيض تتولى جوليا شرح ما نرى, وهو ليس سوى أخدود في الأرض طوله بضعة أمتار, ينتصب على آخر طرف له قائمان وعارضة من الحجر العريض غير المستوي. لكن ما نراه أمامنا, ويشرف على مساحات شاسعة من اللون الأخضر, ليس سوى قبور أبناء الطبقات الاجتماعية العليا في المنطقة والتي تميزت بلُقى أثرية تمثل أدوات الحياة التي يحتاج إليها الراحل عندما يبعث إلى الحياة.

ورغم ندرة هذا النوع من القبور في أوربا, التي بني معظمها فيما بين الألفيتين الخامسة والرابعة قبل الميلاد, وهي التي تعود لأواخر العصر النيوليتيكي وأواسط العصر البرونزي, فإن بيشيليه وحدها بها أربعة منها, وتتوزع بقيتها في بريطانيا وأيرلندا وفرنسا وإسبانيا وشبه الجزيرة الإسكندنافية, فضلا عن الموجود منها في الشرق الأوسط والقوقاز. وهي المناطق التي شهدت فجر الحضارة الإنسانية في العالم, مما يشير لأهمية وعراقة المدينة. وقد تم تسجيل خمسة آلاف دولمن في العالم حتى الآن, وكان يعتقد أن حجارتها هبطت من السماء; ويبقى أن نقول إن DOLMEN تعني بالإنجليزية (منضدة الحجر), ولم لا فربما كان العشاء الأخير للراحل يتم تحضيره فوقها!

بعيدًا عن الموت, تبهجنا الحياة. ففي الطريق يشدنا مشهد صاخب. كان المجتمعون أمام مبنى عتيق لكنيسة حجرية يرتدون حلل العيد, قلنا لا بد أنها حفلة زفاف صباحية! وكان للسائق رأي آخر: لا نحتفل هنا بالزفاف صباح أيام الآحاد. استغرقنا الطريق, لكننا حين عدنا كان المحتفلون لا يزالون متحلقين في المكان, طفلات جميلات بزي عروس, يتبادلن التهنئة ويتناوبن الرقص, رجل يصافحه الكثيرون ظننته والد العروس. كان الفضول قد استبد بنا, فسألنا جوليا أن تستطلع الخبر; وكانت الإجابة المدهشة, والتي أكدت ظن صديقنا السائق: ليس حفلا للزفاف, إنهما زوجان يحتفلان بمرور 25 سنة على عرسهما. أقترب من باب الكنيسة في انتظار خروجهما, الأطفال يحملون البالونات, والفتيات يحملن الزهور, يخرج الزوجان في بزة سوداء ورداء ليلي, ووجهين يملأهما السرور, وأقاربهما يمطرونهما بحبات الحنطة والأرز, ولحظات من التهليل والمرح, وصور تسجل لحظات لن تتكرر.

لا يفاجئنا اللون الأخضر بين منطقة وأخرى, إنما تدهشنا تنويعاته, ولا نعجب من البساط الأرضي الذي تطرزه أشجار الزيتون, التي تزين علم المدينة وشعارها, تمتد الأيدي لتينات برية يكاد سكرها ينسيك شمس أغسطس, هنا فردوس حقيقي من الزيتون (الذي يزرع في نحو 46 % من الأرض), والكروم والكرز والتين والصبار, وأزهار تدعوك لكي تنقطع عن العالم حتى تتفرغ لتوثيقها ببتلاتها التي جلبتها من باليتة بها مليون لون. ويرعى هذه الثروة الخضراء مائتا مزارع, و3500 صاحب أرض زراعية, وألفا عامل بالفلاحة, على مساحة 16 ألف هكتار. نقطع باقي الطريق هابطين مشيا على الأقدام حيث مكان تاريخي آخر, مغارة كشفت الصدفة عنها, ويعتز بها أهل بيشيليه, ويعدونها من المزارات المهمة, رغم أنها لا تزال تحت الترميم والتوسعة. كان البرد يتوغل في الجسد كلما توغلنا في ممرها الصاعد إلى البهو الأكثر اتساعا بها, نسند بيدٍ الخوذة الصفراء فوق الرءوس, ونستند باليد الأخرى على جدار الدرج الخشبي.

ترتفع مغارة سانتا كروز 120 مترا فوق سطح البحر, يقود طرفها الغامض نحو البحر الأدرياتيكي. وقد سكنها البشر حتى العصر البرونزي, كما تحكي المخلفات واللقى الأثرية, حتى أن أدوات عثر عليها بها يعود تاريخها إلى 11 ألف سنة خلت, وبدأ في إلقاء الضوء على أهمية اكتشافها سنة 1937 الأثري ف. س. ماجيارو, حتى عثر عام 1940 على ثلاثة رسوم يصور أحدها مؤخرة لحيوان. وفي 1955 اكتشفت عظمة ردف تعود لإنسان نياندرثال.

وهكذا يعود ثراء تاريخ المدينة إلى موقعها, وخصوبة جغرافيتها, ويمكننا أن نعد أسوارها ـ في هذا السياق ـ جزءا من بنية التحصين التي اعتمدتها المدن التاريخية القديمة, وإذا كانت أقدم الوثائق المدونة لتاريخ المدينة يعود للنصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي, فإن السور قد شيد في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. أما البرج الكبير الذي يطلّ على المدينة الأثرية فقد بناه الملك الألماني فريدريك الثالث الذي حكم إيطاليا بين 1155 و1190م.

في الطريق لأعلى البرج (بارتفاع 27 مترًا) مررنا بأكثر من ركن يحتفظ بتاريخ بيشيليه: آلات صناعة الباستا على مر العصور, عجلات عربات الخيول, أدوات الإسكافي, ملصقات ومحفورات وصور ورسوم, وغرف معيشة, وجَدّة تغزل الحكايات مع الصوف, ومنضدة وآلة حياكة. ومن أعلى البرج تستطيع أن تشاهد كاتدرائية سان بيتر, وهي واحدة من أقدم الكاتدرائيات الرومانية في الجنوب الإيطالي, التي تحتفظ برائحة التاريخ فوق أحجارها.

باستا وسوسبيرو وأشياء أخرى

نتوقف في طريق العودة عند المرفأ, الذي سأحرص على زيارات صباحية مبكرة له. في الصيف لا تفتح المحلات قبل فترة العصر, إلا يوم سوق الثلاثاء, حيث تبدأ صباحًا, حتى أنك تحس بالهدوء نفسه في الميناء الصغير إلا من بعض الصيادين والمتنزهين في يخوتهم. لا يعمل في الصيد سوى 450 شخصا, لكنهم يكفون حاجة المدينة التي وهبتها الطبيعة ميناءها ومرفأها, فلم تدخل عليه أي تعديلات. يقترب موعد الغداء, ونقترب من الفندق, نعبر طريق القوارب الخشبية, والبيوت ذات الطابقين, والمطاعم الصغيرة, وباعة الخضار, والمتنزهين فوق دراجاتهم, واللافتات التي تذكرك باحتفال المدينة بالصيف.

تبدأ المائدة الإيطالية في بيشيليه بالسلطة الخضراء, والباستا التي تلونها فرشاة الذهب الأحمر (الطماطم). أتذكر عند رؤية اللون الأحمر ابتسامة مدير الثقافة حين صحبنا إلى سيدة الذهب الأحمر, كنت أريد التعرف على بعض الصناعات الشعبية, وحين وصلنا, ارتدت السيدة العجوز ثوب الانشغال (كانت تشبه الممثل استفان روستي في تأففه وأنفته), وأعطتنا موعداً آخر للقاء. عدنا من عندها مكتفين بلقاء الطماطم ذاتها على وجبة الغداء, التي ستبدأ بالباستا وتستمر معها, باستا من كل شكل ونوع. وأسماك ودجاج وأرانب برية.

ستشعر أنك ـ وهي حقيقة ـ في قلب ريف أصيل, لا ينشغل إلا بالمائدة, حتى تنتهي بالفاكهة أو حلوى السوسبيرو. وإذا كان لبيشيليه زيتونها, وذهبها, فلها حلواها, التي كان اسمها سوسبيرتي الراهبات. وهي شطيرة صغيرة من العجين المحشو بالمربى أو الكريمة المخفوقة, والمزينة بنوع من الجيل المسكر. وتصنع منذ ما يقرب من خمسة قرون. أما الخبز البيشلي التقليدي فيسمى بالفوكاتشا, ويشبه فطيرة البيتزا المزينة بقطع الذهب الأحمر, والمحشوة أحيانا بالزبد أو جبن الموتزاريلا. والفوكاتشا المستديرة كبيرة المساحة رمز لوحدة العائلة في جنوب إيطاليا, حين تجتمع حولها وتتقاسمها.

حين زرت بعض البيوت في بيشيليه لم تدهشني الروح الدافئة للاستقبال, سواء في بيت إحدى النبيلات, التي صحبتنا لغرف البيت القصر, ووقفت بمحبة كبيرة أمام علب الفضة التذكارية الصغيرة تتذكر أيام سعادتها, فهذه العلب اهداءات من أفراد العائلة الكبيرة منذ زفافها, ومع ميلاد أطفالها, وذكرى الزواج وهكذا. أتوقف أمام لوحات زيتية ضخمة, بعضها لرجال دين. تقول دليلتنا: في العائلات الكبيرة كان لا بد أن يوجد من بينها رجل ينتمي للكنيسة, في إحدى مراتبها العليا. نجلس قليلا في غرفة المطالعة, التي تفضي لغرفة المكتبة. لم تكتف السيدة النبيلة بالإرث الأرستقراطي, لكنها تعمل أستاذة جامعية, ولم تخف جدران المنزل العالية بساطتها, وابتسامتها.

غير بعيد من ذلك المنزل زرنا بيت سيدتين في بيشيليه القديمة. ورغم تواضع الشقتين, إلا أن نظافتهما تدلان على صاحبتيهما. في الدور العلوي تعيش قطتان ثقلت حركاتهما, كحركة سيدة البيت, التي رحبت بنا, ودعتنا إلى طبق الفاكهة على مائدة الغداء. حين نزولنا دعتنا جارتها في الطابق السفلي للدخول. قالت: وحدي هنا أسكن بعد رحيل زوجي, وفي سن السابعة والستين ليس لي إلا أن أشكر ربي على نعمة الحياة. تشير لصورة لزفاف ابنتها على الجدار, هؤلاء هم الأمل. لا يؤنسها غير الصور وتمثال للسيدة العذراء, وذكريات ترقص في المرآة الكبيرة إلى يمينها فوق صورة رفيق دربها الراحل.

مهرجان شعوب المتوسط

ما إن قلد أحد أعضاء الفرقة الأردنية, الكوفية العربية لعمدة المدينة فرانشيسكو نابوليتانو, رئيس البلدية, ورئيس المهرجان, حتى غمر المسرح المكشوف المطل على البحر الأدرياتيكي, تصفيق حار وتهليل أكبر, كانت تحيتنا كضيوف للرجل الذي خص العرب في هذا المهرجان باحتفاء خاص, ومنع إسرائيل من المشاركة في فعالياته, رغم تمنع بعض العرب في القدوم, أو اعتذار بعض الفرق العربية, في اللحظة الأخيرة, عن عدم المشاركة. أما تحية باقي الجمهور, فكانت لعمدة المدينة الشاب, فرانكو كما ينادونه مجردا, الذي يشارك أهل بلدته (53 ألفا) أفراحهم ليلا حتى الساعات الأولى من الصباح, ثم تراه صباحًا يدير شئونها بمكتبه في مبنى البلدية.

تضمنت أمسيات المهرجان وأيامه عروضا مسرحية وغنائية وتشكيلية وشعرية. ولم تقف اختيارات المهرجان الذي أدارته فنيا فلوريانا سافينو عند حدود حوض البحر المتوسط, بل تخطتها إلى دول وثقافات أخرى, من دولة الكويت والمملكة الأردنية الهاشمية, حتى البرازيل وكوبا والسنغال!! وفي سنوات سابقة كانت هناك مشاركات عربية من السودان مثلا, وكأنها رسالة سلام من المدينة ليبحث الجميع في ثقافاتهم عن روح التواصل بدلا من البحث عن جذور الشقاق.

ولعل أبرز الفرق المشاركة التي عبرت عن ذلك المعنى تلك التي ضم حبات مسبحتها الموسيقار الإيطالي ماريو ترونكو من فنانين يعزفون وينشدون ثقافاتهم المختلفة ضمن نسيج واحد. صوت حسين عطا (تونس), وغناء وفلوت كارلوس باز (الإكوادور), وإيقاعات آميت باب (السنغال), وترومبيت عمر لوبيز (كوبا), وطبلة راهيس بارتي (الهند), ومقامات محمد بلال وآلته الموسيقية (الهند), وبوق ماريان سيربان (رومانيا), وعود وغناء سيماك خليلي (إيران), ووتريات راؤول سيبا (الأرجنتين), وقيثارة صغير خان (الهند), وناي محمد عبد الله (مصر), وكونترباص جيوسيبي بيكوريللي (إيطاليا), وكمان بيرناردو بيناتزي (إيطاليا) وكمنجة جيوكومو إنفرنيزي (إيطاليا), وجيتار ميتاكسو (إيطاليا) وغناء كريستينا كابرارولو (الأرجنتين) وعود محمد زياد الطرابلسي (المغرب), ووتريات سيلفيا ماينجر (ألمانيا), وكمنجة جون مايدا (الولايات المتحدة). وهكذا استطاع الموسيقار الإيطالي أن يوحد بلغة عالمية أقطابا متنافرة.

وعلى المسرح المفتوح, مسرح المتوسط, وفي ساحة المدينة ميدان إمانويل الظافر, رقصت الفرقة الأردنية (الهيل) مقدمة التراث الأردني من موسيقى وأغان, في حضور وزيرة الثقافة الأردنية أسماء خضر, التي ربما كان حضورها سببًا في جعل المشاركة العربية تكتسي طابعا أردنيا مع كثرة المشاركين من المملكة.

المهم أن الجمهور تجاوب مع العروض الموزعة بين مسرح غاريبالدي, ومسرح المتوسط, وساحة إمانويل, لكن عشرات الآلاف كانوا ينتظرون ليلة المطربة الإيطالية أنطونيلا روجيرو, حتى أن الطريق إلى مسرح المتوسط كادت تكون مغلقة قبل العرض بساعات, وأشعلت أنطونيلا حماس جمهورها, حتى علا نبضهم حين بدأت تغني أغنية, بعنوان بيسكاتوري Il Pescatore:

في ظلال اللون الأخير من الشمس الغاربة/ كان صياد السمك نائمًا/ ولم يكن يستيقظ فوق ملامح وجهه/ غير طيف ابتسامة...

لم تكن معاني الكلمات وموسيقاها وحدها هي التي حركت الآلاف, كما تبين لي بعد ذلك, وإنما كان الوفاء من مطربتهم, التي غنت أغنية ليست لها, تحية لروح مؤلفها الشاعر الراحل ف. دي أندريه. وكان هذا الاستقبال للمطربة والأغاني, وراء حماسة المسرحي الكويتي فؤاد الشطي الذي اندفع يحييها, ويقول لها إنها أم كلثوم إيطاليا! ويعرف الجمهور الإيطالي أم كلثوم, ويضع المنظمون صورتها على برنامج مهرجانهم, ولكن كان ينقص أن يأتي من يقول لهم إن لديهم أم كلثوم أخرى.

تشكيليون وشعراء

المعرض التشكيلي الذي عرض بين دار البلدية ودار سانتا كروز, شارك فيه فنانون من الأردن: هيلدا الحياري, وسعيد حدادين, ودانا خريس, والعراق: محمد الشمري وهاشم حنون, وسورية: خالد الخاني, ومصر: جمال عبد الناصر أبو اليزيد, وعثمان صلاح الدين عثمان, وتركيا: ريحان عباس أوغلي, وإيطاليا: جوليو بيستروتشي وليوناردو كوسامي. من بين المشاركات التشكيلية التي اقتربت منها كان العمل الذي قدمه الفنان جمال عبد الناصر, ويمثل مجموعة سمكات ترتدي حللا شعبية متوسطية بألوانها الزاهية, وفيه سلك الروح الفطرية التي ميزت كائناته في المعارض التي شاهدتها له من قبل. التركيبة المتعانقة للسمكات تكاد تجعلها مثل فرقة للباليه (الشعبي) لكن عرض السمكات على الجدار أخذ من روح الانطلاق, وأضاف العتمة البيضاء للخلفية, وكان من الأفضل أن تسبح في فضاء ثلاثي الأبعاد. بينما انتقلت الفنانة هيلدا الحياري في الأعمال المعروضة لها إلى روح الكتاب التشكيلي, ففي حين قدمت نماذج لصفحات كتاب بألوان ساخنة, وتلقائية توزيع الكائنات على زواياه, رأيتها لا تزال ترسم متواليات من الأشكال الهندسية الحرة فكأنها تختزل الكون في مربع اللوحة.

أما الفنان خالد الخاني فأعاد الروح إلى الموسيقى الشعبية من خلال لوحته ذات المستويات الثلاثة, التي يتوزع عليها ثلاثة مناظر لعازفين ومنشدين, فيما يذكرنا بالليالي الشعبية في حلقة موسيقية صوفية حلبية. وقدم الفنان الإيطالي ليوناردو كوسامي عملا مختلفا عن باقي المشاركات, حيث بسط على الأرض تكوينا من الحصى والورق الملون لقلوب متدرجة تعبر في ألوانها عن طرفي النقيض بين منتهى الحب وأقصى الكراهية.

كما شارك ليوناردو كوسامي أيضا كشاعر في الأمسية التي ضمته مع ضيوف ندوة الشعر من إيطاليا, والبرازيل, وفلسطين (عدنان كنفاني), والأردن (زياد العناني), ولبنان (شربل داغر), وكاتب هذه السطور من مصر. وقد قرأنا قصائدنا متبوعة بترجماتها إلى الإيطالية, ومسبوقة بعروض موسيقية راقصة لإحدى فرق الباليه الشابة, داخل باحة دير يعود بناؤه لأكثر من 300 سنة, وتسجل لوحة حجرية تاريخية زيارة أول أبناء الملك فرديناند ملك البوربون وزوجته ماري كارولين (يونيو 1797م). وبعدها يكرم عمدة المدينة الشعراء بمنحهم دروعا تذكارية وأعلام بيشيليه. وفي أمسية شعرية موسيقية أخرى بمسرح غاريبالدي يقرأ ممثل إيطالي نصا هجائيًا لرئيس وزراء إيطاليا برلسكوني, بدعم من تصفيق الجمهور يصعد الشاعر إدواردو سانجنيتي وهو من أعلام الأدب الإيطالي الكلاسيكي المعاصر, ليرتجل: إيطاليا ليست برلسكوني فقط, إيطاليا بلد السلام الإنساني.

وداع مسرحي

لم يحمل العمل المونودرامي الذي شاركت به الكويت, مناظرة بين الليل والنهار, سوى أداء ممثله عبد العزيز الحداد (فرقة مسرح الخليج العربي). فالنص الذي ألفه محمد أفندي الجزائري يمكن أن يعرض في فضاء محلي مدرسي, معني بلغة السجع, أو تقفية السطور الشعرية, أما حين يكون الأمر مهرجاناً دولياً, تتنافس فيه تجارب جديدة, حتى خارج إطار الجوائز, فعلينا أن ندرك أهمية تقديم قيمة جديدة. الفرقة هي أول فرقة مسرحية أهلية كويتية تأسست في 13 مايو 1963م, والعمل هو أحدث إنتاج لهاـ وقدمته في أكثر من ساحة, آخرها مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما (2003م). واختلفت العروض الأخرى التي مزجت بين الأداء الحركي والموسيقي, والنص المنطوق, حتى أن اللغة البصرية كانت تغني ـ أحيانا ـ عن لغة الأبجدية التي نجهلها. وهو ما فعلته أيضا عايدة أبو بكر التي قدمت مونودراما مسرح الناس (تونس).

شدتني تجربة الفنان المسرحي نمر سلمون (الإسباني من أصل سوري), للحديث عن تجربته بعد أن قدم نحو 40 مشروعًا مثل بها أو أخرجها في إسبانيا وخارجها. يؤمن سلمون بضرورة مشاركة متلقي المسرح في العمل, وليس فقط كسر الإيهام المسرحي, كما حاوله بريخت. يقول: (أحد أشكال المسرح التي قدمتها كان في إحدى المدن الإسبانية. وكنا في مشروع تقديم السياحة الجغرافية عبر المسرح. كانت الدليلة السياحية ـ وهي عنصر من أفراد المسرحية الفرجوية ـ تصطحب فوجا من الجمهور, أو السياح, من مكان إلى آخر وهو الفوج الذي يمكن أن ينضاف إليه أو يخرج منه جمهور هذه المسرحية. ثم تتوقف في أماكن تاريخية بعينها, هنا يظهر على خشبة مسرح المكان التاريخي مشهد مسرحي يناسب ذلك المكان).

هذا الشكل المسرحي وسواه, دعا الفنان نمر سلمون, وزوجته وشريكته في فرقته المسرحية, بياتريس, إلى أن يستعينا بجمهور مسرح غاريبالدي في مشاهد من عمله, ودون إعداد مسبق. في الأيام التالية, وأثناء العروض, كان يأتي إليه للتحية جمهور, وممثلون في عمله, ربما لن يمثلوا مرة أخرى قبل أن يعود إليهم سلمون في العام القادم.

 

أشرف أبو اليزيد 




صورة الغلاف





بعد رحلة مبكرة تستكين قوارب الصيد العتيقة في بيشيليه, في ميناء وهبته لها الطبيعة, واعتنى به أهل المدينة





 





الـ(دولمن لاتشيانكا), وهو نموذج لقبور أبناء الطبقات الاجتماعية العليا في المنطقة وتعود لأواخر العصر النيوليتيكي وأواسط العصر البرونزي, وكان يعتقد أن حجارتها هبطت من السماء





عمارة مدن البحر المتوسط, تبدو فيها المنازل جزرًا تربط بينها موجات من الدرج الصاعد والهابط. ألوان ساخنة للحياة, في مقابل ألوان السماء المنعكسة على صفحة المياه والبيوت والزبد الذي ترك الشاطئ للشرفات





البهجة لغة الحياة الإيطالية: زوجان يحتفلان بمرور 25 سنة على عرسهما. الأطفال يحملون البالونات, والفتيات يحملن الزهور, يخرج الزوجان في بزة سوداء ورداء ليلي, ووجهين يملأهما السرور, وأقاربهما يمطرونهما بحبات الحنطة والأرز, ولحظات من التهليل والمرح





حين تزور بيوت (بيشيليه) لن تدهشك الروح الدافئة للاستقبال, حيث يدور حوار الأجيال, حول أبجدية الذكريات





لا يؤنسها غير الصور وتمثال للسيدة العذراء, وذكريات ترقص في المرآة الكبيرة إلى يمينها فوق صورة رفيق دربها الراحل. (أنا أشكر ربي على نعمة الحياة, وهذه صورة لزفاف ابنتي, هؤلاء هم الأمل)





مشهد من منزل أرستقراطي, في غرفة القراءة





عمدة المدينة فرانشيسكو نابوليتانو, رئيس البلدية, ورئيس المهرجان يتقلد الكوفية العربية ويتلقى التحية من ضيوفه العرب، علم مهرجان شعوب المتوسط, وعليه شعار المدينة باللغتين الايطالية والعربية





أنطونيلا روجيرو تمزج الأساطير بحكايات البحر في أغنيتها عن صيادي السمك





حضور لافت للتراث الأردني من موسيقى وأغان واستعراضات





مونودراما الفنان عبدالعزيز الحداد في العرض المسرحي الكويتي بمشاركة إيطالية لإلقاء النص وعزف الموسيقى





تشكيليون عرب قدموا لغة البحر والتاريخ في مقامات لونية, الصورة تجمع بين الفنانين: جمال عبدالناصر (مصر), وخالد الخاني (سورية), وهيلدا الحياري (الأردن)





الفنانان نمر سلمون وزوجته بياتريس, وجولة قبيل لقائهما المسرحي الذي يمثل إسبانيا ضمن عروض مسرح المشاهد





ليوناردو كوسامي (ايطاليا), قدم تكوينًا من الحصى والورق الملون لقلوب تعبر الوانها عن طرفي النقيض بين الحب والكراهية