الإلحاح على النموذج الخطأ

الإلحاح على النموذج الخطأ

لفتنا مقال عبده جبير (التلفزيون يجتاح حياتنا... أين الوعي النقدي) المنشور في مجلة (العربي) العدد (546) مايو 2004.

وتجاوبًا مع دعوة الكاتب لأن تكون هناك دراسات معمّقة حول تأثير هذه الوسيلة الإعلامية الخطرة, فإن هذه المداخلة تتركّز حول المسلسلات الأجنبيّة (مكسيكية, فنزويلية...) التي تُعرض باستمرار على شاشات عدد من الفضائيات العربية.

إن لوسائل الإعلام تأثيرًا خطيرًا يطول أخلاقية الفتاة وإيمانها ونظرتها إلى ذاتها, وبالتالي علاقاتها,لاسيما في المراهقة, فمثلا, أخذت تتفشى في الغرب, وبشكل وباء, اضطرابات الطعام, لاسيما مرض (anorexia nervosa) وهو مرض نفسي يصيب الفتيات في الغالب, محوره الخوف من السمنة, وسببه رغبة الفتاة في أن تكون نحيلة على مثال عارضات الأزياء.

فثمة صورة نفسية لكل إنسان عن جسده, وتاليا عن مدى الرضى والاقتناع بتلك الصورة, وتنشأ بعض تلك الصور عن تداخل المعطيات الاجتماعية والثقافية. وفي عصر الفضائيات, فُرضت صورة معينة للجمال الجسدي, خصوصا لدى الإناث, اللاتي باتت أجساد العارضات نماذج لهن مشتهاة, يعانين العجز عن محاكاة قالبها الدقيق.

وتعني هذه الظاهرة احتلال الجسد محلاً مركزيًا في تفكير الفتاة, مع ما يستتبع ذلك من جهود مضنية, قد تفوق القدرة,تُبذل لاكتساب جسد رشيق, (وأطلق الأمر لدى المراهقات موجات متتالية من الهواجس بشأن مظهرهن ومحاولة تطويع أجسادهن لتبدو (كأجساد) العارضات). وحتى في البلدان الفقيرة, حيث لا تملك العائلة ما يسد حاجتها, تقوم المراهقات بتجويع أنفسهن! وأثبتت الدراسات المتتالية الارتفاع المذهل لاضطراب الطعام المزدوج, أي أنوركسيا - بوليميا, لدى النساء, لاسيما صغيرات السن, وتعكس اضطرابات الأكل هذه تشوّه الصورة الذاتية عن الجسد.

إن الأفلام والمسلسلات الغربية التي تكتسح بيوتنا, وتشاهدها معظم الفتيات, تقدم لهن, بطريقة إيحائية وغير مباشرة, قيما أخلاقية خيالية بعيدة عن الواقع, وهدّامة. هذه القيم تدخل العقول والقلوب بتكرار وإلحاح, من حيث إن تلك المسلسلات تسبب الإدمان عليها, فتعيش الفتيات في عالمها أكثر مما يعشن الواقع. وهذا يعني الإدمان على ما يُلوّث ويسمم أخلاقياتهن, ومن أهم مميزات تلك القيم:

التركيز على المظاهر, وخاصة الجسد. فجميع الأشخاص الناجحين والمحبوبين هم على مستوى من الجمال والأناقة والغنى, ومحاطون ببريق معيّن. وهذا يحمل الفتيات على الاعتقاد بأن الجسد والمظاهر هما ما يجلب لهن الحب والسعادة. واختيار القدرة على الإغواء معيارا وقيمة أنثوية عظمى. وبالتأكيد, فإن ذلك يكون على حساب القيم الأنثوية الأساسية التي ترتبط بكيان المرأة مباشرة, والقيم الأخلاقية.

وأيضا التركيز على إثارة الغريزة. ويظهر ذلك خاصة في بعض المسلسلات التي توحي, باستمرار وبإلحاح, أن الهدف من كل لقاء بين رجل وامرأة هو العلاقات الجسدية, التي تحصل بسرعة البرق, والقائمة على التخاطب الجسدي وحده. وكذلك تصوير الخطأ وكأنه شيء عادي جدا. فهناك لغة شائنة, وعدم احتشام في الملبس والتصرف, وإظهار لمفاتن الجسد.

وهذه لا تصوّر على أنها أمر عادي وحسب, بل تُعرض في إطار جذاب من الألوان الزاهية والموسيقى, تضفي نوعا من السحر على الممارسة المنحرفة, وتظهرها وكأنها نوع من البطولة, وتعمل على ترغيب المشاهد, لأجل تقليدها. كما أن هذه المعروضات على درجة عالية من الإغراء, وسحرها لا يُقاوَم, إذ يتم تجنيد علماء نفس لأجل تحقيق الإغواء المطلوب, والغاية النهائية تجارية, أي استغلال الغريزة البشرية لأجل تسويق تلك المسلسلات, دونما النظر إلى أي اعتبارات أخلاقية.

فنحن أمام شخصيات معظمها لاأخلاقية لها. فمثلا, في أحد المسلسلات تحب فتاة شابا لا يحبّها, فتدخل في عاصفة من الجنون, وتّدعي أنها حامل. وعندما قالت لها والدتها إنها لا يمكن أن تكون حاملا لأنها عذراء, أجابت أن زمن العذرية قد ولّى! ثم تتعمّد تلك الفتاة أن تحمل من شخص آخر, علّ ذلك يجعلها تبلغ مأربها بإرغام الشخص الذي تحّبه على الزواج بها!

لكن هل يكون الحب بالتحدّي وتشويه سمعة المحبوب? وإذا كانت تحبّه, فكيف استطاعت أن تخونه? وكيف لم تكترث لسمعتها وسمعة عائلتها? ألم تفكر أن الشاب لن يتزوجها عندما يعلم أنها حامل من شخص آخر? وكيف تقبّل الأهل, لاسيما الأم, هذا الوضع ببرود? أليس هذا فجورا وتفكيكًا للمعايير الأخلاقية? وما تأثير كل ذلك على بناتنا, اللواتي يتماهين مع تلك (البطلات)?

يلتمس البشر القيم السامية كالحقيقة والحب والحرية لأنهم يعتبرونها خيرًا أسمى, بمعنى أنه لا يمكن أن يصدر عنها أي شر, فالحق لا يحتمل الكذب, ولا يؤدي إلى الباطل, والحب لا يتفق مع الاستغلال, ولا يؤدي إلى الأذى, والحرية لا تتعايش مع الخبث والرياء, ولا يمكن أن تؤدي إلى استعباد الآخرين.

والعكس صحيح, فإذا كنت أعيش الحق والحب والحريّة, وقادني ذلك إلى الشر والأذى والباطل, فهذا يعني أن ما أعيشه ليس حقًا بل باطل, وليس حبّا بل أنانية, وليس حرية بل تفلت.

والمقياس, لكي يكون ما نعيشه خيرًا أسمى, هو تعاليم الله عزّ وجل, الذي يهدينا إلى كل خير. أما المقاييس التي يخترعها العالم لنفسه, ليقيس بها الحقّ والحب والحرية, فقد أثبتت بطلانها, لأن في اتباعها يضيع التمييز بين الحق والباطل, وبين الحب والأنانية, وبين الحرية والتفلّت.

أنطوان حنا لطوف
كاتب - لبنان