الحلم العربي الذي ضاع

الحلم العربي الذي ضاع

أعاد مقال للدكتور الحبيب الجنحاني (لماذا ينتكس التنوير العربي) المنشور في مجلة (العربي) العدد (530) يناير 2003 إلى الذهن مقولة لفرح أنطون تقول (لا مدينة حقيقية ولا عدل ولا مساواة ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم إلا (بضم) السلطة المدنية والسلطة الدينية).

لم أغير مما كتبه (فرح أنطون) سوى كلمة ضم بدلا من (فصل) لأن حلم هذا المفكر لم يتحقق, وبعد قرن من الزمن ومع ما جرّ علينا من ويلات وانقسامات في الفكر والآراء والأطروحات الفلسفية والعقائدية تبين له ولنا أن نظريته كانت خاطئة لأنه قال على لسان (خير الدين التونسي) إن العدل السياسي والفضائل المتفرعة عنه وكفاح النخبة العربية من أجل تحقيق حلم العدل لم يتحقق حتى اليوم. وهذا دليل على فشل هذه النخبة العربية في تحقيق شيء بسيط وكبير في آن وهو العدل, فلماذا نستمر في الفشل ونؤكد استمرارية فشلنا مادامت التجربة كبيرة وطويلة مع معاناة أجيال وضياع الوقت وخسارة المال والتقدم. قرن من الزمن ضاع من عمر العرب بكل ما في هذا القرن من شئون وشجون. غير العرب تطورت شعوب خلال ربع قرن فأصبحت تتبوأ المركز الأول في العالم صناعيًا وفكريًا واقتصاديًا وعسكريًا, بل وأصبحت تنافس المخضرمين في الصناعة والسياسة والحرب والاقتصاد والتقنية, فماذا فعل العرب من تجربة فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية? هل سبقوا الغير, بل هل ساروا معهم في الركب الحضاري والسياسي والاقتصادي. بل أين نقع اليوم على خارطة السياسة? وما ترتيبنا كعرب على الخارطة الحضارية, وما حظنا من العدل السياسي والمساواة والعلم والحرية والفلسفة التي نادى بها فرح أنطون?! أين ضاعت أفكاره ومبادئه? هل لاقت صدى بين أفراد الأمة العربية? لماذا لم يتحقق حلم فرح أنطون رغم الدعم النخبوي العربي بدءًا من خير الدين التونسي والشيخ محمد عبده والأفغاني وأحمد فارس الشدياق الذين طرحوا مسألة الدولة المدنية بحدّة, ولكن تدهورت مؤسسات هذه الدولة الحديثة التي بُعثت غداة استقلال معظم الدول العربية, وذلك على رأي د.الجنحاني.

استيراد الحلم

طرح رفاعة الطهطاوي سؤاله عن تحقيق الحلم العربي منذ قرنين من الزمن, ومع ذلك لم يتحقق الحلم, لماذا? لأنه أخذ تشريعاته من الدستور الفرنسي, واختمرت فكرته من جان جاك روسو, واستهوت روحه من (روح الشرائع) لمونتسكيو, وأحب آراء فولتير, وأعجب بمسارح وشوارع وحدائق وفتيات باريس? فمن أين يأتيه تحقيق الحلم العربي مادام كل ما احتواه فكره وعقله وتجربته كانت من فرنسا ليطبق قانونًا كاملا من شرطي المرور حتى التشريع في بلد إسلامي لا يعرف شيئا عن هذه القوانين التي لا تلائمه ولا تتماشى مع ثقافته وتشريعه وطبائعه وحضارته? أن يلغي أمة كاملة, ويمحو صورة شعب ثقافي ليأتي بالبديل, بينما حاول الإصلاحيون بعد تجربة محمد علي باشا في مصر عندما تراجع المسلمون عن ازدهارهم السابق في الصناعة والزراعة والتعليم وتفشّي الفقر والمرض, تدخل تيار جديد باسم الاصلاحيين المسلمين الذين لم يرفضوا الحضارة الغربية واعترفوا بها أنها واقع يجب أن نفهمه ونهضمه ونستفيد منه ومن خلال تراث الإسلام الثقافي يكونون قادرين على تمثل المنجزات الحضارية, بل وإعادة الإنتاج العلمي والمساهمة في بناء الحضارة. لكن التحيّز الغربي أجهض كل المحاولات, وغرقت مصر مرة أخرى, ولم تعد قادرة على أن تكون اليابان العربي?

يعزو د.الجنحاني أسباب انتكاس التنوير إلى غياب الدولة المدنية الحديثة القائمة على مؤسسات دستورية لا تتأثر بأهواء الحكام! هذا غير صحيح أن الدولة العربية الحديثة اليوم ليست متخلفة كما وصفها د. الجنحاني, إنما هي غير قادرة على التوفيق بين الحداثة والتراث.

ووصفه أن الدولة اليوم تقع بين مطرقة النظم السياسية القامعة والمتخلفة وسندان موجة الردّة والرداءة, ماذا يقصد بسندان الردة والرداءة? هل هم أصحاب التيار الديني?! ماذا يريد من الدولة أن تكون إن كان اتهامه لها بالقمع والتخلف, وهي صاحبة نظام مدني, ورديئة إن كانت تنهج منهج الدين. ما المانع لو حاولنا أن نخلق دولة بعيدة عن جمهورية أفلاطون الخيالية وبعيدة عن التعصب الديني أو الطائفي, وسوّينا الخلاف لوضع دستور يلائم الجهتين المتنازعتين في شكل الدولة العربية الجديدة, وأن نصهر الحسن من مزايا الدولة الحديثة والأحسن من قيم الدولة الدينية لنخلق دستورًا يحتاج له الجميع من محافظين وعلمانيين, ومادامت الشعوب تجرب أنظمة حكم وقوانين حسب مقتضى الحال, تعالوا نجرب هذه الفكرة ونأخذ من إيجابيات هؤلاء, وإيجابيات هؤلاء, ونكون قد أمسكنا العصا من الوسط خشية الانزلاق, ونمسك بنقطة الارتكاز والاتزان, ويكون لنظامنا شأن آخر فريد من نوعه بين أنظمة الحكم في العالم.

لماذا هُزم التنوير? في رأي د.الجنحاني لأن الفضائيات العربية تحوّلت إلى منابر لنشر الفكر السطحي الرديء أو الغيبي في المجالين الديني والثقافي. أعتقد أن هذا الكلام غير صحيح, فقد ظلم الفضائيات العربية, فهي قد ساهمت في تنوير جيل كامل, بل وستساهم في تعليم وتثقيف أجيال, ولم يكن العرب يحلمون بمثل هذا الكم والكيف الهائل من أسباب التنوير الحقيقي في المجالين الديني والمدني. ولم تكن أغلب الفضائيات جاهلة أو متعمدة الجهل أو تحاول فرض الرأي الواحد, فهناك أكثر من رأي?!

وأما عن قول الدكتور عن تمويه الانهيار الفكري والسياسي, وإن فقهاء الأحكام السلطانية الذين برروا الخلافة الوراثية للإقطاع العسكري والنظم الاستبدادية فلم يكن بالمطلق كل الخلافة العربية ترث الحكم الاقطاعي والسلطة العسكرية, وقد يكون هذا الذي حصل لمصلحة بعض الدول العربية خشية أن يفصّل العرب قميصًا جديدًا كقميص عثمان?! أما عن ظن النخب العربية السياسية والفكرية التي خاضت معارك التحرر العربي وأن الدولة الوطنية ستحقق الحلم العربي لبناء الدولة المدنية الحديثة, خاب أملها وتحولت إلى دولة مملوكية قامعة. لم يكن خطأ هؤلاء أنهم تحولوا إلى مماليك قمع, وإنما عدم التوازن والتوفيق بين الدولة الدينية والدولة المدنية والظروف الدولية والهيمنة العسكرية العالمية, وأهواء بعض النفوس المريضة المرتبطة بالاستعمار, وعدم وعي رجال الدين السياسي والديني, وعوامل اجتماعية واقتصادية وعسكرية وعلمية وثقافية أدت إلى الانتكاس السياسي والديني والثقافي والعسكري والعلمي للدول العربية.

زياد دياب
حمص - سورية