قمة الغناء العربي الكلاسيكي إلياس سحاب

قمة الغناء العربي الكلاسيكي

في خضم تحولات سياسية وشخصية وفنية عارمة, وفي اليوم الموافق لذكرى الثورة الفرنسية الكبرى (14 يوليو 1944), أي قبل ستين عامًا, خطف الموت أحد أكبر الأسماء في تاريخ الغناء العربي في القرن العشرين, أسمهان, وهي في شرخ صباها (32 عامًاّ).

خطف الموت أسمهان قبل أن تنتهي من تصوير المشاهد الأخيرة في فيلمها الثاني (غرام وانتقام), أمام يوسف وهبي وبشارة واكيم, وبعد أن سجلت فيه بعض أجمل أغنياتها, لثلاثة ملحنين كبار, محمد القصبجي ورياض السنباطي, وفريد الأطرش.

رحلت قبل سنة واحدة من انتهاء الحرب العالمية الثانية, التي لعبت فيها دورًا سياسيًا إلى جانب الحلفاء, في سعيهم لكسب ودّ القوى السياسية في الشرق العربي. ورحلت بعد أن انتزعت حريتها الشخصية من قيود انتمائها إلى عائلة الأطرش الكبيرة المحافظة, وهو الانتماء الذي كان قد تكرّس في زواجها من ابن عمها الأمير حسن الأطرش, والذي تخففت بالطلاق منه من الحواجز التي وضعها في وجه صعودها الفني الصاروخي. ورحلت أخيرًا في خضم تحوّلات فنية عارمة, لأنها كانت قد نجحت في منتصف عقد الأربعينيات في التربّع على عرش الغناء العربي الكلاسيكي, على مسافة قريبة جدا من موقع الاسمين اللذين سيطرا على قمة هذا العرش في القرن العشرين: عبدالوهاب وأم كلثوم.

اليوم, وبعد مرور ستين عامًا على رحيلها, وخضوع النصف الثاني من هذه المدة, لسيطرة الغناء الاستهلاكي, الذي نجح حتى الآن في سحب البساط من تحت عصور الغناء العربي الكلاسيكي الذهبية المتتالية بين 1875 و1975, في تطبيق مذهل للشعار الاقتصادي القائل: العملة الرديئة, تطرد العملة الجيدة من السوق, بعد كل هذه التطورات, تحضر الذكرى الستون لرحيل أسمهان, لتستعيد اسمها على أسنّة أقلام بعض كتّاب الصحافة العربية الراقية, وكأنها رحلت بالأمس, وهالة الكبر والخلود تحيط باسمها, طازجة مشعّة باهرة.

طبعًا, هناك في حياة أسمهان أكثر من سبب, قد يشكّل إغراء لاستعادة ذكرها, فهذه الفنانة التي مرّت في حياتها الشخصية وحياتها الفنية, مرور الصاعقة, مليئة بالأسرار الشخصية والفنية والسياسية, التي لاتزال قيود التخلف العربي الاجتماعي والسياسي والثقافي والفني, تمنع الغوص عميقًا فيها كلها, دفعة واحدة, غير أن أقل القليل من الكتابات الحديثة, التي أشّرت إليها, اتجه نحو الزوايا الفنية من حياتها, وأكثر هذا القليل, كان مشدودًا, كالعادة, نحو الأسرار السياسية التي أحاطت فعلاً بعلاقاتها الغامضة مع قوات الحلفاء (وقوات المحور أحيانًا على ما يقال), والأسرار الشخصية لحياتها التي تأرجحت كثيرًا بين الزواج والطلاق, والعلاقات غير الواضحة بكثير من رجال الوسط الفني من جهة, والوسط الاجتماعي, حتى قمته في القصر الملكي والعائلة المالكة, من جهة ثانية. وبعض المقالات لايزال منصرفًا إلى محاولة فك ألغاز موتها الفجائي الغامض: هل هو بفعل تصفية سياسية, أم بفعل غيرة نسائية غرامية, أم بفعل غيرة فنية?!

غير أن ما تبقى من سطور هذا المقال, سينصرف تماما إلى إلقاء ما أمكن من الضوء مجددا, على القيمة الفنية الاستثنائية لهذه الفنانة التي اجتازت عتبة الخلود حتما.

وإذا كان هناك إجماع على أن الاسمين اللذين يتربّعان في مقدمة كتيبة الأصوات العربية اللامعة التي صنعت أمجاد الغناء العربي في عصره الذهبي في القرن العشرين, هما اسما أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب, فإن الإجماع يمتد حتى يشمل الاسم الثالث في مقدمة هذه الكتيبة: أسمهان.

سنوات التألق

من غرائب الصدف, ذلك التشابه الغريب في التساوي بين حياة سيد درويش وأسمهان, في امتلاك القيمة الفنية الخارقة, بالرغم من الحياة الفنية الخاطفة, في التماعة أقصر من عمر الورد: ست سنوات لسيد درويش, وسبع سنوات لأسمهان. ومن غرائب التشابه بينهما الموت في مطلع الثلاثينيات من العمر: (1892-1923) لسيد درويش (31 عامًا), و1912-1944 لأسمهان (32 عامًا).

والحقيقة أن حياة أسمهان قد عرفت - على قصرها - مرحلتين مختلفتين, لأنها كانت حياة فنية ثرية جدا, في عصر فني ذهبي فاحش الثراء.

فإذا عرفنا أن أسمهان قد استقرت في القاهرة في العام 1923, طلبا للأمان مع الوالدة علياء المنذر, الهاربة بأولادها من أهوال السياسة والحروب في بلاد الشام (قبيل الحرب العالمية الأولى وفي أثنائها وبعد انتهائها), فإن هذا العام 1923 شهد أيضًا انتقال أم كلثوم من الريف للقاهرة, كما أن العام الذي تلاه, شهد انتقال محمد عبدالوهاب إلى رعاية أحمد شوقي, المنصة الكبرى التي أطلقته عاليا في سماء الفن العربي.

صحيح أن أسمهان كانت عند ذاك لم تتجاوز الحادية عشرة من عمرها, ولكن تلك الظروف أتاحت لها أن تترعرع بوجدانها, وآذانها وحسّها المرهف, مع انبلاجة فجر الغناء العربي الكلاسيكي الحديث على يدي أم كلثوم وملحنيها العباقرة من جهة, وعبقري التلحين والغناء محمدعبدالوهاب, من جهة أخرى.

وقد قدّر لأسمهان, في فترة التكوّن الأولى تلك, أن تنال رعاية نفر من كبار الملحنين والعازفين, أمثال داود حسني (الذي حوّل اسمها الأصلي (آمال الأطرش) إلى اسمها الفني (أسمهان)), وفريد غصن ومحمد القصبجي ورياض السنباطي.

بدايات أسمهان في دنيا الاحتراف دخلت بعد ذلك في المرحلة الأولى, حتى العام 1933, وكانت هذه البدايات تدور في فلك زعيمة الأصوات النسائية في المرحلة الكلاسيكية الجديدة: أم كلثوم.

والحقيقة أن مَن يراجع سجل أغنيات أسمهان في هذه المرحلة الأولى, التي سبقت العام 1933, عام زواجها بابن عمها الأمير حسن الأطرش, يجد فيها كثيرًا من الشبه بمرحلة ليلى مراد الأولى, التي كانت أقرب إلى الكلاسيكية المحافظة, قبل أن يكتشفها عبدالوهاب في فيلم (يحيا الحب), ويطلقها نجمًا ساطعًا في سماء الغناء العربي الرومانسي الحديث.

الأسلوب الوهابي

عندما بدأت المرحلة الثانية, والأهم في حياة أسمهان الفنية, بعد عودتها إلى القاهرة, هربًا من قيود الزواج, كانت أساليب الغناء العربي الكلاسيكي قد آن لها أن تتبلور وتتخذ أشكالاً واضحة المعالم والحدود بين أسلوب وآخر, بعد مضي اثني عشر عامًا ونيف على انطلاق تجربتي أم كلثوم من جهة (مع فريق ملحنيها الأوائل) وعبدالوهاب من جهة ثانية. وأنا ممّن يعتقدون أن العصر الذهبي للغناء العربي المعاصر, الذي امتدّ نصف قرن كامل من الزمان بعد سيد درويش, فيما بين 1925و1975, قد تسيده بشكل عام أسلوبان رئيسان في الغناء: أسلوب أم كلثوم, وأسلوب محمد عبدالوهاب.

ليس معنى هذا الاستطراد الجانبي المهم في مقال عن أسمهان, أن الأسلوبين كانا متعاكسين, أو متناقضين, فقد ظلت وشائج من القواسم المشتركة تجمع فيما بينهما من البداية إلى النهاية, ولكني أزعم من مجمل غربلتي لعصارة هذا العصر الذهبي بعد معايشة مطولة لهذا العصر, أن الأسلوبين كانا أقرب ما يكون إلى بعضهما في القواسم المشتركة, عندما كانت عبقرية القصبجي التجديدية, هي سيدة الموقف فيما تغني أم كلثوم في الثلاثينيات. وخلاصة القول فيما يجمع بين الأسلوبين, ويفرق بينهما, أن الأسلوب الكلثومي قد استقر على كلاسيكية تجديدية محافظة, بعد جنوح لم يستمر طويلا إلى التجديد المنطلق مع القصبجي, ما لبثت بعده أن حوّلت القصبجي إلى مجرد عازف للعود في فرقتها, ودخلت في المرحلة السنباطية - الكلثومية. أما أسلوب عبدالوهاب الغنائي, فقد ظل مرتبطا أشد الارتباط بالجموح التجديدي الذي لم يتوقف أبدا لدى عبدالوهاب الملحن, وهو ما لم يستطع القصبجي مجاراته, لأنه لم يعد يملك صوتا يؤدي ألحانه, بعد أن قبل موقع (الأسير الفني), في مملكة أم كلثوم, كمجرد عازف للعود, وقبل نهائيا التخلي عن عبقريته التلحينية التجديدية.

وسط هذه الدراما الفنية العامة, تألقت أسمهان في السنوات السبع الأخيرة من حياتها, من موقع يحلو لي وصفه بأنه كان الترجمة النسائية العبقرية لأسلوب عبدالوهاب التجديدي في الغناء.

لقد بدأت أسمهان هذه المرحلة بقصيدة (ليت للبراق) الكلاسيكية المحافظة من ألحان القصبجي, واختتمتها بألحان (غرام وانتقام), المنطلقة في كلاسيكيتها التجديدية نحو آفاق واسعة. كما أنها لم تترك في الفترة الوسيطة بين البداية والنهاية, لونا جريئا من التجديد إلا أبدعت فيه أعمالا, تحولت, على قلتها, إلى نماذج طليعية, يتمتع كل نموذج فرد بينها, بصفة نموذج كلاسيكي, بقي حتى يومنا هذا لونا يحتذى في التلحين, كما في الغناء.

من ألحان مدحت عاصم (وضع لها لحنا واحدا ووزع لحنا آخر) غنت أسمهان (دخلت مرة في جنينة), التي كتب الأديب والمفكر الكبير عباس محمود العقاد, أنه جاب شوارع القاهرة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا بحثًا عن نسخة من أسطوانتها, فوجدها نفدت في كل مكان. وهذه الأغنية, باقية حتى الآن, في لحنها وغنائها وأداء الأوركسترا التي عزفتها, نموذجًا رفيعًا في الغناء العربي الرومانسي. كما نقل لها مدحت عاصم عن لحن تركي أغنيتها الرائعة (يا حبيبي تعال الحقني), التي مازالت إلى اليوم تتمتع بموقع فريد لدى ذواقة الغناء العربي.

ومن ألحان فريد الأطرش, غنت أسمهان (إضافة إلى ألحان فيلم (انتصار الشباب) المميزة والمنوعة) عددا من الألحان التي تراوحت بين روائع الإنشاد الديني, في لحن أوحد هو (عليك صلاة الله وسلامه), ولحن مخضرم بين الكلاسيكية المحافظة والكلاسيكية المتجددة (رجعت لك يا حبيبي), ونموذجين رائعين خالدين في الرومانسية العربية الرفيعة: نويت أداري آلامي, وليالي الأنس في فيينا.

أما من ألحان السنباطي, فقد غنت أسمهان واحدة من روائع القصائد الحديثة, لحنا وغناء: يا لعينيك ويالي, وإحدى ذرى القصائد الدرامية الخالدة في تاريخ الموسيقى العربية والغناء العربي, (أيها النائم), وواحدا من أعظم الأناشيد التي أوجدت صيغة عبقرية بين عظمة النشيد في أوبرات فيردي, وأصول المقامات العربية, هو نشيد (الأسرة العلوية) في فيلم (غرام وانتقام), الذي منعت إذاعته لأسباب سياسية, ولم يعد اليوم من مبرر لعدم إذاعته, سوى التخلف والإهمال.

ومن الثابت والمؤكد أن فيلم (غرام وانتقام), آخر أعمال أسمهان الفنية, شهد ذروة انفجار مرجل الغيرة الفنية لدى أم كلثوم, ليس فقط للذروة التي كانت أسمهان قد بلغتها, بل لأن اثنين من ملحّني أم كلثوم العمالقة (القصبجي والسنباطي) قد انصرفا لتحفيظ أسمهان في ذلك الفيلم, بعضا من أعظم ألحانهما.

أما محمد القصبجي, فبعد رائعته (ليت للبراق), زود أسمهان بروائع مازالت إلى اليوم سابقة عصرها, فيها القصيدة الكلاسيكية الحديثة (اسقنيها), ومنها تحفته الرومانسية التي لاتزال تبدو وكأنها مكتوبة للقرن الحادي والعشرين (إمتى حتعرف), ومنها أخيرا رائعته الخالدة (يا طيور) التي لم يستطع ملحن عربي حتى اليوم أن يهتدي إلى أسرار معادلتها العبقرية بين أساليب الغناء الأوبرالي الجاد, وأساليب الغناء الكلاسيكي العربي المرتبط بمخارج الحروف في الكلمة العربية, المغايرة لطبيعة الأوبرا الإيطالية واللغة الإيطالية. وما تنبه أحد إلى اليوم أن أكبر أسرار هذه المعادلة, هو أن القصبجي لم ينطلق إلى الأوبرا من فراغ, أو من عقد نقص, بل من امتلاك متمكّن لأساليب الغناء العربي التقليدي المستند إلى جذور الإنشاد الديني, وهي المعادلة عينها التي أبدع عبدالوهاب صياغتها في عدد من روائعه, بينها على سبيل المثال: الليل يطول علي, وأهون عليك, والظلم دا كان ليه.

مجنون ليلى

ووسط هذه الغابة من الروائع التاريخية الخالدة, التي تزاحمت في سنوات أسمهان السبع الأخيرة, جاءت مغناة (مجنون ليلى), وهي جزء من مسرحية (مجنون ليلى) لشوقي, التي استمر عبدالوهاب بتلحين مقاطع منها, ورحل قبل أن تبصر النور كاملة, وقد جاءت هذه الرائعة الفنية, في رأيي, ذروة غير مسبوقة وغير ملحوقة, في التلحين والغناء المسرحي العربي, الذي يجمع بين أعمق أصول وجذور الغناء العربي الكلاسيكي, وأرحب آفاق الأوبرا كما وصل إليها أربابها في الغرب, الإيطاليون.

ومن بين كل الثنائيات التي غناها عبدالوهاب في حياته, مع أصوات نسائية ممتازة مثل نجاة علي وليلى مراد ورجاء عبده ونور الهدى, فإن مَن يستمع إليها كلها اليوم, ثم يستمع إلى مغناة (قيس وليلى), يرى أن كل هذه الغنائيات كانت مسرحا لغناء الأستاذ مع تلميذته, أما أسمهان, فقد كانت على صغر سنها يوم غنت دور ليلى (27 عاما أو أقل) أقرب المغنيات إلى أستاذية عبدالوهاب في الغناء.

صحيح أن أسمهان, اختفت بعد ذلك فجأة من ساحة العصر الذهبي للغناء العربي, قبل أن تكمل المشوار, غير أني ممن يعتقدون, أن كل الأصوات النسائية العربية الممتازة التي أكملت المشوار فيما تبقى من عمر العصر الذهبي للغناء العربي, إنما كانت تنتمي إلى إحدى المدرستين الكبيرتين لأسلوب أم كلثوم أو أسلوب عبدالوهاب, الذي كانت أسمهان, ومازالت - في رأيي - بعد ظهور كل الأصوات النسائية الممتازة بعد رحيلها, زعيمته النسائية. صحيح أن كل المطربات الكبيرات بعد ذلك, تميزت بشخصيتها الخاصة, وبنبرتها المميزة, وخصائصها التي تميزها عن سواها, لكن ذلك لم يمنع انتماءها العام إلى هذا الأسلوب أو ذاك, الذي انطلقت منه حتما, وإن وضعت عليه بعد ذلك, بصماتها الخاصة.

هذا هو, في رأيي, السبب الفني الرئيسي, الذي يجعل أسمهان حاضرة في الأذهان بعد مرور ستين عاما على رحيلها. ومع أن أعمالها الخالدة لم تتجاوز في مجموعها الثلاثين أغنية (ينتجها أي صوت نسائي في هذه الأيام في موسم غنائي واحد), فقد بقيت أسمهان مع كل ذلك, متربعة على العرش, كأنها رحلت أمس, أو كأنها باقية لم ترحل.

يضاف إلى كل هذه الخصائص المكتسبة, موهبة إلهية لم تتكرر حتى الآن, تتمثل في حنجرة نسائية لم يعرف الغناء العربي النسائي حتى اليوم, أوتارا صنعت من معدن مواز لمعدن صوت أسمهان أو مشابه له, أو قريب منه.

 

إلياس سحاب 





كانت أميرة...وفارسة وعاشقة لليل والسهر ولكن الحياة لم تمهلها طويلا





كتب كثيرة تناولت حياة أسمهان وحاولت أن تحل لغز مصرعها وحتى الآن لم تحدد الجهة المسئولة





(ليالي الأنس في فيينا)...واحدة من أشهر أغاني أسمهان وهي تشدو بها في فيلم (غرام وانتقام)





أسمهان وإلى يسارها شقيقها فريد الاطرش ويمينها السيد تلحمي منتج فيلم (انتصار الشباب) وخلفها مباشرة المخرج أحمد بدر خان وبجواره المؤلف بديع خيري





أسمهان وزوجها وابن عمها حسن الأطرش... زواج مضطرب لم يدم طويلا