كيف أطل الغرباء على مصر في القرن التاسع عشر? ثروت عكاشة عرض: حازم هاشم

كيف أطل الغرباء على مصر في القرن التاسع عشر?

المفتون بها, والكاره لها, والمنصف, جمهرة من هؤلاء وأولئك فيهم الرسام والمؤرخ والأديب والجاسوس, كيف كانت إطلالتهم على مصر في القرن التاسع عشر?

نحن أمام كتاب غير مسبوق, جمع إطلالة هذه الجمهرة من الرسوم والتماثيل والكتابات, فكان عنوانه (مصر في عيون الغرباء من الرحالة والفنانين والأدباء) الذي أصدرته (دار الشروق) في طبعة ثانية بعد طبعته الأولى عام 1984, لتشهد هذه الطبعة الثانية بمجلديها إضافات وإضافات في الصور والمعلومات والكتابات, وهذا حصاد آخر مضاف للرحالة والفنانين الأوربيين في زياراتهم إلى تركيا والشام وشمال إفريقيا, رأى صاحب الكتاب المثقف الكبير د. ثروت عكاشة أنه يتسق مع حصاد غيرهم زوار مصر لقارئ ومهتم يعنى بفنون وكتابات الاستشراق, وكلها انطباعات فرنسية وإنجليزية وأوربية وأمريكية عن مصر والمصريين أولا, ثم كيف أطل رحالة وفنانو وأدباء أقطار أوربا على الحياة في بلاد الأتراك والشام والشمال الإفريقي.

إن ضخامة هذا الكتاب وتنوع وثراء مادته تجعل من يقدمه للقارئ في مقال مهما اتسعت مساحته مغامرة حقيقية! إذ كيف تستوفي هذه المادة في عرض احتار صاحبه في أي مواضعها يركز, وما يتخفف منه أو يلتفت عنه, لكن على القارئ لهذا المقال ألا يتورط فيما لم يتورط فيه كاتبه, فيظن أن المقال يغنيه عن قراءة الكتاب, إذ كان كاتب هذه السطور قد توخى فقط أن تكون كلماته دافعة القارئ إلى الظفر بالكتاب, ومازال على رجائه هذا فالكتاب درة بالفعل.

ويقدم د. ثروت عكاشة في سفره الجليل هذا أرضية تاريخية ضافية لما كانت عليه أحوال مصر السياسية والاجتماعية وقت بدأ توافد رحالة أوربا من الفنانين والأدباء على مصر, وكيف تفتحت شهية (نابليون بونابرت) لغزو مصر بعد قراءته لكتاب وضعه عن مصر رحالة فرنسي يصفه ثروت عكاشة بأنه (حمل عقل عالم وروح جاسوس متعصب)! إنه (فولني) الفرنسي الذي استحث في هذا الكتاب (نابليون) على الإسراع بالحرب على مصر واحتلالها! فهو - فولني - يستعرض مدى تردي أحوال مصر العسكرية وضعف حصونها فهي مهيأة للغزو!, وواضح أن (فولني) لم يتوقف ليتأمل جوانب العبقرية والطاقة الروحية الهائلة للشعب المصري, إنه فقط يركز على ضعف مصر العسكري! ويرصد ضعف حامياتها وانصراف أفرادها إلى تدخين (النارجيلة), كما أن الشعب وادع مسالم يفتقر إلى الهمة! لقد بدا (فولني) في كتابه كأنه جاسوس كلف بمهمة محددة, ولم يظلمه ثروت عكاشة عندما وصفه بالجاسوس.

على النقيض من (فولني)الذي امتلك روح الجاسوس, يقدم ثروت عكاشة نموذجا فرنسيا لرجل تحلى بالإنصاف وحمل روح المحب وهو يجول في ربوع مصر ويخالط أهلها ويتأمل خلال ثلاث سنوات قضاها في مصر منذ عام 1773. إنه الشاب الفرنسي (سافاري) الذي اطلع قبل رحلته على كل ما تيسر له من الكتب عن مصر. لقد جاب (سافاري) أقاليم مصر, ومنها ما لم يلتفت إلى زيارته غيره من الرحالة, وقد هام (سافاري) غراما بمصر وطبيعتها الخلابة, وها هي (رسائله) عن مصر - عنوان كتابه الذي جمع حصاد رحلته - تفيض عذوبة ورقة عن مظاهر حياة المصريين من أريج وعطور زهور وثمار الحدائق والحقول إلى دلال الفلاحات المصريات وهن يملأن جرارهن بالماء. فيبدو (سافاري) شاعرا في كثير من مواضع رسائله.

بل هو ولوع بمصر إلى حد التأمل والتعمق, ليكتشف أن العقيدة الإسلامية هي الحاكمة لحياة المصريين وسلوكهم اليومي, بحيث توحدوا مع هذه العقيدة, فذهب (سافاري) إلى مطالعة القرآن الكريم, وراح يقرأ بالعربية التي كان يتقنها عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقبه وسمو خلقه, مما زرع في وعي (سافاري) ووجدانه هذا الإجلال لشخصية الرسول الكريم في كتاباته. بل هو يضع ترجمة للقرآن الكريم ومعانيه, ويؤلف كتابا عن حياة محمد الرسول الكريم.

ما الأحوال السياسية والاجتماعية التي كانت عليها مصر وقد تقاطر عليها هذا الرهط من الرحالة والمصورين والأدباء والرسامين الأجانب? الإجابة عني بتقديمها د.ثروت عكاشة قبل أن يدخل بالقارئ إلى عوالم اللوحات الفنية والتعليقات والأعمال الأدبية التي كانت حصيلة نظرات متباينة تصل إلى حد التناقض عند وفود الغرباء على مصر. هذه مصر المملوكية حتى ذهبت ريح المماليك, لتصبح مصر مجرد ولاية أو مستعمرة عثمانية, حتى حل عليها محمد علي الكبير وسلالته التي حكمت مصر حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين, لكن المسرح التاريخي الذي شهد وفود الغرباء على مصر ظل في قلب اهتمام ثروت عكاشة من الناحية الزمنية, ولم تكن أعمال هؤلاء الغرباء من قطع الفن وشرائح الأدب غير مشهد تسجيلي ضخم لما كانت عليه أحوال مصر, التي كانت في قلب الشرق الذي انشغلت به أوربا وتراكمت معارفها عنه, من حيث إنه انطوى على الكثير مما هو غريب على الأوربيين غير مألوف, فتوافرت لأوربا حصيلة أدبية زاخرة عن الشرق سجلها مختلف الرحالة - الموهوب منهم وغير الموهوب - ولما كانت أوربا تحظى بالتفوق العسكري والاقتصادي الكاسح على الشرق, فقد كانت متطلعة إلى غزو هذا الشرق واستعماره, بحيث اشتعلت المنافسة بين القطبين الاستعماريين: الفرنسي والإنجليزي على من يحسم امتلاك الشرق وخيراته وطرقه وممراته التجارية باعتماد نظرية فتح الأسواق. ومن هنا فقد بدأت حركة الاستشراق الواسعة التي عملت جامعات أوربا على دفعها والإنفاق عليها بسخاء لدراسات اللغات الشرقية, وأرسلت أوربا بعوث أبنائها من الذين أدركهم الولع بالشرق, ويرصد د.ثروت عكاشة نشاط طبع الدراسات الشرقية في أوربا ونشرها, فيذكر أن نحو ستين ألف كتاب عن الشرق قد ظهرت في أوربا ما بين عامي 1800 و1950! ونرى ثروت عكاشة يتحلى بالإنصاف حين يتعرض لحركة الاستشراق الواسعة, فلا يراه شرا كله كما ذهب البعض إلى ذلك, فهو يذكر أن لبعض المستشرقين الفضل العلمي الواضح, لكنه لا ينسى ذكر المستشرقين الذين كانوا مخلب قط للاستعمار الأوربي للشرق, وكانت آية هذا الاستعمار الحملة الفرنسية على مصر, والتي ادعى (نابليون بونابرت) أنها للتحديث والتمدين, لكنه لم يستطع ستر نوازعه الاستعمارية, فقط حط على مصر بالمدفع قبل المطبعة التي أتى بها لخدمة أغراض الحملة, كذلك اصطحب (نابليون) معه بعضا من المصورين الذين لم تكن مواهبهم تتيح لهم تقديم فن راق. بل انحصرت إسهاماتهم في رسم الصور الإيضاحية لمشتملات الكتاب الفرنسي الشهير (وصف مصر) الذي عكف على وضعه علماء حملة نابليون.

لكن الإنجاز الكبير للحملة الفرنسية على مصر تمثل في فك رموز وطلاسم (حجر رشيد) بعد اكتشاف الضابط الفرنسي (بوشار) للحجر, ثم عكوف العالم الفرنسي (شامبليون) على استجلاء معاني ما على الحجر من الكتابات والرموز, وعند ذلك كان الإيذان بنشأة علم المصريات, الذي عنيت به بعد ذلك الجامعات الفرنسية والأوربية بعامة, كذلك عرفت العمارة الفرنسية بعد ذلك - ومن وحي كتاب (وصف مصر) - مقتبسات من العمارة والنقوش المصرية, مما انتشر على كثير من واجهات البيوت في العاصمة الفرنسية باريس, كذلك عرف الكثير من أدباء فرنسا وكتابها وفنانيها الطريق إلى مصر أمثال (جيرارد ده نيرفال) و(تيوفيل جوتييه) و(شاتوبريان) الذي لم يجد في مصر عند زيارته لها عام 1806 غير ما يدفعه للتجني عليها ووصفها بكل نقيصة! إذ وضع (شاتوبريان) كتابه (رحلة من باريس إلى القدس والعودة من القدس إلى باريس مرورا باليونان ومصر وبلاد البربر وإسبانيا 1811) في ألف صفحة, وقد حمل على المصريين والشرق عامة حملة شعواء, فسمى القرآن الكريم بكتاب محمد! وجرده من كل مكرمة أو فضل! بل وسمى المسلمين بالعصابة المنحلة!

(السان سيمونيون) في مصر

يرتبط اسم (سان سيمون) الفرنسي 1760 - 1845 عند المؤرخين بأفكاره عن الأسس الأخلاقية التي ينبغي أن تنهض عليها السياسة, و(المدينة الفاضلة), حيث المجتمع المثالي الذي لا يعرف غير المصالح المشتركة للأفراد دون صراع أو جور بعض الناس على بعضهم الآخر, وعندما رحل (سان سيمون) عن الدنيا تولى قيادة حركته الفكرية من بعده (بروسيير أنفنتان) الذي تلخص الشرق عنده في مصر التي خلبت لبه, وقد تراءى لبعض أتباع هذه الحركة الفكرية أن تكون مصر هي موئل هذا المجتمع المثالي الذي حلموا به, فوفد منهم على مصر خمسة وخمسون رجلا من الناشطين في مختلف فروع الحرف والأدب والفنون والصحافة, وهم بسبيلهم - كما أعلنوا - إلى تحويل مصر إلى تلك الجنة المثالية, ولكن أبرز هؤلاء كان (إميل بريس دفن) الذي أبدى اهتماما عميقا بالحضارة الفرعونية ثم الحضارة الإسلامية, فوضع في هذين الموضوعين كتبا مهمة. كما عكف (جيرارد ده نيرفال) على مخالطة الشوارع المصرية وبشرها, ومكونات هذه الشوارع من المقاهي والحمامات وطقوس الزواج والختان والتقاليد الاجتماعية عامة, وهو ما ضمنه كتابه (رحلة في الشرق), كذلك جاء إلى مصر (مكسيم دوكان) يصاحب الأديب الفرنسي الأشهر (جوستاف فلوبير) الذي كانت هذه زيارته الثانية لمصر, أما في صحبة (دوكان) فقد كان (فلوبير) وصاحبه مبعوثين رسميين للحكومة الفرنسية. لكن (فلوبير) كان صاحب عين لاقطة, فأكد فيما كتب (أن مصر فيها الشعب في واد والسلطة في واد آخر), كما اهتم بالمخالطة للأوساط الشعبية المصرية والنكات البذيئة المتداولة وغلظة الناس في معاملاتهم, كل هذا تناوله (فلوبير) بأسلوب ساخر لاذع لا يعرف تهذيب الأدب, أو رقة المشاعر التي تشذب ما ترى وتسمع.

وفي سياق السباق التقليدي بين أشهر دولتين استعماريتين: فرنسا وإنجلترا كان لابد من أن تصبح الرحلة إلى مصر شديدة الجاذبية لرحالة إنجليز من الأدباء والعلماء والفنانين والمكتشفين, فقد سلطت الحملة الفرنسية أضواء كاشفة على مصر. ووضح من الإنجازات الفرنسية في مسح مصر وسفر (وصف مصر) وفك رموز حجر رشيد أن هناك الكثير الذي ينبغي على أوربا الاستعمارية أن تكشف عنه وتغنمه, ولم تكن مصر حينذاك تعرف ضرورة وأهمية الحفاظ على آثار حضارتها, فقد كانت هذه الآثار نهبا وكلأ مباحا أمام فيالق من العلماء والمغامرين والنصابين لا مانع, وفرنسا كانت لها الريادة في الرحلة إلى مصر, وها هي إنجلترا تستأنف تطلعاتها القديمة إلى مصر خاصة والشرق عامة, فتجد ما يجعل لأقدامها في مصر الموطئ اللائق, فبأهميتها الاستراتيجية سيحققون أطماعهم, ولابد لهم من نصيب في الآثار المصرية, ولم يكن الإنجليز في هذا السبيل مجرد محاكين للفرنسيين, بل كانت لهم في ارتياد مصر وسبر أغوارها جذور وبذور, هذا (جورج سانديز) يزور مصر في 1611 ويصف لقومه الهرم الأكبر الذي بهره, ثم يستعرض بعض تقاليد المصريين, مع استعراض بعض المعلومات عن التاريخ المصري القديم, وهذه أبحاث أثرية إنجليزية قديمة في حضارة مصر ينجزها (بوكوك) 1737, والقس (توماس شو) 1738, حتى إذا جاء النصف الثاني من القرن الثامن عشر كانت زيارة رهط من علماء الآثار الإنجليز لمصر, كذلك كانت هناك موجة زيارات لسياح إنجليز عاديين وبعض من موظفي الشركات البريطانية, وغلاة الاستعماريين من الدبلوماسيين والعسكر, وهذا هو (ويليام هاملتون) يؤلف كتابه (ايجبتياكا) أي (مصريات) فيهاجم فيه الشعب المصري الذي أدمن المذلة والخنوع, وأنه شعب يرحب بالغزاة! وقد رأى (هاملتون) أن احتلال الإنجليز لمصر ونهب ثرواتها من أوجب الواجبات, وتدل إحصائية أعدها البروفسير (إكرمان) على مدى الاهتمام البريطاني بالرحلة إلى مصر. إذ رصد 281 فنانا إنجليزيا عملوا مصورين وصفيين في مصر, كما أن زوار مصر من الإنجليز في السنوات العشرين الأولى من القرن التاسع عشر قد فاقوا عددا زوارها من الإنجليز خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر, لكن كتابا مهما صدر للسير (فردريك هنيكر) عام 1819 بعنوان (ملاحظات خلال رحلة إلى مصر 1819) أكد فيه المؤلف أن مصر قد غدت ضيعة خاصة للقنصلين: الإنجليزي والفرنسي, وبدأت موجة عارمة من نهب آثار المصريين بمعرفة علماء ونصابين, ولكن الأمر لم يخل من إثراء إنجليزي في مجال البحث الأثري العلمي, فقد عكف عالم المصريات الإنجليزي (جون ولكنسون) من بداية زيارته لمصر عام 1821, وخلال اثني عشر عاما قضاها في أقاليم مصر ليضع كتابه المهم (طبوغرافية طيبة والمسح العام للقطر المصري) فصحح بعض أخطاء كتاب (وصف مصر) الفرنسي. كما أتبع (ولكنسون) هذا الكتاب بآخر عنوانه (المصريون القدماء عاداتهم وتقاليدهم), وخلال ثلاثة عقود من بداية القرن التاسع عشر وضع الإنجليز نحو 35 كتابا تصف رحلات أصحابها إلى مصر, وتناولت الجانب الأكبر في هذه الكتب الرسوم والشخوص المسجلة على الآثار المصرية القديمة, ويأتي (روبرت هاي) على رأس زوار مصر من الإنجليز الذي وضع كتابه (صور وصفية للقاهرة), حفل بالصور والرسوم التي تسجل معالم القاهرة وحياة الناس فيها. وفي الرحالة الإنجليز من صدر عن كراهية لمصر والمصريين فيما كتبوه عنها وعنهم, مثل الجراح الإنجليزي (مادين), وهناك من الذين زاروا مصر من الإنجليز من انطوى على حس إنساني واضح مثل لورد (روبرت كيرزون) و(إدوارد وليام لين) الذي وضع كتابه الشهير (المصريون المعاصرون) وهو الكتاب الذي يعتبر علامة مهمة على طريق تعريف الغرباء بحياة الناس في مصر المعاصرة حينذاك, فقد انتشرت بعد هذا الكتاب موجة من الكتب التي طرحها رحالة إنجليز من أمثال (دليل ماريز) و(دليل كوك),كما زارت مصر أربع كاتبات إنجليزيات هن (ارييت مارتينو), و(صوفيا بول), وليدي (داف جوردون), ثم الرابعة (إميليا إدواردز), فالأولى كان لها كتابها (الحياة الشرقية), والثانية أصدرت (امرأة إنجليزية في مصر), ومجموعة رسائل للثالثة, أما الرابعة فقد كان لها كتابها (ألف ميل صعودا إلى النيل).

 

ثروت عكاشة 




 





فتاة مصرية خارجة من باب الحمام العمومي بعد استحمامها ـ لوحة للرسام (بويس دافن)





السلطان قايتباي, لوحة لـ (جنتيلي بلليني)





السلطان الغوري, لوحة لـ (جنتيلي بلليني)