قضية: مرة أخرى .. مسئولية المعرفة العلمية عمر فوزي نجاري

في هذا المقال تناول لموضوع مسئولية المعرفة العلمية، الذي سبق أن تناوله الدكتور يحيى الرخاوي من زاوية الطب النفسي. ولما كانت للموضوع جوانبه المتعددة، فإن زوايا النظر إليه تتعدد. وها هنا إحداها.

يعاني العرب من حبهم لاستيراد التكنولوجيا الغربية وعدم اكتراثهم للعلم. فعلى الرغم من افتتاح المدارس والمعاهد والجامعات واكتظاظها بالأعداد الهائلة من الطلاب، إلا أن العلم نفسه قد أفرغ من محتواه، فالعلم أصبح للتباهي والتفاخر وليس للعلم بحد ذاته، إضافة إلى التناقض بين ما يقرؤه الطالب من كتب وبين ما يجده مطبقا على أرض الواقع، الأمر الذي يولد معاناة في ذهن الطالب على المدى البعيد. أضف إلى ذلك انعدام تكافؤ الفرص بين المرشحين لإتمام تعليمهم العالي وبين المرشحين لتسلم المناصب العلمية العالية، إذ تتدخل في ذلك اعتبارات شتى منها الاقتصادية والسياسية والمذهبية .... إلخ. مما حدا بالنخبة المفكرة للبحث عن أماكن أخرى يمكن أن تحقق فيها ذاتها، فكانت هجرة العقول العربية إلى الغرب مما تسبب في خسارة علمية واقتصادية كبرى للبلدان العربية وأدى بالتالي إلى توقف عجلة التقدم والمدنية، ذلك أن العلم والعلماء هما عماد الحضارة الحقيقية.

الموضوعية والعقلانية

يحتاج العالم العربي إلى تكنولوجيا سلوكية وليس إلى تكنولوجيا طبيعية ليحقق نهضته الحضارية ويلحق بالركب. إذ إن أول شرط من شروط المنهج العلمي أن يبدأ ويظل موضوعيا بعيدا كل البعد عن نزق الأهواء وجموح الأغراض وتقلبات السياسة، إذ لا إبداع دون حرية واعية مسئولة. وعلى العرب أن يهيئوا لأنفسهم ذلك المناخ الذي يسمح لمفكريهم بأن يقولوا ويكتبوا ما يرونه مناسبا بحرية، وإلاّ فإن تفكيرهم سيظل دون المستوى المطلوب. وعلى المفكرين العرب الالتزام بالعقلانية في البحث والتأليف وفي الصحافة والإعلام كي يستطيعوا المشاركة فعليا في بناء حضارة فكرية قادرة على مجاراة روح العصر، لا أن يكونوا ديكورات في هذا النظام العالمي الجديد.

تحدي العصر

وما لم يتمكن العرب من تحقيق الذات وإثبات الوجود، بعد كارثة الخليج وانهيار الاتحاد السوفييتي وتشكل النظام العالمي الجديد، فإنهم سيصبحون إمعة للغرب، ليس على الصعيد السياسي والاقتصادي فحسب بل والعلمي أيضا، عليهم أن يأخذوا من الغرب ما هم بحاجة إليه بعد تهذيبه وصقله من الشوائب التي لا تتناسب مع حضارتهم وتراثهم وفكرهم، فالعلماء المسلمون الأوائل عندما بنوا حضارتهم كان أول عمل قاموا به هو صهر المؤثرات الأجنبية التي تعرضت لها ثقافتهم وأخضعوها للمقتضيات الدينية والفكرية التي تناسب عقيدتهم وبيئتهم ثم توسعوا فيها وأبدعوا الجديد فكانت أعظم حضارة عرفتها البشرية عبر التاريخ.

صحوة مكبلة

عندما بدأت النهضة في الغرب كانت تحديا هدفه الوصول لشيء من حضارة الإسلام العريقة، كانت تعبيرا عن مركب النقص الكامن في أعماقه، والغرب عندما بدأ نهضته العلمية بدأها دون ثقافة موضوعية ودون أخلاقيات علمية، فنهب وسرق ودفن آثار جرائمه، ولما استيقظ على نفسه كانت جرائمه قد طواها النسيان. ولما اكتملت صحوته تحول مركب النقص الكامن في أعماقه إلى شكل من الاستعلاء والتكبر في نظرته للشرق المسلم.

وكأن الشرق إذ يصحو الآن يبدأ كما بدأ الغرب، إلا أن الغرب سرق ونهب من كنوز ليس لها حارس ولا رقيب، كنوز فتحت أبوابها لكل طالب علم، والشرق الآن يتلصص على كنوز حراسها كثر يرصدون ويحاسبون، وإذا سمحوا بالعطاء يقترون.

العلم فريضة

يحاول الغرب- كلما أتيحت له الفرصة- من خلال مركب النقص الكامن في أعماقه، العمل على طمس معالم حضارتنا بغرض إلغاء وجودنا وجعلنا أتباعا له نسير في فلكه، متجاهلين حقيقة الإسلام الخالدة ألا وهي إشاعة العلم في الناس، إذ على الرغم من أن القرآن الكريم ليس كتاب علم، إلا أنه فتح العقول على العلم كما لم يفتحه كتاب ديني آخر، فحقائق الكون فيه هي آلاء الله، والإنسان مدعو للتفكير والنظر في حقائق الكون. العلم في الإسلام عبادة وهو فريضة، وقد جعلت فدية الأسير تعليم عدد من صبيان المسلمين، وكان الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- قد دعا إلى العلم إذ قال: " ليس منا إلا عالم أو متعلم". وكذا سار على نهجه بقية الخلفاء الراشدين إذ حضوا على العلم واعتبروه من أسس الدين الحنيف، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

ما الفخر إلا لأهل العلم أنهم

على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه

والجاهلون لأهل العلم أعداء

ففز بعلم تعش حيا به أبدا

الناس موتى وأهل العلم أحياء

ونتيجة لحض الإسلام على العلم اتسعت نطاق المعارف، وظهر علماء أفذاذ قدموا للإنسانية بسخاء دون تقتير، فكانت حضارة الإسلام التي قامت على أكتافها النهضة الغربية الحاضرة في شتى ميادينها الفكرية والثقافية العلمية والتجريدية.. إلخ.

لصوص العلم

وعلى نقيض حضارة الإسلام، تميزت النهضة الغربية بابتعادها عن الأمانة العلمية وعن أخلاقيات العلماء المسلمين، فسرقوا ونهبوا وادعوا ملكية ما سرقوه لهم، عدا عن تنكر معظمهم، لفضل حضارة الإسلام عليهم.

فالأوربيون لم يعرفوا النظام العشري إلا بعد استيلاء النورمانديين على صقلية، التي كان يسكنها المسلمون - عام 1091 م- ولولا هذه الأرقام التي قدمتها الحضارة العربية الإسلامية للعالم، ما اخترعت الآلة الحاسبة، وما اخترع الحاسوب بكل ما يقدمه لنا من مساعدة في إنجاز الأعمال بسرعة فائقة. وكان ابن سينا أول من اكتشف "مرض الانكلستوما" وسبق بذلك المكتشف الإيطالي "دوبيني" بما يزيد على مائة سنة.

وكان ابن الشاطئ المؤقت الدمشقي هو أول من وضع نظرية فلكية تتفق مع الأرصاد، وقد سبق بذلك كوبرنيكوس، كما أن البحارة العرب هم الذين دلوا البحارة الغربيين على البوصلة البحرية.

ومعروف أيضا أن المعري توفي قبل ولادة دانتي بأكثر من قرنين، إذ توفي أبو العلاء المعري عام 449 ه بينما توفي دانتي عام 1321 م أي نحو 720 ه، فلا بدع إن قلنا إنه اقتبس فكرته في الكوميديا الإلهية من شاعرنا المعري.

مصداقية فقدت

يؤكد خبراء الكونجرس "إن الذين يملكون معلومات أكثر هم الذين يحوزون مفاتيح القوة في العالم". وفي تقرير سري من محفوظات الحكومة البريطانية- ويتعلق بفترة الاحتلال البريطاني لمصر- يقول كرومر: "إن بريطانيا لا تريد نشر التعليم العالي بمصر، وإنها لا تريد إلا إعداد جمهور من الأفندية ليشغلوا الوظائف الثانوية في الحكومة".

وإذا كان هذا التقرير يشير لوضع التعليم في مصر منذ قرن من الزمان، فإن لسان الحال في زمننا الحالي يشير للشيء نفسه وعلى مختلف المستويات، ولا يتعلق بمصر وحدها، وإنما يمتد ليشمل بلدان العالم الإسلامي المختلفة.

كما أن هذه الحرب الموجهة ضدنا - سواء المعلنة منها أم غير المعلنة - لم تشن من الغرب فقط بل ومن الشرق المنهار أيضا.

وقد أخذت أشكالا مختلفة وأكثر حداثة، فكانت تسمح بالتعليم - ولكن في جامعات معينة- وفي فروع معينة، وكانت تتساهل كثيرا في منح الشهادات والألقاب العلمية ويمكن إعطاؤها بشكل شرفي أيضا ودون جهد أو تعب، وفي مرحلة الانهيار وما بعدها سمعنا عن شهادات بيعت وألقاب علمية تم شراؤها، مما جعل شهادات تلك البلدان تفقد مصداقيتها.

قدسية تحطمت

وإذا كان التعليم العالي في البلدان الغربية قد تمكن من الحفاظ على مصداقيته لفترة من الزمن، فإنّه بدأ يفقد مصداقيته لدينا أخيرا، إذ لم يعد خريجو تلك البلدان يحاطون بتلك الهالة المتلألئة والقدسية المميزة، وذلك بعد أن تمكن عدد من خريجي جامعاتنا المحلية وبجهودهم الشخصية وإمكاناتهم المادية الضئيلة من إثبات وجودهم واكتساب ثقة مواطنيهم بهم، وذلك من خلال نجاحهم في عملهم. وأصبح هم المواطن عندنا السؤال عن الطبيب الناجح قبل أن يسأل عن مصدر الشهادة التي حصل عليها.

وقد أدت هذه الثقة المتبادلة بين المواطن والطبيب ذي الخبرة المحلية والدراسة العربية المحلية، إلى أن تزداد ثقته بنفسه، فلم يعد ينظر إلى خبرات الأطباء الغربيين على أنها منزلة من السماء، بل وقف في وجههم وقفة الند للند، يجادلهم ويناقشهم ويطرح رأيه المبني على دراسات وأبحاث مجراة على مواطني بلده، تلك الدراسات التي قد تتوافق أو لا تتوافق مع ما هو معمول به لديهم في الغرب.

روح العصر

وإذا كانت نظرة الاستعلاء والتكبر التي ينظر الغربيون بها إلينا - نحن العرب والمسلمين - ما زالت تستحوذ على عقول الغربيين، وقد يعود هذا- على ما أعتقد - إلى أسباب دينية وسياسية، أججت أوارها نكبة الخليج وتشرذم العرب، فإن مجابهة هذه النظرة لا تكون بمضاعفة شعورنا بالدونية، بل يجب أن تكون حافزا لنا لبذل المزيد من الجهد لهدم الهوة التي تفصلنا عن علومهم، وذلك بالعمل على خلق مؤسسات تعليمية ومراكز أبحاث متطورة يشرف عليها ويديرها نخبة من المفكرين - بغض النظر عن مختلف الاعتبارات وخاصة السياسية منها-. ذلك أن لمثل هذه المؤسسات دوراً مهما وأساسيا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

والعلم هو سبيلنا إلى النصر في معركة البقاء. إنه روح العصر الحاضر والعصر المقبل وطابعهما، وبه تتقرر مصائر الأمم والشعوب.

كلمة أخيرة

لقد بات احتكار الأنظمة الغربية للتقدم وعدم معاونة- بل ومعارضة- دول العالم الثالث في الحصول على مستحدثات التكنولوجيا، أمرا من الظلم والاضطهاد بمكان، أمرا حملت الرأسمالية والنظام العالمي الجديد لواءه تماما كما حاولت الماركسية سابقا هدم كل الأنظمة الاقتصادية الأخرى التي تدور في فلكها بحقد مدمر قبل أن تنهار هي.

إن المرحلة الراهنة التي تمر بها أمتنا مرحلة دقيقة وحساسة، تتطلب منا وضوح الرؤية ورهافة الإحساس ودقة التعامل، كي نتمكن من اختراق الوصاية والاستعلاء، دون أن نتنازل عن كرامتنا وكبريائنا، ودون أن نتخلى عن تراثنا وحضارتنا العريقة. ذلك أن ثقافتنا بخصائصها وميزاتها سياج حقيقي لنا.

فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.