ثقافة الاستئذان لورانس ليسيج عرض: وليد خليل الشوبكي

ثقافة الاستئذان

يبدو أن قوانين الملكية الفكرية قد أصابها شيء من الشطط, مما حدا الكثير من الأكاديميين, وعلى رأسهم مؤلف هذا الكتاب (ثقافة حرة), على التنبيه إلى حدوث تحول جذري في وجهة نظر القانون للخطوط الدقيقة الفاصلة بين حقوق المستهلكين الأفراد وحقوق الشركات فيما يتعلق بالمنتجات الفكرية والإبداعية, ثم الأثر الخطير لذلك في عملية خلق الثقافة والإبداع العام.

من كثرة ما تطالعنا عبارة (كل الحقوق محفوظة), أو علامة - (للدلالة على أن منتجا إبداعيا ما يخضع للملكية الفكرية لشخص أو مؤسسة), صار معظمنا يتقبل قوانين الملكية الفكرية باعتبارها تطورا طبيعيا في سياق اقتصاديات السوق السائدة حاليا. وحيث من المنطقي - نظريا - أن كل مبدع, في أي فرع من فروع الإبداع, لابد أن يتقاضى نظيرا لإبداعه; فتلك - أولا - هي الطريقة التي يكسب بها المبدع رزقه. وثانيا, ذلك هو الأسلوب الذي يشجع به المجتمع مبدعيه على مواصلة الإبداع وإثراء الثقافة. وثالثا, ووفقا لأبجديات اقتصاد السوق, فإن أي منتج (سواء أكان قطعة من القماش أو قطعة موسيقية) يمثل (قيمة) ما فإنه يعتبر (ملكية), ومن ثم فإن له مالكا يجب أن يتقاضى نظير استخدام ذلك المنتج أو الحصول على ملكيته.

لقد انتشرت هذه الأفكار ووصلت لدرجة المسلّمات. ولعلها كانت تدور في خلفية عقول نواب بعض البرلمانات العربية التي صادقت أخيرا على قوانين الملكية الفكرية تمهيدا لاندماج هذه البلدان في اتفاقية التجارة العالمية. وكذلك - ربما - كان في خلفية وعي هؤلاء النواب أن الاجتهاد حول أمور مثل الملكية الفكرية والقرصنة قد أغلق. ففي ظنهم أن هذه الأمور قتلت بحثا في الغرب (الولايات المتحدة خاصة, التي تدفع بهذه القوانين في بلدان العالم الثالث). ومن ثم, فلا داعي لفتح النقاش حول ما حُسم من أمور.

ولكن بين أيدينا الآن كتابا لأستاذ القانون في جامعة ستانفورد (بالولايات المتحدة), لورانس ليسيج, لبّه أن الجدل والنظر في قوانين الملكية الفكرية يجب ألا يغلقا. فقوانين الملكية الفكرية التي مررت حديثا - في الولايات المتحدة, ويُمرر, أو مرر, مثلها في دول العالم الثالث - يشوبها خلط هائل. والمؤلف يرى أن ذلك الخلط متعمد, وأن كيانات بعينها تقف وراء نشر ذلك الخلط للحفاظ على مصالحها. وأنه إذا لم يتم الانتباه لذلك, فستترتب آثار سالبة هائلة على المجتمع والثقافة والمبدعين, وهي الكيانات الثلاثة التي يدّعي مروجو قوانين الملكية الفكرية أنهم يدافعون عنها. فكيف حدث ذلك الارتباك?

أقوى من الدستور

في كتابه الأخير الصادر هذا العام (ثقافة حرة: كيف تستخدم الشركات الإعلامية الكبرى التكنولوجيا والقانون لخنق الثقافة والتحكم في الإبداع), يرى لورانس ليسيج أن قوانين الملكية الفكرية الأخيرة تمثل انحرافا خطيرا عن المسار الذي اعتاد القانون أن يسلكه. فهذه القوانين التي أفلح اتحادا شركات إنتاج الأفلام (MPAA) والموسيقى (RIAA) الأمريكيان في (إقناع) الكونجرس الأمريكي بتمريرها, في سياق (الحرب) التي يشنها رجال هذين الاتحادين على ما يسمى بالقرصنة هي قوانين متعسفة, تضرب التوازن الذي طالما حافظ عليه الدستور والتشريع بصفة عامة بين مصلحة المستهلك والمجتمع على طرف, ومصلحة شركات المنتجات الإبداعية (الأفلام, الموسيقى, القنوات الإذاعية, وقنوات التليفزيون عبر الكابل) على الطرف الآخر. والمؤلف يرى أن هذه القوانين غير دستورية, ولكن قوة اتحادي الموسيقى والأفلام وسطوتهما في الكونجرس - فيما يبدو - أقوى من الدستور الأمريكي!

من وجهة نظر ليسيج, ثمة بعدان - متداخلان - للإشكالية التي تسببت فيها قوانين الملكية الفكرية الأخيرة: بعد قانوني وآخر ثقافي إبداعي.

ففي البعد القانوني, يرى المؤلف (المتخصص) أنها المرة الأولى التي تتخلف فيها التشريعات والقوانين عن التعرف والوعي الكاملين بآفاق تقنية واعدة, هي الإنترنت, وبقدرة هذه التقنية على المساهمة في إنتاج ونشر أنواع جديدة من الإبداع. وقد أدى ذلك - وبضغط من شركات الأفلام والموسيقى بدعوى محاربة القرصنة - إلى إصدار قوانين تقيد ذلك الوسط التقني الهائل, وتحد من إمكانات استخدامه. وبذلك تحولت هذه القوانين (التي بدأت عام 1710 في بريطانيا وعام 1790 في أمريكا) من مجرد أداة لضمان حصول دور النشر على حقوقها من بيع الكتب وعدم السماح لآخرين بنسخها وبيعها دون وجه حق, إلى مثبط يعوق قدرة الفرد على استخدام المنتج الذي اشتراه على الوجه الذي يبتغي.

والمؤلف يرى أن هذه (الحرب) من قبل منتجي الأفلام والموسيقى ليست على القرصنة, وإنما على التقنية نفسها (الإنترنت). كما أن هذه الحرب ليست لمصلحة المبدعين, وإنما لمصلحة الموزعين; أي الشركات التي تنتج وتوزع. هذه الشركات الضخمة ترى في الإنترنت مهددا لسيطرتها على سوق إنتاج وتوزيع الأفلام والموسيقى. ولهذا فإنهم (يريدون أن يحكموا قيادهم على الإنترنت قبل أن يخرج المارد من القمقم ويُحكم القيد عليهم) كما يقول المؤلف. فالإنترنت, كتقنية وكوسط إعلامي هائل, أكثر كفاءة ودينامية في إنتاج الإبداع ونشره, مجانا في أغلب الأحوال, لأن ذلك الإبداع يأتي في صورة مبادرات فردية, غير تجارية. ولهذا فالشركات تستغل قوتها لتمرير القوانين التي من شأنها أن تجهض التقنية ذات الآفاق المهددة لهم.

أما البعد الثقافي الإبداعي للإشكالية التي تطرحها قوانين الملكية الفكرية الأخيرة فهو - وكما يرى المؤلف - أنه كان هناك دائما ما يمكن أن نطلق عليه (النطاق العام) من الثقافة والإبداع; ويقصد به مختزن الذاكرة والإبداع والثقافة التي أنتجتها أمة ما, والتي تمثل منجم الأفكار والإلهام للأجيال الجديدة من المبدعين لكي يأخذوا ويبدلوا ويعدلوا لينتجوا لنا إبداعا جديدا, وهكذا جيلا بعد جيل, بحرية مطلقة. ما يحدث الآن غير ذلك. فالقوانين الأخيرة تتعسف وتتطرف (حسب تعبير المؤلف) في تحديد الملكيات الفكرية, وبالتالي فإنها تعمل على تآكل مخزون (النطاق العام) بدرجة تحوّل ثقافة المجتمع - أي مجتمع - من (ثقافة حرة) إلى (ثقافة الاستئذان). الثقافة الحرة هي تلك يستطيع فيها كل فرد أن يعتمد على (النطاق العام) فيأخذ ويغير ويبدل ويبدع بكامل الحرية. أما في ثقافة الاستئذان - التي ترسيها القوانين الأخيرة كما يرى المؤلف - فإننا نتحول إلى مجتمع يكون فيه على كل مبدع أو مبتكر شاب أن يحصل على (الإذن) أولا, إما من الشركات الكبرى التي تملك الحقوق الفكرية لأحد المنتجات الإبداعية أو من أحد المبدعين السابقين.

الملكية الفكرية

فالملكية الفكرية هي (أي منتج للعقل البشري متفرد وأصيل وغير واضح للآخرين, وذو قيمة إذا ما طرح للبيع. والملكية الفكرية يمكن أن تكون فكرة أو اختراعا أو عملا أدبيا أو اسما متفردا أو تركيبة كيميائية أو أسلوبا لأداء وظيفة أو عمل ما أو حتى أسلوب عرض مبتكرًا). والملكية الفكرية - كما يدل اسمها - هي ملكية, شأنها شأن ملكيات أخرى كالعقارات أو الأراضي أو غيرهما. ولكن ثمة فارقا كبيرا بين الملكية الفكرية والملكيات التقليدية هو الذي أثار الارتباك والجدل الحاليين.

ففي الملكيات التقليدية, ما إن تحصل على حق ملكية ما, فإن لك مطلق الحرية في استخدامها على الوجه الذي يحلو لك. فلو أنك اشتريت مثلا ثمرة بطاطس, فإن ملكيتك لهذه الثمرة تخول لك أن تستفيد منها مطبوخة أو مقلية أو أن تستعملها كخامة للنحت لتنتج منها عملا فنيا أو أن تزرعها ثانية, أو حتى أن (تهجنها) بطريقة ما مع ثمرة بطاطس أخرى لإنتاج سلالة أفضل من البطاطس. أما في الملكية الفكرية, فأنت عندما تشتري, مثلا, قرصا مدمجا (سي دي) فالأمر مختلف. فقد استطاع أصحاب هذه الملكية الفكرية - باستخدام التكنولوجيا - أن يتحكموا في كيفية استخدامك لهذه الملكية, رغم أنها - نظريا - آلت إليك بعد شرائك لذلك الـ (سي دي). فليس مسموحا لك بأن تنسخ, مثلا, أغنيات من ذلك الـ (سي دي) على حاسبك الشخصي, وليس مسموحا لك بأن تصنع نسخة احتياطية من ذلك الـ (سي دي) حال فقد أو تلف الأصلي, وليس مسموحا لك بأن تشغّله على بعض المشغلات التي ربما تيسر من نسخه. وليس مسموحا لك - لو أنك موسيقي هاو مثلا - بأن تدمج قطعة من هنا مع قطعة من هناك مع قطعة من تأليفك لتنتج عملاً موسيقياً جديداً, حتى لو كان ذلك لأغراض غير تجارية.بالطبع هذا يؤدي إلى خنق الإبداع, وسيترتب عليه آثار سالبة على المجتمع ككل كما أسلفنا. ولكن لب النقاش هنا هو أننا يجب ألا نتعامل مع الملكية الفكرية بالطريقة نفسها التي نعامل بها الملكيات الأخرى. لأنه لو تم ذلك, فسيكون ذلك في مصلحة فئة صغيرة من المجتمع (الموزعين والمنتجين وليس المبدعين على الأغلب), وعلى حساب المجتمع كله. وستصبح الملكية الفكرية ليست أكثر من (ملكية احتكارية). ويذكر المؤلف أن المشرّعين الأمريكيين الأوائل قد وعوا ذلك جيدا. فبينما أكد المشرعون في دستور 1789 على حرمة, بل وقداسة, الملكيات الخاصة في التعديل الدستوري الخامس (Fifth Amendment) وأن الحكومة لا بد أن تدفع نظير استيلائها على - أو إتلافها - لأي ملكية من ملكيات الأفراد, فإن هؤلاء المشرعين كان لهم رأي مختلف فيما يخص الملكية الفكرية, حيث أشاروا إلى أن هذه الملكية يجب أن تحدد (بفترة زمنية معينة) بعدها تئول إلى المجتمع. ولو لم يقم المشرعون بهذه الخطوة لما انتشرت أعمال شكسبير, مثلا, بالصورة التي انتشرت بها.

القرصنة

أما القرصنة فهي (الاستيلاء على الملكية الفكرية لمبدع أو استخدامها بطريقه تحرمه من تحقيق الربح من ورائها). إلى هنا يؤكد المؤلف لورانس ليسيج أنه ضد القرصنة. ولكنه يعود فينبهنا إلى أن قوانين الملكية الفكرية الأخيرة تخلط بين أمرين لم يخلط بينهما المشرّعون من قبل: وهو الفرق بين إعادة إنتاج أحد الأعمال الإبداعية (كطباعة كتاب مثلا) بهدف الاتجار فيه دون إذن المبدع, من ناحية, واستلهام فكرة أحد الأعمال الإبداعية, وتطويرها وتحويرها وإنتاج عمل إبداعي جديد ومختلف من ناحية أخرى. في رأي المؤلف أن ذلك هو مثار الارتباك الذي أصاب قوانين الملكية الفكرية, وسيصل أثره - سلبا - إلى جوهر عملية إنتاج الثقافة المجتمعية كفعل تراكمي وتدويري.ويضرب المؤلف أمثلة عديدة على أن القانون كان يحفظ دائما حق الفرد المبدع في (القرصنة) (!) على جزء ما من الإبداع الواقع في (النطاق العام) ليتيح الفرصة لإنتاج إبداع جديد. فبهذه الطريقة ظهرت للوجود الأعمال الفنية لشكسبير ووالت ديزني. فمثلا الخطوط العامة لمسرحيتي (هاملت) و(روميو وجولييت) كانت قصصا شعبية في النطاق العام في زمان شكسبير, في أواخر القرن السادس عشر. وقد كانت عبقريته, وإضافته, تكمن في تعبيره الشعري الرائع وفي قدرته على تطوير الخطوط الدرامية العامة إلى تصاعد درامي محبوك وخلاب. وكذلك الأمر لوالت ديزني مبتكر شخصية الفأر الكرتوني (ميكي ماوس). فأول فيلم ناجح في سلسلة أفلام (ميكي ماوس) كان الفيلم رقم 2, إذ أخفق سابقه. وقد كان ذلك الفيلم الثاني الذي أنتج عام 1928 يحمل اسم (القارب البخاري ويلي), ولم يكن هذا الفيلم أكثر من محاكاة كرتونية ساخرة لفيلم سابق هو (القارب البخاري بيل) للممثل العبقري (باستر كيتون). وقائمة (قرصنة) والت ديزني (أو شركة ديزني) على إبداع (النطاق العام) تمتد لتشمل أغلب أفلام ديزني الشهيرة مثل (سنووايت) (1937), (أليس في بلاد العجائب) (1951), (الجمال النائم) (1959), (كتاب الغابة) (1967) و(مولان) (1998). وهذه (الاستعارات) من النطاق العام ليست عملا سلبيا بل هي إبداع إيجابي رائع في حد ذاته, كما يؤكد المؤلف, وإضافة إلى مخزون الثقافة.لنتصور إذن أن قوانين الملكية الفكرية الحالية كانت موجودة في عصر شكسبير أو في زمان والت ديزني, وكيف كان سيحرمنا ذلك من الأعمال المسرحية والكرتونية الرائعة التي أنتجها هذان العبقريان, بفضل موهبتهما الشخصية بالطبع, إضافة إلى الحرية التي أتاحها لهما زمناهما في (الأخذ والتحوير والتجديد والإبداع). ثم دعونا نتصور كم شكسبير ووالت ديزني من شباب اليوم سيوأدون في المهد بفضل القوانين المتعسفة.

لقد بدأت حقوق الملكية الفكرية في الأساس كوسيلة. أما الغاية فكانت حماية الإبداع. الآن انقلبت الأمور رأسا على عقب, وصارت حقوق الملكية الفكرية هي الغاية (لشركات الإنتاج والتوزيع بالطبع) التي يمكن لأجلها غض الطرف عما يحدث للإبداع, تعطيلا أو تحكما أو إجهاضا.

ثقافة حرة..كيف?

وكنا قد أسلفنا أنه في رأي لورانس ليسيج أن ذلك التحول في منظور القانون سيحول الثقافة المجتمعية من (ثقافة حرة) إلى (ثقافة استئذان). نستطيع أن نلخص وجهة نظر المؤلف فيما يتعلق بالثقافة الحرة في التالي:

ـ الثقافة الحرة لا تعني إلغاء الملكيات الفكرية. فالثقافة الحرة شأنها شأن الاقتصاد الحر, تحترم الملكيات وتنظمها.

ـ الثقافة الحرة هي الوسط الذي نمت فيه - عبر التاريخ - العبقريات والمواهب التي صنعت ما نتمتع به الآن من منجزات الحضارة. ويجب علينا أن نحافظ على هذه الثقافة للأجيال الجديدة.

ـ في الثقافة الحرة الشعارات الحادة غير مقبولة, فإلغاء الملكيات الفكرية مرفوض, ولكن في الوقت ذاته ليست (كل الحقوق محفوظة). وليس المقصود هنا أن يُسلب مبدع من تقاضي نظير إبداعه, وإنما أن تتاح للمستخدم الفرصة للاستفادة من المنتج على الصورة التي تحلو له دون تدخل من صاحب حق الملكية الفكرية.

ـ في الثقافة الحرة تستعمل التقنية لإطلاق الإبداع وليس لتكبيله.

ـ الثقافة الحرة ترسخ لمجتمع لا يحتاج إلى المحامين في كل صغيرة وكبيرة (رغم أن المؤلف نفسه محام!). وذلك أن الشطط في تطبيق قوانين الملكية الفكرية قد جعل كل فعل يقوم به المستخدم عرضة للملاحقة القانونية, ومن ثم فإن كل فرد في المجتمع صار يحتاج إلى محام ليدافع عنه أمام اتحادي منتجي الموسيقى والأفلام.

ـ في الثقافة الحرة يسمح بقدر من (القرصنة الإبداعية) إن صح القول, من قبيل تلك التي قام بها شكسبير أو والت ديزني, لأن ذلك الإبداع هو الذي يضيف للنطاق الإبداعي العام, ويفتح الأفق أمام مبدعي المستقبل لكي يضيفوا بدورهم.

 

لورانس ليسيج