إلى أن نلتقي محمد المنسي قنديل

 إلى أن نلتقي

الإمبراطور فقيرًا

لا أدري إن كان هناك من يذكر قصة (الأمير والفقير) التي كتبها الكاتب الأمريكي خفيف الدم (مارك توين) أم لا?. لعل هناك من قرأوها في طفولتهم أو شاهدوها على شاشة السينما, إنها قصة تدور أحداثها في لندن القديمة, وهي مكان ساحر لأحداث أي رواية, حيث نكتشف وجود شبه يصل إلى حد التطابق بين غلامين, أولهما هو أمير إنجلترا الذي تجري في عروقه الدماء الزرقاء, وثانيهما غلام فقير لا تجري في عروقه سوى الدماء الموجودة في عروقنا جميعا, ويتفق الاثنان على تبادل المراكز, يصير الأمير فقيرًا فيهبط إلى شوارع لندن حيث زحام الباعة واللصوص والمتشرّدين, وبالرغم من ذلك فهي تشع بالدفء وتمتلئ بالتحديات اليومية التي تفرضها قساوة الحياة, بينما يدخل الفقير إلى ردهات القصر الباردة, حيث تخفي البروتوكولات وحركات الإيماءات المتكلفة عالما من الدسائس والمؤامرات, وفي النهاية يستعيد كل منهما مكانه بعد أن خبر وجرب عالما مختلفا, والقصة خيالية بالطبع, ولكنها مثل أي خيال له جذوره الواقعية, فالملك أو الإمبراطور يحلو له أحيانَا أن يكون فقيرًا, وهو يقوم بهذه النزوة من باب الترفيه عن النفس, ولكن لو حاول الفقير أن يصبح ملكا, فمن المؤكد أن يودي به هذا إلى حبل المشنقة. فالخليفة هارون الرشيد كان يحلو له التنكّر في زي الفقراء والهبوط إلى حواري بغداد وأزقتها حيث يتعرض للمآزق المختلفة, ولكنه يتعرف على الحياة الحقيقية. وفي كوريا شاهدت التجربة نفسها, ولكن بأسلوب مختلف, فقد كان يحلو لأباطرتها أن يكونوا فقراء أيضا, فالقصر الإمبراطوري الذي مازال موجودًا في قلب العاصمة (سيول) يضم قصرين وحياتين مختلفتين داخل سور واحد, في الأول يجلس الملك التنين معظم شهور العام, تحت سقف من القرميد الأزرق, ويخطو على طريق مرصوف أعلى من الذي تسير عليه بقية الحاشية ويجلس على عرش من الذهب تحيط به الأبهاء والقاعات الفخمة المزيّنة بزهور الباسنت والستائر الأرجوانية, وهو لون مقدس لا يستخدمه أحد غيره, وينام على أسرّة من خشب الصندل مطعمة بالجواهر والبشمك, ولا يأكل إلا في أطباق من الذهب الخالص, بينما يأكل الجميع من حوله في أطباق من الفضة, ويقف بجواره الذوّاقة الخاص به ليتناول ملعقة من كل طعام يقدم للإمبراطور حتى يضمن خلوّه من السم, كل هذه الأبهة المبالغ فيها لا يوجد لها أي أثر في القصر الثاني, وهو لا يمكن أن نطلق عليه لقب القصر إلا مجازا, فهو لا يتعدى مجموعة من الأكواخ الخشبية الخشنة, بلا قرميد أزرق, ولا رسوم للتنانين, ولا زخارف على الجدار, وحتى أسرّة النوم, هي أيضا خشنة وضيقة, وكذلك الطعام البسيط, القليل الكمية, يطهى في آنية يعلوها السواد ولا يوجد ذوّاقة, إلى هذا المكان الحقير كان الملك التنين ينتقل كل عام ليقضي فيه شهرًا كاملاً من التقشف, دون بروتوكولات أو مراسم, شهر من الفقر يستفيق فيه الجسد من دعّة الترف, ويدرك فيه العقل أن هناك جانبًا آخر من الحقيقة, لعل الإمبراطور بعد ذلك يكون أكثر عدلاً وإحساسا بما يعانيه الفقراء والبسطاء من رعيّته, ترى.. كم قصراً عربياً من قصورنا العامرة يمتلك مثل هذا الجناح المتقشف?

 

محمد المنسي قنديل