حوار مع المسلة المصرية في قلب باريس يحيى الجمل

رغم مئات المرات- إن لم نقل آلاف المرات- التي طفت حولها في غدواتي وروحاتي في مدينة النور والعلم والحضارة وكل شيء جميل- رغم كل هذه المرات العديدة- إلا أنني أحسست هذه المرة أنني أريد أن أحادثها وأنها تريد أن تحادثني.كنت دائما أغبطها كلما مررت عليها في مكانها ذلك الذي يندر أن يكون في العالم كله مكان يدانيه في روعته وعظمته وجماله- ميدان الكونكورد- حدائق التويلري وقصر اللوفر من ناحية والشانزليزيه الرائع يمتد إلى قوس النصر.هل يوجد في الدنيا مكان يحيط به الجلال والجمال والروعة مثل هذا المكان؟
ما أظن ذلك أبدا.

كنت أنظر إليها دائما وهذه الأحاسيس تغمرني وتملأ كياني.وكنت أحس أيضا أنها جزء مني.أنها بعض ما أملك أنا وملايين المصريين من قبلي ومن بعدي منذ فجر التاريخ وإلى الأبد البعيد.

ولكن شعورا واحدا لم ينتبني قط إزاء هذه المسلة كما انتابني إزاء غيرها من المسلات المصرية الموجودة في أماكن كثيرة من العالم . كنت دائما أنظر إلى غيرها من المسلات وأحس أنها اغتيلت غدرا وأنها تحاول أن تهرب عائدة إلى حيث كانت على ضفاف النيل إلا هذه المسلة في ميدان الكونكورد في قلب باريس. كنت أحس دائما بعظمتها وروعتها، وكنت أحس أنها تطوي أحجارها على قدر من الحزن يعادل ما تظهره من كبرياء.

وفي هذه المرة أحسست بعمق أنني أريد أن أحادثها وأن أسمع منها.

الموقع: المكان والتاريخ

كان الوقت صيفا، وكنا بعد منتصف الليل بقليل، وكان الميدان العتيد يتلألأ ضوءا من كل ناحية فيه. وكان اللوفر من ناحية وقوس النصر من ناحية أخرى يعكسان أضواء قوية يعطيها عبق التاريخ وروعة المكان سحرا فوق القوة، وكانت العزيزة الغالية سامقة منفردة شامخة بطرفها الأعلى نحو السماء في غير ضراعة ولا ذلة وإنما في كبرياء حزين عجيب.

- نعم أنا في أجمل أماكن الدنيا قاطبة، ولكن هل تظن أنني نسيت آلاف السنين على ضفاف النيل العظيم؟.

- هل معنى هذا أنك تفكرين في العودة يوما من الأيام؟.وصمتت صمتا غير قصير.

- الحق أقول لك إنني لا أفكر في ذلك ولا أريده.

وكأنها أدركت ما أصابني من خيبة أمل ودهشة وألم فقالت بعد فترة صمت طويلة:
-... على الأقل ليس الآن.

- هذا يعني أنك سعيدة كل السعادة هنا في ذلك المكان وأنني كنت على حق عندما كنت أشعر نحوك بالغبطة وأنني لم أشعر نحوك أبدا في مكانك هذا أنك تعانين الألم أو الحرمان.

- أنت يا بني على شيء من الحق ولكنك لست على كل الحق ويبدو لي أنك ككل أبنائي الذين جاءوا في السنوات الأخيرة تتعجلون الحكم على الأمور ولا تعطون أنفسكم الحق في النضج والرشد ووزن الأمور بميزان سليم.

أنا سعيدة يا بني بوجودي في هذا المكان. أليس هو كما تقول أنت، وكما يقول الناس جميعا، أجمل مكان في الدنيا قاطبة؟. وألا يحق لي أن أكون سعيدة فيه. ولكني لست كما تقول- رغم سعادتي هذه- سعيدة كل السعادة!! إن سعادتي يا بني يعتورها أحيانا كثيرة هواجس من الحنين بل وأكاد أقول لك ينتابها بعض الأحايين مشاعر الحسرة والألم رغم ما قد يبدو لكم من مظاهر السعادة الغامرة والتوقير الشامل الذي ليس إلى نكرانه من سبيل.

الاغتراب السعيد

- يبدو أننا قد بدأنا حديث الأحاجي والألغاز ويبدو أن كهنة طيبة بكاد دهائهم مازالوا في جوفك ينطقون لسانك بكل ما يقول.

- ليس في الأمر يا بني أحاج ولا ألغاز وقد انتهى أمر كهنة طيبة معي منذ زمن طويل وأنا أعيش الآن حضارة نهاية القرن العشرين وأدرك كنهها ومدى بعدها عن كهنة طيبة. إنني يا بنى في أعماقي من بعيد لا أجد في الدنيا كلها مكانا أحب ولا أعز ولا أطيب من مكاني الأصيل هناك بعيدا بعيدا بين جدران الكرنك العظيم حيث عبق التاريخ وسحره وحرارة الشمس وذرات من غبار. صدقني إذا قلت لك ذلك وصدق كل غريب عندما يقول لك مثل هذا الكلام، مهما بلغ شأنه وعلا ذكره في ديار ليست دياره وبين أهل ليسوا هم أهله.

ولكن قل لي بربك إلى أين أعود وإلي من أعود؟!. لقد أهنتم يا بني كل شيء. أهنتم الحضارة وأهنتم التاريخ ودستم على كل القيم واستباحكم أراذل الأرض وأمسيتم وكأنكم تستعذبون الهوان. إنكم يا بني فيما يبدو لي ومنذ زمن غير قصير تعيشون مرحلة القامات القصيرة والأحجام الصغيرة حتى لأوشك أن أظن أنني إذا عدت فستنكرونني نكرا وسأنكركم أشد الإنكار.

وقلت لها والألم يعتصر قلبي ويوشك أن يهدني هدا:
- كفى ما كان... كفى ما كان.

وانقطع حبل الحديث ولاذ كل منا بصمت عميق يلفه حزن كئيب.

ثم انبعث صوتها من جديد وكأنه يأتي من أعمق أعماق التاريخ البعيد وقالت:
- أنا أعلم مدى حبك بل ومدى عشقك لمصر وترابها ونيلها وكل ما فيها ومن فيها، أنا أعلم ذلك كله جيدا وأعيه وأعلم أنك من رواد ما أسميتموه القومية العربية واعذرني إذا قلت لك ذلك فهذا تاريخ بعد تاريخي بزمن طويل لا أستطيع أن أدركه على وجه التحديد، أنا أعلم ذلك كله ومع ذلك فلا تجعل قلبك ينخلع وعقلك يفرع إذا عرضت عليك أنت أن تبقى معي هنا في باريس. أنا أعرف يا بني ماذا تعني باريس بالنسبة لك. إنها تعني الحضارة والجمال والنور والحب، وتعني أيضا العلم والتنوير والحرية فهلا استمعت لي وبقيت إلى جانبي تؤنسني وأونسك إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا؟ !!!

الجذور وصراع الحنين

وكانت الصدمة قاسية حتى كأنها زلزلت كياني كله وأفقدتني المقدرة على النطق والتفكير غير قليل من زمان.

- أنت يا أماه. أنت يا عظيمة يا سامقة تحرضينني على أن أترك مصر وأبقى هنا في باريس.. سامحك الله. برغم كل الإعجاب والانبهار والحب فإني لست منها وهي ليست شفتي. كلانا غريب عن الآخر وسيظل كذلك مدى العمر. إنها حلوة لزيارة. بل إنها رائعة حتى لعضل موقوت كما كان الحال عندما عملت فيها مستشارا ثقافيا لبعض الوقت. أما الإقامة الدائمة طوال البقية الباقية من العمر فشيء رهيب. شيء لم يخطر لي قط على بال. لا يا مسلتنا العظيمة إنني لا أعرف لنفسي مكانا غير هناك على ضفاف النيل ولا أتصور لي قبرا إلا في ثراها الحبيب. سامحك الله يا أماه.

- لقد كنت أعلم أنك ستقول ذلك، فأنا أعرفك جيدا وأعرف ما يعتمل في صدرك من هموم ومن صراعات وأعرف أنك مازلت رغم كل شيء تحلم ببعض الأمل وأعرف أيضا يا بني أن الحياة بغير أمل شيء لا يطاق، بل وصدقني إذا قلت لك رغم كل شيء إن حزني كان سيزداد لو أنك استجبت لي وبقيت إلى جانبي مع ما كان سيسببه ذلك لي من أنس وإحساس بأن قطعة مني. جاءت لتعيش إلى جواري لأن ذلك كان سيعني بالنسبة لي انتهاء الأمل " وإغلاق الملف " كما تقولون في لغة القضاء.

قلت: ثم ماذا بعد؟ هل تعدينني بالتفكير في العودة إذا تحقق بعض الأمل؟.

قالت: وهل تعدني بأن تجيء إذا ازدادت الأمور سوءا على سوء؟.

ووقفت أمامها ساهما شاردا لا أكاد أدرك وجودي ذاته ولم أعد إلى نفسي إلا على صوت اثنين من السائحين- أغلب الظن أنهما من الإنجليز- يقول أحدهما للآخر: هل يعقل أن يكون بناة هذه هم أجداد هؤلاء؟ وأجابه الآخر في هدوء شديد ألم تسمع عن تداول الأيام والحضارات. وكأن ثعبانا قد لدغني. وتركت الميدان العظيم وذهبت لا ألوي على شيء.

وعدت إلى القاهرة فقد كانت الدراسة في الجامعة توشك أن تبدأ.
ومضت بضعة شهور.
وفي تلك الشهور حدثت حرائق في كثير من الأماكن
وانهارت جسور.
وغرقت قرى.
وقتل أناس طيبون وآخرون غير ذلك.
وكشفت سرقات في متاحف.
وأغرق الماء الذي ينشع من الأرض تحفا وآثارا كثيرة.
وأرهقت الحياة ملايين من الناس.
وعاش آخرون في بذخ يفوق حدود التصور.
وتحدث أناس عن الحرية وهم لا يعنون شيئا مما يقولون.

بين اليقظة والمنام

وفي ليلة من ليالي شتاء القاهرة الطويلة- بعد هذه الشهور- إذا بي أرى كما يرى النائم المهموم لا هو مستغرق في نومه ولاهو متمالك لكل جوارح اليقظة ومشاعرها إذا بي أراها في كل جلالها وعظمتها وحزنها الإمبراطوري الجليل وإذا بي كأني أسمع صوتها ينبعث من أعمق أعماق التاريخ يقول:
كيف حالك يا بني. ألازلت عند ما قلت؟

وأخذتني المفاجأة. وتصورت أن بي مسا من النصب والإرهاق. ولكنها كانت هي سامقة شامخة لا تخطئها العين ولا الخاطر.

- ماذا تقولين أيتها الغالية العزيزة؟.. وأين نحن الآن. هل أنا عندك في باريس أم أنت التي قررت العودة وجئت أخيرا إلى القاهرة إلى جانب الأهرام والنيل والكرنك وكل غال وحبيب؟.

- لا أنت جئت إلى باريس ولا أنا جئت إلى القاهرة، ولكن الاتصال بين الكائنات لم يعد مقصورا على المشاهدة والسماع في ذات المكان. ظننتك صاحب علم وثقافة تعرف بعض علوم العصر وثقافته. ومع ذلك فأنت الذي استحضرتني لأنك لا تريد أن تمل الحديث،. ترى هل بعد أن حدث ما حدث من قبل لقائنا ومن بعده هل مازلت تراودني في أمر العودة؟

هل مازلت تتصور أن لديكم مكانا لشيء طيب أو لشيء جميل أو لشيء كريم؟ هل مازلت تجادل في أنكم جميعا أنتم ومن حولكم أصبحتم مرتعا للتخلف والعجز والهوان؟

لقد هنتم على أنفسكم فهنتم على الناس حتى وإن تظاهرتم لا مواجهة بعضكم بانتفاخ الأوداج وبكل مظاهر الأبهة المصطنعة. وكل من حولكم يدرك ما أنتم فيه من هوان وصغار وسوء حال.

- سامحك الله إنك تبالغين.

- قد يكون. ولكن مرجع ذلك شديد الحب وشديد المرارة في آن. ابق حيث أنت يا بنى وسأبقى أنا أيضا هناك حيث الحضارة...والنور... والإنسان.

واستيقظت مكدودا من نوم مضطرب وأنا أقول:
لا حول ولا قوة إلا بالله.