يورجين هابرماز.. فيلسوف الحداثة رمضان بسطاويسي

ما أكثر ما نردد كلمة الحداثة ونلصقها بمختلف الأعمال الأدبية والفنية بوعي أحيانا.. وبدون وعي في أحيان كثيرة.. في هذا المقال محاولة لتأصيل هذا التعبير ورده إلى جذوره الأولى وتتبع المسار الفلسفي الذي سار فيه حتى صيغ التيارات الأدبية المعاصرة.

ينتمي "يورجين هابرماز" إلى الجيل الجديد من فلاسفة مدرسة فرانكفورت الذين عملوا على نقد المجتمعات المعاصرة، سواء الاشتراكي منها أو الرأسمالي، ورأوا أن المعنى الحقيقي للفلسفة في عصرنا الراهن في أنها كفاح دائم لإيقاظ إمكانات الحياة الحقيقية والأصيلة داخل الفرد في مواجهة انحراف كبير يحدثه مجتمع يحاول صياغة الإنسان في شكل معياري مقنن. ولذلك فلم يعزل "هابرماز" نفسه عن الحياة الثقافية للعصر بالعمل في أروقة الجامعة فحسب، وإنما كان مشاركا بالكتابة في النقد الأدبي والمسرحي والنقد السياسي، هذا بالإضافة إلى مقالاته الفلسفية التي لا تفصل بين ما هو فلسفي وما هو اجتماعي وسياسي. والفلسفة - في رأيه - لم تعد تأملات مفارقة للواقع، وإنما هي وثيقة الصلة بتطور أدوات الاتصال في المجتمع، ومهمتها هي إعادة بناء المجتمع من خلال نقد الأسس المعرفية والوجودية لهذا المجتمع، فالسلطة تستخدم أجهزة الدعاية والاتصال لتصدير التسلط إلى الفرد، عن طريق سلب الوعي الفردي والجماعي لحريته وفاعليته من خلال ترسيخ صورة للحياة يتبناها الفرد دون أن يدري، ويوظف حياته - من خلال ساعات عمله التي هي معظم عمره - لشراء الأدوات التي يرى الفرد أنها ضرورة لتحقيق هذه الصورة من الحياة. وبالتالي تتدخل الهيمنة والسيطرة إلى داخل الوعي الفردي ذاته، بعد أن كانت تأتيه من الخارج، ويصبح الفرد متسلطًا على نفسه، ويفقد حريته في اختيار صورة الحياة التي تتفق مع إمكاناته، والتي تساهم في تقدمه الروحي والإنساني، ويعتقد - توهمًا - أن حريته هي أن يفاضل بين السلع الاستهلاكية التي يختارها بمحض إرادته، وهو قد اختارها نتيجة للدعاية التي تحيط به من كل جانب.

سيرته الفكرية

"يورجين هابرماز" Jurgen Habermas هو فيلسوف وعالم اجتماع ألماني، ولد في دوسلدروف في 18 يونيو 1929، ونشأ في وسط عائلي يهتم بالثقافة، فتكوّن لديه منذ الطفولة اهتمام بالأدب والفلسفة، وعلم النفس والاقتصاد السياسي، وفي عام 1954 حصل "هابرماز" على درجة الدكتوراة في الفلسفة عن شلنج الفيلسوف الألماني الذي اهتم بدراسة الأسطورة وتجلياتها المختلفة في ميادين الحياة الإنسانية، ثم كتب دراسته المهمة التي جلبت له الشهرة بشكل مبكر: "التفكير مع هيدجر ضد هيدجر"، وهو لا يزال في الثانية والعشرين من عمره، وكانت كتابات الفيلسوف "مارتن هيدجر" تسيطر آنذاك على الساحة الثقافية في ألمانيا وأوربا، لاسيما كتابه "الوجود والزمان" 1927، ثم شغل "هابرماز" منصب أستاذ مساعد لـ "تيودور أدورنو" 1969 -1898( Adorno) بين عام 1956، وعام 1959، وقد تأثر به "هابرماز" بالإضافة إلى "هيدجر"، وياسبرز، وأرنست بلدخ وماركيوز، وكارل لوفيت، وفتجنشتين وغيرهم ممن اهتموا بنقد المجتمع وفلسفة اللغة. وعلى الرغم من عمله في جامعة فرانكفورت إلا أن أطروحته الثانية للدكتوراة قد قدمت لجامعة ماربورج Marburg عن الأركيولوجيا الاجتماعية للرأي العام كنمط من التسلط السياسي للمؤسسات داخل المجتمعات البورجوازية الحديثة والمعاصرة. وعمل في جامعة هايدلبرج بعد ذلك حيث تعرف إلى الفيلسوف المعاصر: هانز جورج جادمار Gadmar صاحب كتاب الحقيقة والمنهج، والذي ساهم في تطوير علم الهيرمونطيقا Hermonitica . أي علم تأويل النصوص، وامتد أثره إلى هابرماز في تبني الأخير الاهتمام بفلسفة اللغة وإشكالياتها. ثم عاد بعد ذلك أستاذًا للفلسفة والسوسيولوجيا في جامعة فرانكفورت من عام 1969، حيث اهتم بدراسة دور الطلاب السياسي في المجتمع وقدم كتابه: الطلبة والسياسة، وانتقل "هابرماز" بعد ذلك إلى معهد ماكس بلانك للأبحاث حول السلوك البشري في العالم التكنولوجي، ليرأس هذا المعهد لمدة عشر سنوات. وأهم مؤلفاته هي: النظرية والممارسة 1963، المعرفة والمصالح الإنسانية 1968، التكنولوجيا والعلم كأيديولوجيا 1968، نحو مجتمع عقلاني 1970، أزمة الشرعية في الرأسمالية المتأخرة 1973، الحضارة والنقد 1973، الاتصال وتطور المجتمع 1976، نظرية المجتمع أو التكنولوجيا الاجتماعية 1976، وسافر للتدريس في الولايات المتحدة الأمريكية عامي 67، 1968، وقد حصل على جائزة فرويد عام 1974 وحصل على جائزة هيجل عام 1983 في شتوتجارت.

الحداثة الفلسفية

من أشهر أعماله كتابه الضخم "الخطاب الفلسفي للحداثة" ، والذي يُعد من أهم الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة، وفيه يستعرض تاريخ الحداثة الغربية على المستوى الفلسفي طيلة مائتي عام من خلال جوانبها السلبية والإيجابية، وفيه يرد - في حوار فلسفي- على الفلاسفة المعاصرين أمثال ميشيل فوكوه وجاك دريدا، ويحاول تأصيل الحداثة ابتداء من كانط وهيجل ونيتشه وهيدجر ثم يعرض لنقد الحداثة عند كارل هوركهايمر وأدورنو، ثم يعرض في النهاية لنظرية خاصة به تسمى نظرية "العقل التواصلي" أو نظرية في الاتصال تقوم على العقلانية.

لكن قبل أن نعرض لأهم القضايا التي يحتويها الكتاب لابد أن نحدد المفهوم الفلسفي للحداثة كما يرى "هابرماز"، فالحداثة الغربية - في رأيه - هي تطور المجتمع الغربي وانتقاله من حالة الاعتماد على الماضي كمعيار للحكم على الأشياء إلى الاعتماد على العقل كمعيار ينبغي على كل شيء أن يمتثل لحكمه، وهذا التطور لم يحدث بشكل منفصل عن سيادة مبدأ الفردية، بحيث أصبح الفرد بخصوصيته هو الأساس وليس الجماعة، بالإضافة إلى مبدأ حق النقد، بمعنى أن الفرد حر في عدم قبول إلا ما يراه مبررًا، وعلى ذلك فالحداثة مرتبطة بالعقلانية الغربية والديمقراطية وحرية التفكير. ويرى "هابرماز" أن هيجل أول منظر لهذا الاتجاه، الذي اكتشف المبدأ الجوهري للأزمنة الحديثة، ورصد ولادة عصر جديد، والأزمة التي تكتنف الحداثة الغربية وجعلت لها نقادًا مثل أدورنو وفوكوه ودريدا. إن الفرد في المجتمعات الغربية على الرغم من القدر الهائل الذي حققه من الحرية على المستوى الشخصي في استقلال إرادته الأخلاقية، وعلى مستوى الدائرة العامة للمجتمع، إلا أنه يشعر في الوقت ذاته، أنه يعيش مغتربا، عن نفسه نتيجة لاغترابه عن البنية الاجتماعية والسياسية التي ينتمي إليها. فالفرد في الماضي كان يشعر أنه جزء من كل، أما اليوم فانكسرت هذه الوحدة، وأصبح الفرد يشعر بالتناقض بينه وبين الدولة، نتيجة لاختفاء الأسطورة والفن من الحياة المعاصرة، ولذلك تسعى الأعمال الفنية التي تنتمي للحداثة أن تعوض هذا بالتعبير عن الكيان الداخلي للإنسان وتمزقه واغترابه، وبدأ نقد أدورنو وهوركهايمر لهذا في كتابهما "جدل التنوير"، بينا فيه أن العقل الغربي تحول إلى أسطورة ينبغي نقدها كما تتمثل في أبنية المجتمع، وبالتالي لابد من النقد السياسي والاجتماعي لإنقاذ الإنسان، واعتبر أن الفن هو الوسيلة الوحيدة للتحرر الذاتي من أسر العلاقات الاجتماعية التي تهيمن عليها القيمة التبادلية للسلع.

هذه صورة مبسطة لنقد الحداثة لدى "أدورنو"، ولكن "ميشيل فوكوه" لا يقدم نقدًا للعقل الأدواتي الذي تحول لأسطورة، وإنما يبين أن العلوم الإنسانية نفسها استخدمت مثل علم النفس، علم الاجتماع، علم السياسة، علم الاقتصاد للسيطرة على الإنسان، ولم تعد هذه العلوم تعمل في خدمة الإنسان، وإنما تتبنى الخطاب السائد في كل مرحلة تاريخية لتمارس الهيمنة، ولذلك فإن نشأة هذه العلوم ارتبطت بحاجات السلطتين السياسية والاجتماعية في فهم الإنسان وردود أفعاله تجاه الأشياء والموضوعات، وقدم "فوكوه" أمثلة تؤكد هذا من خلال تحليله لتاريخ الجنون ومؤسسات السجون، التي تستمد تعريفاتها من هذه العلوم الإنسانية، وبالتالي فإن تهميش إنسان ما وعزله هو نتيجة لتوصيف هذه العلوم، واستخدام السلطة لهذا التوصيف في ترسيخ خطابها المعرفي. وبذلك كشف "فوكوه" القناع عن العلوم الإنسانية، وبين أنها ليست بريئة، وإنما أداة، مثلما كشف عن القناع الإنساني الذي ترتديه المجتمعات الغربية تجاه شعوب العالم الثالث لتنتمي إليها وتدمر حولها. وقد أورد "هابرماز" كل هذا في كتابه لكي يرد عليه، في أشهر حوار فلسفي في السنوات الأخيرة، فبين أن "فوكوه" يعزل سياق خطاب الحداثة عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة، ويدرس الخطاب الفلسفي للحداثة من خلال علاقاته الداخلية واللغوية فحسب دون الإشارة إلى الشروط التاريخية والاجتماعية التي تنتج هذا الخطاب المعرفي الواحد، وهذا الخطاب متعدد، بينما رؤية "فوكوه" اكتشفت جانبه الأحادي فقط، وبالتالي ركز على خطاب واحد ضمن خطابات متعددة، فكل مجتمع هو ثقافات متعددة، صور مختلفة للحياة متراتبة، وليس ثقافة واحدة، والدليل على ذلك أن "فوكوه" استطاع أن يتجاوز الخطاب المعرفي السائد ويقدم نقدًا له، وقد بين "هابرماز" أن فوكوه قد اكتشف ذلك شخصيا، وانتقد نفسه عام 1980، وبين أنه ينبغي أن نهتم بوسائل السيطرة قدر اهتمامنا بردود أفعال الذات الإنسانية وموقفها من مشروع السلطة للتطبيع والتدجين. ويريد "هابرماز" من نقده لـ "فوكوه" أن يجعله ضمن الحداثة الغربية التي تدافع عن العقلانية والتقدم، وليس من تيار مضاد للحداثة، من خلال الاستفادة من نقده للحداثة، ولكنه يأخذ عليه إغفال انتقال الشرعية الدستورية من الملوك إلى الشعوب، وتشكل دولة القانون بكل مؤسساتها التشريعية التي تعتبر ثورة حقيقية في تاريخ الحضارة الغربية.

مستقبل التفكير الفلسفي

في دراسة لـ "هابرماز" بعنوان (ما فائدة الفلسفة؟) تحدث عن صورة الفيلسوف في عالم اليوم، التي لا تكون ذات فائدة لو انحصر الفيلسوف داخل حدود الجامعة والأبحاث فقط، وإنما على الفلسفة استيعاب الموضوعات التي يطرحها عصرنا بكل إشكالياتها، والتفكير الفلسفي يمكنه الاستمرار إذا مارس النقد الجذري لعناصر الواقع الاجتماعي، وهذا النقد يجعل المجتمع يراجع نفسه باستمرار، وبالتالي يبحث عن وسائل وطرق جديدة لتحقيق أحلام الإنسان. واهتم "هابرماز" بعلم الألسنيات المعاصرة، واستفاد من إنجاز شومسكي بإقامة نمط من الروابط بين الألسنية الوظيفية، علوم اللغة من جهة، والدراسات الاجتماعية والنفسية من جهة أخرى، لكي يصل إلى أن اللغة لا تشكل انعكاسًا بسيطًا لما هو واقع فحسب، ولكنها بناء تنظيمي يحتوي على رؤية شمولية للعالم، وأن أسس قواعد اللغة في بعض أشكالها الحية، أي كما تمارس في الحياة اليومية، وكما تمارس كوسيلة في أدوات الاتصال، ترتبط بشكل عميق بفعل الممارسة داخل الواقع المعيش. وقد ركز هابرماز على انبثاق نمط من المعارضة داخل اللغة من خلال دراسته لبعض النصوص الأدبية التي تحمل نبرة مخالفة لما هو سائد، ولذلك يربط "هابرماز" بين الحداثة الفلسفية والحداثة الأدبية التي بدأت ببودلير ثم ارتبطت بجماليات التلقي للعمل الفني. والفن بذلك يواجه الدعاية - والإعلام التي تعتبر وسيلة من وسائل هيمنة الدولة ومؤسساتها البيروقراطية بحيث تسهم في تكوين رأي عام يوازي أهدافها على الدوام ولا تسمح الدولة للرأي العام بأن يتعارض مع برنامجها ومشروعها العام في السيطرة، وذلك من خلال خلق مثيرات للوعي الجماعي والفردي بحيث يظل يدور في نفس الدائرة المرسوم له سلفا أن يدور فيها.

الفكر العربي والحداثة

إن الحداثة المعاصرة ليست حركة فكرية أو ثقافية فحسب، وإنما هي إنجاز اجتماعي وسياسي يتمثل في تحقيق الشرعية الدستورية للفرد التي تضمن مشاركته الفعالة في الحياة السياسية، ولكن الكتابات العربية عن الحداثة، تأخذ الحداثة كمفهوم فكري أو أدبي وتغفل بعض جوانب الظاهرة، بينما نجد الحداثة الغربية هي عبارة عن كفاح وصراع قامت به الذات الأوربية من أجل الانتقال إلى وضع أكثر تلاؤمًا مع روح العصر الجديد الذي نعيش فيه، وهذا يعني أن الأسئلة المطروحة على العقل العربي مختلفة عن تلك التي يطرحها العقل الأوربي بعد إصابته بخيبة الأمل في تحقيق ما يصبو إليه.. ومن الواضح أن الاختلاف لم يتحول إلى بنية فكرية وشعورية في العقل العربي بما يسمح بنقد الذات العربية لنفسها لكي تتطور، ولذلك تزدد في الحضارة الغربية ثلاثة مصطلحات هي الحداثة، ما بعد الحداثة، وموت الحداثة، وكلها تعبر عن صراع الثقافات والرؤى داخل المجتمعات الغربية التي تريد أن تفرد للإنسان مكانا يليق بمكانته، وتحقق بعض ما تريده من مشروعها الحضاري.. بينما لدينا.. نردد ما يقال دون أن نتبين خصوصية الواقع الذي نعيشه بملاحقه السياسية والاجتماعية. لم تعد الرؤية الجزئية لقضايا الفكر قادرة على تقديم أفكار حقيقية لتقدم المجتمع العربي، وإنما لابد من إدراك شمولي للأوضاع الراهنة لمجتمعاتنا التي لا تزال فيها موضوعات حقوق الإنسان موضع مناقشة وليست موضع التنفيذ. ولعل عدم انتشار النقد الفلسفي في صحفنا يرجع إلى أن النقد الفلسفي هو أكثر أنماط الفكر شمولية وجذرية، وبالتالي يضيق به الكثيرون، فعلى سبيل المثال انتقد "هابرماز" دور التليفزيون كأداة في تشكيل الوعي وتثقيف الحواس الجمالية لدى الإنسان، من أجل تطوير هذا الجهاز، ولا يزال التليفزيون في المجتمعات العربية أداة لسلب الوعي وتدمير الحواس وكل هذا مرتبط بديمقراطية أدوات الاتصال. ودراسة "هابرماز" تجعل كثيراً من الأسئلة تثار لدينا على نحو مُلح وفعال.

 

رمضان بسطاويسي