جلدك نظرة إليه وبعض متاعبه محمد الظواهري

عرض: الدكتور محمد المخزنجي

الجلد، ذلك الرداء الذي يلتف به الإنسان والحافظة التي تحتويه، مم يتكون وكيف يؤدي وظائفه وما هي أمراضه وسُبل الوقاية منها؟ أسئلة يطرحها هذا الكتاب الذي وضعه بالعربية أحد أساطين طب الأمراض الجلدية العرب.

منذ فجر التاريخ والطب لم ينفصل أبداً عن الحكمة. ففي مصر القديمة كان أبوالطب "أمحوتب " كاهناً، أي حكيما بمنطق تلك الأيام. وفي تراثنا العربي الإسلامي لم ينفصل الطب عن الحكمة أيضا، فالرازي وابن النفيس وابن سينا، جميعهم كانوا حكماء ذوي فراسة ورؤية.

الطبيب الحكيم

ومهما تقدمت تكنولوجيا الطب ووسائله العصرية تظل الحاجة ماسة إلى الحكمة الإنسانية لإدراك أمراض الإنسان إدراكا يتتبعها حتى الجذور، التي يثبت الطب المعاصر نفسه أنها أعمق من كونها مجرد تفاعلات مادة في جسد، فهي أيضا ارتعاشات نفس وتوتر روح.

ومن الرائحة العطرة لتزاوج الطب والحكمة لم يعد لدينا إلا آحاد من الأطباء العرب يشار إليهم بالبنان، بلغوا أعلى مراتب العلم بالمعنى المعاصر ولم يتخلوا عن منابع الإدراك الروحي فصارت كشوفاتهم ورؤاهم الطبية نوعاً من الإشراق والتجليات التي لا يأتي بها سوى الطبيب - الحكيم.

ومن بين هؤلاء يأتي الدكتور محمد الشافعي الظواهري أستاذ أمراض الجلد الأشهر والذي نعرض لكتابه المؤلف باللغة العربية والموسوم بعنوان "جلدك نظرة إليه - وبعض متاعبه" والذي يقع في مائة وخمسين صفحة تتمازج فيها ألوان الصور مع نصاعة التعبير وتصبح أعماق أمراض الجلد دانية ببساطة لغة الحكيم الذي يكتب الشعر ويُكتب فيه الشعر.

تركيب محكم ووظائف شتى

يبتدئ الكتاب ببيان تركيب الجلد الذي ينم عن حكمة بالغة تتكشف في استعراض طبقاته الثلاث: البشرة، والأدمة، والطبقة الشحمية.

فالبشرة المعرض سطحها للاحتكاك بالعالم المحيط بالإنسان لا بد من تجددها، لهذا تنبع من صف محكم من الخلايا المتراصة التي تعطي إلى أعلى طبقات من خلايا تظل تتلاشى أنويتها حتى تغدو عند السطح بلا أنوية مما يسمح بتآكلها لتحل بمكانها طبقة جديدة. والبشرة يخضع سمكها للضرورة، فهي أسمك ما تكون براحة اليد وبطن القدم، وأرق ما تكون بجفن العين. وفي البشرة توجد الخلايا السحامية التي تنتج مادة الميلانين (أو القتامين) التي تمنح للجلد سمرته. وللبشرة توابع تشتق خلقيا من نتؤات داخلها. وهذه التوابع هي الغدد العرقية وبصيلات الشعر والغدد الدهنية والأظافر التي تتكون من طبقات متكاثفة من خلايا البشرة المتقرنة، تصنع صفائح تبدو غير ذات أهمية، لكنها في حقيقة الأمر تقوم بدور الحارس الأهم لأكثر أماكن الجسم غنى بنهايات الأعصاب، أي أطراف الأصابع.

والأدمة- طبقة الجلد الثانية- تحت البشرة، هي "الجلد الحقيقي" كما يسميها الكتاب، لأنها الغلاف المرن للجسد الإنساني، وهي لذلك غنية بالألياف، خاصة في طبقتها الشبكية، التي يكثر فيها الأبلاستين (المرن) في شكل حزم وكومات تزيد تماسك هذه الطبقة وتغني مرونتها.

أما الطبقة الشحمية - ثالثة وأعمق طبقات الجلد- فهي تكوينات من خلايا شحمية تتجمع في فصوص تفصل بينها حواجز من الألياف، وبهذه الحواجز توجد الأعصاب والأوعية الدموية والليمفاوية.

فكأن فصوص الشحم وسائد طرية تحمي هذه الأوعية وتلك الأعصاب عند أي صدمة، إضافة لما تقوم به الطبقة الشحمية من دور العازل الذي يحافظ على درجة حرارة الجسم الداخلية.

من الدفاع إلى الإمداد بالفيتامينات

هذا التركيب المحكم للجلد إضافة لارتباطه بها يؤديه من وظائف تركيبية، فإنه يقوم بوظائف أخرى أولها أنه خط دفاع متقدم ضد الجراثيم العابرة به أو المقيمة فيه، والتي لا تتطلب في كثرة من الأحوال غير المحافظة على نظافته.

والجلد منظم للحرارة عن طريق إفراز العرق وانبساط أو انقباض الأوعية الدموية الموجودة فيه.

كما أنه مرآة للصحة والمرض يعكس أول صور أمراض الكبد والكلى وغيرها.

ويستخدم كهوية للإنسان عبر صورة البصمات التي لا تقتصر على الأصابع بل تشمل بصمة باطن القدم التي تؤخذ لحديثي الولادة، حتى يمكن تمييزهم والتعرف عليهم في مستشفيات الولادة.

ومن الوظائف غير الملحوظة للعامة، الدور المساند للكلى الذي يقوم به الجلد بإفرازه للعرق حيث يتم التخلص من بعض المواد الضارة كالبولينا. وأيضا يساعد الجلد على إمداد الجسم بفيتامين " د " عبر التعرض لضوء الشمس.

أمراض جلد عربية

وإذا انتقلنا من الجزء المعرَّف بتركيب الجلد ووظائفه، وتجاوزنا الفصل الكبير المعنون "لمحة عابرة على بعض الأمراض الجلدية" لأنه يخص أمراضاً شائعة تتحدث عنها المراجع العالمية، فإننا لا بد أن نتوقف أمام ذلك الفصل التالي المعنون "بعض الأمراض الجلدية التي لها صلة بوطننا العربي". ففي هذا الفصل يتحدث الدكتور الظواهري عن ندرة من الأمراض الجلدية التي تهم المنطقة وتكثر فيها، وملاحظتها تمثل جوهر خبرة هذا الطبيب الكبير الذي يذكر أن مولد بعضها في بلاد العرب، أو أنها تندر خارج البيئة العربية وتختلف في كثير أو قليل عن نظائرها العالمية في الشكل أو الصورة، تبعاً للمناخ أو التقاليد والعادات المتوارثة في أماكن ظهورها بكثرة. ومن هذه الأمراض:

* داء الفيل العربي (أو الفيلاريا): يتسبّب عن الإصابة بيرقات خيطيات الفيلاريا التي تنقلها بعوضة خاصة تلدغ الناس ليلاً، وتهاجر في الأوعية والغدد الليمفاوية وتستقر بها حتى تنمو وتصير ديدانا كاملة تسبِّب قروحاً أو التهابات أو تسد الأوعية الدموية، بسبب التليف الذي يعقب الالتهابات المتكررة، فتتورم الأنسجة المصابة ويكبر حجمها إلى درجة غير عادية كما يحدث في الساقين والصفن. وأهم طرق الوقاية من الفيلاريا هي التخلص من البعوض وتحاشي لسعه ليلاً، خاصة في منتصف الليل عندما تنشط اليرقات داخل البعوضة.

* القرحة الشرقية أو "ليشمانيا" الجلد: تنتج من طفيل ينتقل بلدغ بعوضة تسمى ذبابة الرمل أو الذبابة القاصدة التي تلدغ الوجه والأطراف فتظهر حبة تكبر إلى درنة تعلوها قشرة تصير صمغية، وعند نزعها تظهر تحتها قرحة سطحية تأخذ في التوغل. وعادة تنتهي الإصابة في غضون شهرين، لكن منها ما يمكث طويلاً. وهي تعطي مناعة، لهذا يلجأ البعض لتعريض الأطفال للإصابة في مكان غير مكشوف، حتى يمنحوا الوجه والأطراف مناعة في المستقبل.

* قرحة البادية (قرحة الصحراء): وهي مرتبطة بالمناخ حيث الجو الحار الجاف وتظهر على الأطراف وقد يصاحبها ظهور الحصف (الهاجم المُعدي) وقد تم التعرف على بعض أنواع البكتيريا مثل المكور العنقودي والسبحي كأسباب للمرض. وهذا ييسر العلاج كثيراً، لأنه متى تم تحديد الميكروب المسبب، كان العلاج ممكنا بإعطاء المضاد الحيوي المناسب.

* دودة المدينة: وتنتج من حبليات خيطية تنتقل مع مياه العيون والآبار الملوثة التي يعيش فيها برغوث الماء (سيكلوبس). وتلفظ الدودة اليرقات من الأقدام المصابة، ومن ثم تدخل أمعاء الشاربين وتخترق جدرانها، لتستقر وتنمو تحت الجلد بالساق أو القدم، فتظهر حبة سرعان ما تتحول إلى حوصلة تكبر إلى فقاعة تنفجر وتخرج منها اليرقات إلى الماء، لتنقل العدوى إلى آخرين. ويتضح من هذا أن علاج المصابين والحفاظ على نظافة الماء هما أساس تحاشي انتشار الإصابات بدودة المدينة.

تعريب وصور ومحاذير

إضافة إلى ذلك الباب السابق ذكره، والذي يمثل سمة خصوصية فارقة عن المراجع العالمية وإفادة موجهة لأبناء المنطقة، فإن الفصل الذي خصصه الدكتور الظواهري في نهاية الكتاب ويعالج ترجمة وتعريب مصطلحات طب الأمراض الجلدية يعتبر عطاء آخر في اتجاه "توطين" علم الأمراض الجلدية العربي.

أما ملحق الصور الملونة فيأتي في هذا المقام كضرورة قصوى في كتاب يتكلم عن الأمراض الجلدية، التي يمكن تشخيص الكثير منها بمجرد النظر Spot Diagnosis، ومن ثم تكون الصورة في كثير من الأحيان عوناً للأطباء الجُدد ووسيلة تشخيص توفر الكثير من الشروح والإطالة في الوصف.

ومن الملاحظ أن الدكتور الظواهري لم يأت على ذكر العلاج في مؤلفه هذا ولعل ذلك جاء توقياً لخطر إساءة استخدام العلاج من قبل غير المتخصصين وهو حذر واجب استدعى من المؤلف أن يفرد له باباً في الكتاب.

دين ودنيا وشعر أيضاً

على نسق مؤلفينا العرب في عصور الازدهار، جاء الكتاب العلمي محلّى برؤية الدنيا ورؤى الدين، حيث أفرد الدكتور الظواهري فصلاً عاطراً عما جاء متعلقاً بالجلد في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف.

ولم يخل الكتاب من أريج الشعر الذي يعالجه الدكتور الظواهري ويحب أهله. ومن بين أهل الشعر أورد الكتاب قصيدة للشاعر الكبير أحمد رامي، كلمحة وفاء نقتطف منها:

أنست إلى ظل الطبيب الظواهري
فبدّد أوهامي وطيّب خاطري
وساءلني ماذا لقيت من الضنى
وماذا دهاني من صروف المقادر
فأعربت عن دائي وعما أصابني
من الوهم في ليل بغير مسامر
فما زال يصغي لي وفي نظراته
بريق الأماني في ظلام الدياجر
ألا أيها الموهوب من قبس السنا
ذكاء كلمح النجم في عين ساهر
رُزقت من الرأي السديد فطانة
تدب إلى الداء الدفين المخامر.