هو .... هي إنها السعادة وليس العطاء

إنها السعادة وليس العطاء

في مساء كل يوم جمعة من كل أسبوع أبدأ في التفكير في يوم الجمعة التالي.

أفكر، ماذا سأعد لمحمود، إنه يحب الدجاج، وماذا سأعد لأحمد إنه يحب اللحم، وأتذكر أن نهلة تحب أطباق الحلوى من كنافة وبقلاوة. أبدأ في الإعداد لهذه الوليمة التي تجمع أبنائي وزوجاتهم وتضم بناتي وأزواجهن، تضم كذلك هؤلاء الأحباء الأعزاء إلى قلبي وعواطفي، أحفادي الكبار والصغار.

طوال الأسبوع أعد الأطباق بالترتيب حتى لا أنشغل عندهم يوم الجمعة الموعود، لذلك لا أشعر بالتعب أو الجهد الكبيرين.

لقد استمرت هذه العادة منذ أن تزوج ابني الأكبر، كنا معا، زوجي وأنا، نصمم على أن يأتي إلينا مع زوجته لقضاء يوم الجمعة معنا، كنا نجتمع حول مائدة الغداء، وكنا نشعر جميعا بكل سعادة، ثم تزوج الأبناء والبنات الواحد بعد الآخر والواحدة بعد الأخرى فتمسكنا بهذه العادة التي كانت تجلب لنا كل السعادة والرضا.

بعد وفاة زوجي صممت على أن تستمر هذه العادة الجميلة، قلت لأبنائي وبناتي أن يخصصوا يوم الجمعة وهو يوم الإجازة لهذا الاجتماع العائلي.

بعد وفاة زوجي انخفض دخلي، لم يعد ذلك الدخل المعقول، لكني أستطيع تدبير أموري المالية وتوفير المال اللازم لهذا اليوم، يعتقد أبنائي وبناتي أننى لم أعد أستطيع الإنفاق على مائدة يوم الجمعة من كل أسبوع، ويستمرون في تقديم اقتراحات أراها سخيفة وغير مقبولة مني، يريدون أن يتحملوا جزءاً من نفقات هذا اليوم.

لا يشكل المال اللازم لهذا اليوم أي مشكلة أو أزمة، في نهاية الأمر يمثل الدخل الشهري لي كما معقولا جدا، يكفيني ويزيد، هذا مقابل أني لم أعد أحتاج لذات الإنفاق القديم، فأنا لا أغادر المنزل كثيراً، لذلك لا أحتاج إلى تلك الأموال التي كنت أستهلكها في شراء الملابس والأحذية والحقائب، باتت احتياجاتي قليلة، كما أن مصاريفي النثرية لم تعد تذكر، ينحصر إنفاقي في المصاريف الثابتة. الإيجار والكهرباء والمياه، بالإضافة إلى أن غذائي لم يعد الغذاء القديم، أعتمد طوال الأسبوع على الألبان والخضراوات.

لذا يتحقق لدي فائض مالي شهري، وبدلاً من أن أقدمه لأحفادي في شكل هدايا، أفضل أن أقدمه لكل أبنائي وبناتي وعائلاتهم في هذا الشكل العائلي المحبب إلى قلبي، غداء يوم الجمعة من كل أسبوع.

هؤلاء الأحباء، يتصورون أنني أعاني ضائقة مالية بسب دعوتي لهم كل أسبوع، إنهم بلهاء، لو كان ذلك صحيحا لتقدمت إليهم بمحض إرادتي طالبة منهم العون والمساعدة، لكن ما دام الستر متحققا لي ولا أشعر بالحاجة، لماذا آخذ منهم شيئا، ألا يكفي كل منهم ما يتحمله من أجل عائلته؟

.. هي

كفاها عطاء

لم يعد في مقدوري أن أتحمل هذا الموقف العنيد والمتعنت الذي تتمسك به أمي.

منذ أن توفي والدي وهي تعيش بمفردها في بيتنا القديم، في البيت نفسه الذي تزوجت فيه، وفي البيت نفسه الذي أنجبتنا جميعا فيه. تنام في الغرفة نفسها التي ضمتها مع أبي لمدة تزيد على الخمسة وثلاثين عاما، لا تزال تحتفظ أمي بالصور التذكارية نفسها التي كنا نشاهدها وننظر إليها طوال فترات طفولتنا وصبانا وشبابنا. حتى قطع الأثاث لا تزال هي التي استعملناها طوال سنوات عمرنا.

توفي أبي منذ ما يقرب من عشر سنوات، حينذاك كانت أمي لا تزال في العقد الخمسين من عمرها، تستطيع أن تتحرك في البيت بصحتها، وكنا لا نقلق عليها كثيرا، كانت لنا بعض العادات العائلية التي احتفظنا بها بعد أن تزوج كل منا بدوره، بالرغم من تباعد المسافات بين بيوتنا وبيت أمي وأبي، فقد صمم الاثنان على أن يكون اللقاء العائلي المنتظم في يوم الجمعة من كل أسبوع.

في كل أيام الجمع وبشكل منتظم لا يمكن التنازل عنه كان البيت يضمنا جميعا، الأبناء وزوجاتهم والبنات وأزواجهن ثم الأطفال، كل الأحفاد حتى لو مرض أحدهم، نتوجه كلنا إلى تناول الغداء العائلي في بيت أبي وأمي.

كنا نشفق جميعا عليها من الجهد الذي تبذله من أجلنا، ولكنها كانت تقول إن ذلك الجهد أحد مصادر سعادتها، كانت تؤكد أن مجرد وجودنا كلنا حولها في هذا اليوم هو كل السعادة بالنسبة إليها.

حتى عندما مرض أبي ولازم الفراش كانت أمي تبذل جهدا في الإعداد لهذا اليوم، كنا نطالبها بالكف عن محاولة إرضاء كل فرد منا، ولكنها كانت تصمم على هذه العادة التي كانت دائما تقول عنها إنها عادة محببة إليها وتجلب لها السعادة والرضا.

ثم توفي أبي وانخفض دخل أمي، لكنها استمرت تلح علي الالتزام بهذه العادة، فكنا نستجيب لطلبها ونذهب جميعا محاولين التخفيف من العبء المالي الذي تتحمله، فكنا نقترح عليها أن نذهب ومعنا الحلوى أو الفاكهة أو أن يقدم إليها كل منا جزءا من التكلفة، لكنها كانت تصمم على أن تقوم هي بمفردها بدفع الثمن الكامل، بل كانت دائما تبالغ في كرمها فتزيد من أنواع الأطعمة.

حاولت بصفته أكبر الأبناء أن أعكس الوضع وأن أجعل يوم الأسرة في بيتي، ووافقت زوجتي على ذلك، فتقدمت بالاقتراح إلى أمي ثم إلى إخوتي وزوجاتهم وأزواجهن، وافقوا جميعا ما عدا أمي، انفجرت في البكاء وقالت إننا لم نعد أوفياء لبيت الأسرة القديم الذي ضمنا ونحن صغار، وشهد حياتنا بكل حولوها ومرها.

في النهاية اضطررت إلى الخضوع وأنا كاره لفكرة أن تستمر هذه الأم الحنون في عطائها المتدفق إلى آخر يوم في حياتها.

.. هو

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات