الكذب الأبيض.. والكذب الأسود عند الأطفال علاء غنام
ما بين الكذب والخيال عند الأطفال خيط رفيع رفيع، لكنه فارق بين عالمين من الصحة والمرض. وهذا المقال يكشف عن جذور وعلاج الشق المرضي.
طفل المدرسة لديه نزوع للكذب، وقبل تحليل هذه المشكلة سوف أستعيد كلمات الأديب مكسيم جوركي الذي قال:
كيف لا أصدق ما يقول؟ حتى لو شعرت أنه يكذب، سوف أصدق وأحاول الفهم، فالكذب أحيانا يفسر الإنسان أفضل من الصدق.
أسباب وأنواع الكذب عند الطفل متنوعة، فقد يعتبر مظهرا لانحراف سلوكي، وقد يعتبر حالة مرضية تحتاج إلى علاج نفسي متكامل، وهناك كذب طبيعي في سن معينة (الكذب الأبيض) وهو يعتبر مرضا في سن أخرى، على سبيل المثال: أطفال المدارس يحبون اللعب الخيالي بعيدا عن الواقع،وهم يجدون إثارة ومتعة في الخيال، ويعتقدون في مخترعاتهم الخيالية حتى يظن الكبار أن كذبهم قد حدث بالفعل، وهذا النزوع للكذب الخيالي عندهم مرتبط بعدم قدرتهم على ضبط خيالهم الخصب، وهذا النوع من الكذب بريء ولا يهدف لضرر أو مصلحة ويكمن في عواطف الطفل الجامحة، ولسهولة الإيحاء له فهو ينزلق في الفانتازيا بسهولة. وإذا ثبت هذا النزوع عند الطفل وأصبح عادة كالتدخين مثلا يجب النظر إليه باعتباره انحرافا سلوكيا وفي حاجة للعلاج.
من الهرمونات إلى الطموح
بعض الأطفال ينمو لديهم الميل للكذب حتى سن المراهقة ويرتبط بالعديد من الممارسات الأخرى بسبب النمو الهرموني والعقلي السريع للجسم، وبسبب رغبة المراهق في الاستقلال واكتسابه قيما غير واقعية تجعله يطلب الكمال، وينتقد الأبوين على واقعيتهما، وهذا وضع مؤقت في الأغلب، فالمراهق قد يرغب في جذب الانتباه، ولكي يحدث هذا الأثر يتخيل كل أنواع الروايات حتى يلعب فيها دور البطل، وعند ثبوت هذه العادة فالمراهق يأخذ في الكذب بشكل مستمر ودون تراجع. وتلك الحالة تصاحبها طموحات كبيرة وتقدير للذات ورغبة في الظهور وجذب الانتباه وهؤلاء الأطفال مصابون بنزعة طفولية وعدم نضج وجداني وهي تصيب الأولاد أكثر من البنات.
في الطفولة والمراهقة
والأطفال والمراهقون المصابون بنوع معين من الطفولة النمطية يعانون من الميل للكذب، وهم يكذبون في حماسة، كذبا للكذب ذاته، ويحدث ذلك بمتعة ولذة، فيصنعون قصصا وروايات لم تحدث أبداً، وعندما ينتهون منها ينسون تفاصيلها ولا يستطيعون إعادة سردها ثانية، لذا سرعان ما ينكشف كذبهم، ولكن هذا لا يزعجهم أو يشعرون بالخجل إزاءه.
الكذب التعويضي نوع آخر للكذب للكذب بين الأطفال، وهو يحدث كتعويض عن إعاقة عضوية أو اضطراب هرموني، وهو يحدث بين الأطفال شديدي الخجل القابلين للإيحاء المطيعين، وهم يكذبون دون محاولة للإخفاء أو التجمل، وكذبهم شائع، وعندما يكتشف يصابون بالحزن والتعاسة ويعدون بعدم الكذب ثانية ولكنهم لا يحترمون وعودهم.
وهم يكذبون على الأطفال الأصغر منهم سنا، حتى لا يكتشفوا كذبهم ويتعرضوا للسخرية، وهؤلاء الأطفال يفقدون احترام زملائهم مع تكرار كذبهم لأنهم ضعفاء عضويا، ضعيفو الإرادة، حالمون لا يتمتعون بالاستقلال، سهل تخويفهم، عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم، يحبون (الرغي) والمناقشات العقيمة التي لا تنتهي.
أنواع الكذب
قام الباحثون في هذا المجال بتقسيم كذب الأطفال لعدة أنواع، ويهدف التقسيم إلى تبسيط الشرح والوصول للأسباب، والواقع أن أنواع الكذب متداخلة، بل لا تحدث وحدها وإنما تكون في إطار أكبر من الانحرافات السلوكية التي تعبر عن خلل نفسي، فقد تحدث السرقة والعدوان والتزويغ من المدرسة من نفس الطفل الذي ثبت لديه الميل للكذب، فالجوهري في المشكلة ليس الكذب في حد ذاته ولكن الدوافع التي تحركه والأسباب الكامنة وراءه. وعلى أي حال فهناك الكذب الخيالي (في الطفولة المبكرة وهو كذب أبيض بريء في أغلب الأحوال)، والكذب الادعائي، والكذب الأناني المغرض، وكذب الانتقام، والكذب الدفاعي، وكذب التقليد، وكذب العناد، ثم الكذب المزمن المرضى وهو موضع الاهتمام.
قواعد علاجية
علينا أن نعرف أن الأمانة في القول أو غيره خصلة مكتسبة وليست فطرية، وهي لغة تتكون في المرء عن طريق التقليد والتمرين.
الكذب مجرد عرض ظاهرى، والأعراض ليست مهمة في ذاتها وإنما الأهم العوامل والدوافع النفسية التي تؤدي إلى ظهورها.
هناك استعدادان يهيئان الطفل للكذب: أولهما قدرة اللسان ولباقته، ولعل هذا يوافق ما كانت جداتنا يقلنه عن بعض الأطفال على سبيل المزاح، فكن يعتبرن أن الطفل الذي يخرج من الأسابيع الأولى لسانه ويحركه يمنة ويسرة سيكون في مستقبل حياته قوالا كذابا، وثاني هذين الاستعدادين خصوبة الخيال ونشاطه.
والوقع أن علاج الكذب في ذاته بالضرب أو السخرية وغير ذلك غير مفيد، وقد لاحظنا حالات كثيرة عابرة قام الأبوان فيها بعتاب الطفل في شدة، وهذا أدى لرد فعل عكسي، فالعمل مع الطفل الميال للكذب يحتاج إلى صبر وتحمل، ففي كل حالات الكذب المفرطة والدائمة، يلعب الوسط الاجتماعي الدور الحاسم في العلاج، الأبوان والمدرسون والزملاء، فهؤلاء يجب أن يكونوا على وعي بكذب الطفل ويجب أن يحاولوا فهم الدوافع المختفية وراء كذبه، فهذا الفهم سوف يساعد في حمل وتحجيم آثار المشكلة، والمفيد في كل الأحوال علاج الدوافع الأساسية التي دفعته إليها. كما يجب تجنب الظروف التي تشجع على الكذب كما لا يصح ترك الكاذب يفلت بكذبه دون مواجهة، ولأن الكذب أسهل الذنوب اقترافا وأولها حضوراً إلى ذهن الطفل، من هذا نشعر أن الطفل الذي يعترف بذنبه يمكن إصلاحه إذا علمنا أن قول الصدق يتطلب مقدرتين هما: حجم الإدراك ودقة التعبير، رأينا أنه في الإمكان تدريب الطفل في هاتين الناحيتين عن طريق تدريبه على القيام بالتجارب، العلمية البسيطة وكتابة المشاهدات والقياس وتدوين النتائج، كل هذا بمنتهى الدقة مما يعوده الصدق العلمي.
ونلاحظ أن هناك أبوين يكذبان باستمرار أمام أطفالهما مما يزرع تلك العادة الرذيلة في الطفل، فيفهم أن الكذب ضروري في الحياة، والواقع أن الكذب ليس وحده (زرع الأبوين) ولكن الشك والريبة والرغبة في العبث كلها مصاحبات للكذب ومثل هؤلاء الأطفال ينشأون تعساء في وسط مفكك، ضعفاء العزيمة، بدون سند معنوي وقيمي، ولا يحظون باحترام أحد.
في علاج حالات الكذب نحن نختار الأسلوب الملائم حسب نوع كل طفل وسماته العامة وظروفه العائلية وفهم دوافع كذبه، مستخدمين رؤية متكاملة تشمل الجوانب البيولوجية والاجتماعية والتعليم السلوكي، وعلى سبيل المثال، فالطفل، (الطفولي النزعة) سهل الإيحاء له، والطفل الطموح سهل تصحيح سلوكه إذا وظفنا طموحه وقدرناه، والطفل الخجول يحتاج لكثير من الدقة والحرص. ولكن في كل الأحوال يجب مواجهة كل كذبة وفهم دوافعها، فالكذب كذب لا أبيض ولا أسود.