نزهة في حدائق الواسطي

نزهة في حدائق الواسطي

يصور الفنان يحيى محمود الواسطي, عالما من الدهشة في رسوم مصاحبة لمقامات الحريري الذائع صيتها في الأدب العربي منذ القرن السابع للهجرة - الثالث عشر الميلادي - وفي هذه المقالة تصحبنا الفنانة في رحلة تستكشف فيها ذلك  العالم المكون من مفردات اللون والحرف.

لماذا الواسطي? منمنماته (اللوحات) تمتلك ميزات ذات قدرات عالية. وأسمح لنفسي بإعطاء صفة لوحات لما تتميّز به هذه الأعمال من متانة في التأليف, إن من حيث الكتل اللونية, أو علاقتها بالخط. هذه الأعمال تخطّت عصرها وتخطّت مفهوم المنمنمة من حيث إنها عنصر زخرفي عقلاني يطغى في بعض الأحيان على القدرات الابداعية التلقائية. إن الإطار الخارجي لتأليفاته, متنوع يلفت الانتباه لقدرته على الخوض خارج المألوف وهذا ما ساعده في إيجاد الحالة التشكيلية التي تؤدي الأمانة الداخلية لنصوص مقامات الحريري, دون المساس بالدور الحقيقي للون في أعماله, التي تعددت طرق التعبير من خلال هذه النصوص, فكان لكل نص تأليفه الخاص به: فأحيانا يكون ضمن مستطيل شبه مُقفل, حيث يترك لبعض العناصر من شجرة أو شخص أو زخرفة واجهة بيت أن يحد اللوحة. وأحيانا داخل دائرة مفتوحة أو بشكل حرف (ن). وأحيانا أخرى دون أي إطار نهائيا.

هذه التأليفات تتلاقى في بعض الأحيان مع تأليفات لكبار فناني القرن العشرين, أمثال بول كلي, Paul Klee حيث تشكّل بعضا من تأليفاته وكأنها تكريم لبعض من أعمال الواسطي.

وهذا ما سآتي على ذكره لاحقا, بعد عودتنا من نزهة في رحاب الواسطي. فعالمه غني بحيث يترك لمخيلته العنان, ولحدْسه اللوني الذي يصيبنا في صميم الانبهار الروحي, هذا الحدس الآتي من إبداعية متمكنة من كل شيء (إن في الرسم أو التلوين أو التأليف), جعلته يتمتع بحرية وارتجالية تعطي حيوية دائمة ودعابة, وبعض الأحيان عبثية في اللعب على المنظور. هذا كله يجعلنا لا نستطيع إغلاق الكتاب دون أخذ موعد عاجل لاحق معه.

وكم من مرة أتمتع برؤية لوحاته على الضوء الخافت الذي يحدد قوة الكتل اللونية قبل الولوج إلى ضوئه الموسيقي الرائع.

مكتبة البصرة

وحدة الكتب والقرّاء المتمثلة بعدم ترك فراغ لفناء القاعة, حيث أُعطي لأغطية الرأس البيضاء أن تقوم بفعل الفصل الخفر, وبالتالي يخلق حالة لونية فاتحة تكون بمنزلة صدى بسيط لكل هذه الكتلة الكبيرة من الألوان الغامقة, المتمثلة بالكتب وألوان الثياب. هذه الحالة التكاملية بين عناصر اللوحة تكون قد أدت دورها لجهة تبيان انغراس الناس بالحالة الفكرية في حضرة الكتب. هدوء, صمت, في ألوان الكتب المرصوفة بشكل عفوي تاركا الانطباع بأنها دائمة التداول. ويأتي دور الحوار في ألوان الثياب, حيث الأحمر يتوسط الأزرق والأخضر الغامق, حيث للحوار معنى الاختلاف التكاملي.

بينما لم يكن لحديث الأمغرين مع الأزرق المنحى ذاته, والكل في حضرة الأبيض: هذا اللون الركن الذي أعطى لكل المجموعة اللونية قيمة تأليفية وكأنها مفتاح الحوار.

موكب الحج

حركة متسارعة لكل من الأشخاص والجمال والحصان عُبّر عنها من خلال حركات الأيدي والعصيّ التي ينهرون بها الإبل, حركة الرايات, وتنوع اتجاه رءوس الجمال.

الفراغات الموجودة بين عناصر هذه اللوحة توحي وكأن الهواء يتغلغل بينها, وهذا عامل آخر للحركة.

من هنا نرى كيف أنّه تحاشى اعتماد الخطوط العمودية التي توحي بالثبات, وركّز على الخطوط المائلة والمنحنية ليعطي دفعا في المسير, وبالتالي استعان ببعض الكتابات بالخط الأحمر لكي يوفر لتأليفه حركة شبه دائرية. حتى أن لون الهودج المائل إلى الاصفرار المغرّي جاء ليخفف الثقل أثناء المسير. أما اتجاه الكتل الغامقة من أسفل اليمين إلى أعلى اليسار, فقد شكل خطا حاكى البوصلة في تحديد الاتجاه ودائما إلى الأعلى وإلى الأمام.

برقعيد يوم العيد

تراص الحوافر, تراص الرءوس وتراص وجوه الأشخاص: أوركسترا رائعة. كل شيء يوحي بالإيقاع الثابت المتماسك, المدروس. فرقة موسيقية, قائدها تلك الراية المائلة التي أعطت قيمة تشكيلية لكل هذه الأشكال المتلاصقة, في أهبة ورهبة لا  تكونان إلا في حضرة الموسيقى, كي لا يقع نغم واحد خارج الأذن القلبية.

هذه الراية بررت وجود خطين متوازيين (الأبواق), وأعطت معنى أقوى لهذا المستطيل من البيارق, المقسم بدوره إلى مستطيلات طولية انكسرت بحركة خفيفة لرءوس الاشخاص, ثم تلاها ترداد من خلال رءوس الأحصنة في الصفّين. ولكيلا يشكل رأس البغل نشازا جاء لونه غامقا, فأبقى على الخط المنتظم لأحصنة الصف الأول عن اليمين. أما حكاية القوائم هذه, فهي لحن هادئ متواتر يدغدغ العين بانتقال اللون من درجة إلى أخرى وتنتهي بانغلاقها على اللون الغامق (للحصان) الذي كان بدوره مقدمة لعزف مغاير.

قطعة موسيقية رائعة أثلجت القلوب بألوانها.

قطيع من الإبل

خطوط ملتوية حنون متبوعة بحركات لينة تؤلف كتلا متراصّة في وحدة تؤدي إلى حالة ابتهالية تتجلى في حركة الرءوس الشاخصة إلى أعلى.

هذه الحركات المرتكزة على خطوط عمودية ومنحنية بعض الشيء توحي بإيقاع نغمي. لتظهر قائمة الجمل الداكن المرفوعة نوتة مختلفة.

أمّا أزرق المرأة المرافقة للقطيع, فهو القيمة النغمية المغايرة ـ الركن, في اللوحة لباقي القيم اللونية الترابية.

ويبقى السؤال التشكيلي في هذه المنمنمة: كيف استطاعت هذه الخطوط (القوائم) حمل هذه الكتل اللونية المتلاحمة(باقي الجسد)?

ـ هل للإيحاء بالقلق الروحي, وبالتالي لتقوية الأداء الابتهالي?

ربما كانت هذه الخطوط التي تكونت إيقاعاتها هادئة تارة وأكثر الأحيان تقوى لتعطي بالتالي صعودا في السلم الموسيقي, مما يعطي قدرة تعبيرية أكبر وأعلى علّها تصل إلى مبتغاها.

حوار في القرية

للحوار عند الواسطي أبواب تمثلت بكل وجهات النظر إن كانت أبوابا واقعية أو حالات لونية أو درجات من الفاتح والغامق.

حالة تأليفية متماسكة للوحة تستطيع أن تدخل على تأليف للوحة من القرن العشرين بقوة, أو لنقل العكس (أي لوحات القرن العشرين يمكن لها أن تدخل على مثل هذه اللوحة).

تداخل العلاقات اللونية بين أعلى اللوحة ذات الغالبية الغامقة, والنصف السفلي المتميّز بالألوان الفاتحة هذه الحركة ذات القنطرة ترد على انحناءة القناطر الصغيرة في البيوت بخط منحن أكبر يتمثّل بجسر تسير عليه الماعز, وخط آخر لبردع الجمل المخضرّ. أما الحركة الحمراء فتبدأ انطلاقتها من ثوب الرجل الواقف في أقصى الشمال. هذا اللون يتوزّع أيضا بشكل انحناءة.

ولكن الأزرق شكّل مثلثا رأسه ينتهي عند قبة الجامع في أعلى اللوحة, أما الزاويتان الأخريان فهما عند المرأة التي تغزل ولباس رأس الرجل في أقصى الشمال.

هنا يستوقفني رأي لكاندنسكي في وصفه اللون الأزرق:

(الأزرق العمقي يشد الإنسان نحو اللانهاية, يوقظ فيه الشوق, الصفاء, والعطش إلى الماوراء. الأزرق هو اللون السماوي دون منازع...)

(المثلث هو كائن,... إن حركية وجهته يلعب دورا رئيسا...)

في هذه اللوحة اجتمع المثلث واللون الأزرق, الذي تنزه بحريّة في أرجاء العمل ثم ارتقى وغاص بعيدا من خلال القبة.

الرحلة التي ابتدأت جهة المرأة التي تغزل, والتي كسرت جمود الخط العمودي مع الحركة المائلة لمحمل الخبز في يد الخباز المتمايز بحديثه(الأحمر مع البني الغامق) عن حديث المرأة التي تليه ( الأزرق مع الخلفية) حيث يقوى التناقض. ثم يصبح الحوار جديا مع الخطوط الأفقية لحركة الأيدي والطاولة, ويبدو أن الغلبة للمرأة التي تبدو أكثر ظهورا وأكثر تضادا مع باقي الخلفية. وهكذا دواليك إلى نهاية الحكاية في تلك القرية, حيث يتنوع الحوار بتنوع الكتل اللونية وتبقى إيقاعات أصواتها معتدلة بالنسبة لإيقاعات كتل الأشخاص في القسم الأسفل من اللوحة, حيث إيقاعاته تقوى بسبب الخلفية الفاتحة التي هي لون الورقة..

حوارٌ كان يكسر في كل مرّة الخطوط العمودية ليخلق نوعا من الاستطراد وليخفف من حدية مثل هذه الخطوط, وكان ذلك مع المرأة التي تغزل ومع سطح البيوت, والديك والدجاجة وأخيرا استطراد النخلة المائلة التي شكلت مخرجا تشكيليا رائعا لعمودية الخط الأيمن الممتد من أعلى المئذنة.

(إن لم تستطع العين المتمرسة بعض الشيء أن تغوص في العمق, فلن تستطيع أبدا التجرد من السطح المادي لكي تحسّ الحيز المبهم..)

عندما نحاول ترك بعض التفاصيل جانبا ونغوص قليلا في الحالة اللونية لهذين العملين, تتجلي لنا الحالة التأليفية لبول كلي وكأنها منبثقة من الحالة الواسطية.

حالات لونية عديدة وكأنها حالة واحدة. ننسى التفاصيل, وننسى الأسماء ولا نعد نميّز الجمل من اللون الأصفر والرجل من اللون الأحمر.

نغوص وننسى, ننسى حتى النسيان.

(هناك...حيث الأشياء تقع نحو الأعلى وليس نحو الأسفل).

زاوية بيضاء مغلقةٌ باتجاه الفضاء ومفتوحة باتجاه القبر يشكّل الميت قاعدتها السفلى.

وزاوية مفتوحة باتجاه الحياة هذه هي زاوية كلي في هذا العمل.

(Planche29+ Hammamat 1914 aquarelle

في كتابه (La pensہe creatrice) يرمز كلي إلى الحركة التصاعدية, التي ترمز إلى الحياة وبحركة عكسية, التي ترمز إلى الموت.

توارد للأفكار?

ربما..

قراءة للتراث?

لمَ لا. خاصة عندما نعلم أن كلي أحب الشرق وسافر إليه واغترف من تراثه, (ولكن ليس من إشارة إلى قراءته للواسطي, القابع في المكتبة الوطنية في باريس).

ولكن مهما يكن فقد قُرئ تراثنا من الغير بجدية وعمق وحدْس, وهذا ليس إلا إشارة من إشارات القراءة السليمة من قبل الفنانين الأوربيين للتراث العربي. ولعلاقة كلي بالشرق حديث يطول ويُمتع.

 

فاطمة الحاج 






امتزاج الرسوم بالكلمات في مقامات الحريري التي زينتها ريشة الواسطى باللون والصورة





يوم الامتحان يكرم المرء أو يهان. هكذا صور الواسطى هذه اللحظة العصيبة





مشهد من المدينة العربية القديمة.  حديث من فوق الجمال وبيت له نوافذ متعددة يجمع كل اشتات الحياة





السيدة راعية الابل. القوة والسيطرة وهي تمسك العصا امام قطيع لايملك الا الخنوع





موكب الحجيج والإبل تخب سراعاً إلى بيت الله