فيرنر داوم... ومحمد الأسعد

فيرنر داوم... ومحمد الأسعد

كان أول أعمالي ترجمة القصص الشعبية اليمنية إلى الألمانية

التقيتُ به مصادفة كباحث ومنقب في تاريخ الحضارات القديمة. قبل ذلك كان د.فيرنر داوم معروفًا كسفيرٍ لألمانيا في دولة الكويت, ولم يخطر ببالي حين تعارفنا أن هذا الرجل الذي يجيد عدة لغات بما في ذلك العربية يمكن أن يكون أحد الباحثين في أعماق الحضارة العربية في العصرين الجاهلي والإسلامي. حدث اللقاء الأول حين دعت مكتبة قرطاس إلى ندوة خاصة يحاضر فيها د.داوم في موضوع المصاحف اليمنية المكتشفة في أحد مساجد صنعاء القديمة, والتي يرجع تاريخ كتابتها إلى بواكير العصر الإسلامي. وتبين لي أنه من المشاركين في دراستها منذ العام 1975, ومن المعنيين بالدراسات القرآنية, وإنه قضى في اليمن أكثر من عشرين سنة خلال عمله الدبلوماسي هناك. ثم عاد اسمه وقفز أمامي فجأة وأنا أقرأ كتابًا حديثًا يتناول حقلاً معرفيًا جديدًا هو الجذور الأفرو - آسيوية للديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية. ففي الفصل الأول من هذا الكتاب قدم مؤلفه (جون بالداك) ملخصًا لكتاب (بواكير الديانة السامية) لمؤلفه د.فرنر داوم. وهكذا وجدت نفسي مستثارا بالفضول المعرفي أسأل د.داوم: (هل هو مؤلف هذا الكتاب?) فكان هذا الحوار.

  • عرفت العالم الروماني كما لم يعرفه أحد من أهل إيطاليا
  • معظم أساطير الشرق القديمة جاءت من الصحراء العربية
  • لا أشارك إدوارد سعيد موقفه من الاستشراق..لقد تغيرت المفاهيم والأدوار القديمة

في البداية قدّم محاوري عددًا من كتبه الصادرة بالألمانية, الكتاب المشار إليه, وكتابين جمع فيهما قصصًا شفهية يمنية التقطها من ألسنة رواتها مباشرة, وكتابًا عن الحضارة اليمنية القديمة, وآخر في فن الأيقونات, ومجلدًا في فنون الزخرفة الإسلامية. ولم تكن هذه كما قال سوى جزء يسير من كتبه المنشورة.

  • هل جمعتَ كل هذه القصص بنفسك?

- نعم, وترجمتها إلى الألمانية. القصص الشعبي اليمني هو العمل الأول من نوعه والأخير ربما, لأنه من قصص التراث الشعبي الشفهي, ولا يمكن أن يجدها أي باحث اليوم. لقد انتهى العالم القديم الذي تداول هذه القصص تمامًا, وأنا الوحيد ربما من عثر على بضعة أشخاص من ذلك الزمن يحملون ذاكرة من هذا النوع في أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

  • ألم تفكر أن هناك موروثًا آخر مماثلا في المنطقة?

- أعتقد أنها الحكايات الوحيدة من نوعها في الجزيرة العربية, ولا مثيل لها في الكويت أو السعودية. في جنوبي عمان شيء منها إلاّ أنه متأثر بالقصص اليمني. وفي سوقطرة وبلاد المهرة يوجد امتدادٌ لها.

  • وماذا عن بلاد المهرة? هل جمعتَ شيئًا منها?

- لا.. لم آخذ قصصًا من بلاد المهرة, ولكن هناك بعثة نمساوية تجولت هناك قبل مائة عام وجمعت موروثًا قصصيًا يشبه تمامًا هذه القصص اليمنية.

  • ولديكَ هذا الكتاب عن الآثار اليمنية كما أرى?

- هذا الكتاب مازال يعتبر مرجعًا أساسيًا معتمدًا. إنه عن الحضارة اليمنية القديمة, وربما هو الوحيد في هذا المضمار, إذ يجمع بين مختلف الجوانب الثقافية: فنون النحت والمعمار والتقاليد واللغات والديانة. لديّ كتاب آخر عن الحضارة الألمانية, وأيضًا هو الأول من نوعه, وأخيرًا هذا كتاب يضم دراستي للأيقونات البيزنطية في بلاد البلقان.

  • بمناسبة ذكر الأيقونات, لاحظتُ أنها تستخدم في الكنائس الشرقية أكثر من استخدامها في الكنائس الغربية.. لماذا?

- لا.. هي خاصة بالكنائس الشرقية فقط. ويعود فن الأيقونات إلى أوائل العصر المسيحي, إلاّ إنه تطوّر مع الزمن ولم يبقَ على حاله. الفرق واضح لو قارنت أيقونات من القرن الثاني عشر بأيقونات من القرن الخامس عشر, الفرق في التصميم. الأيقونة لفظة يونانية تعني (صورة) أساسًا ولا مقابل لها في الإنجليزية, وقد حافظت الكنائس الشرقية على التراث اليوناني أكثر من غيرها لأن لغة الكتاب المقدس كانت اليونانية. في الغرب تطور فن الصورة على نحو آخر قاد إلى الفن التشكيلي الغربي الذي يغطي العالم كله الآن. الأيقونة ظلت فنًا شرقيًا, وحين نقول شرقيًا فإنما نعني فن فلسطين ومصر وسوريا, ومن هذه البلدان انتقل إلى روسيا وبلاد البلقان. والمكان الوحيد الذي يحتفظ ربما بأصول البداية هو دير القديسة كاترين في سيناء, وقد يكون هو الموطن الأصلي.

  • كتاب الحضارة اليمنية, وأعطيته عنوان (في بلاد سبأ) جاء بمناسبة معرض لآثار اليمن أقيم في ألمانيا قبل سنتين. شاهدتُ معرضًا مماثلاً أقامه المتحف البريطاني في سبتمبر 2002, ورافقه كتابٌ شبيهٌ بكتابك هذا.

- نعم, هذا صحيح, ولكن المعرض البريطاني هو في الأساس معرضنا الألماني, وتعاون معنا على جمع تحفه اليمنيون والفرنسيون والنمساويون, ثم انتقل إلى بريطانيا, وهناك وضعوا كتابًا جديدًا رافق المعرض لم يكن ترجمة لكتابي بل عملاً فكريًا مختلفًا, وهذا هو الاختلاف الوحيد, أما المعرض فهو معرضنا ولكن من دون اعتراف من قبل البريطانيين بهذا.

  • لاحظتُ أيضًا أن كتاب المتحف البريطاني يبدأ بسرد موسع لأساطير التوراة عن سبأ, ويضع التحف الأثرية من منظور التوراة, وربما آثار اليمن كلها.

- أنا تحدثت عن ملكة سبأ في الفن الملموس وفي الحكاية المتداولة, وشمل بحثي ملكة سبأ في الفن القديم وفي الفن الأوربي, إضافة إلى وجودها في الفن الإسلامي واليهودي والإثيوبي والفن المعاصر. هي حكاية واحدة عبر الأديان والتاريخ.

  • ولكن من وجهة نظر علم الآثار لم يثبت وجود ملكة باسم (بلقيس) حتى الآن.

- لا.. هي غير موجودة بهذا الاسم, الاسم جزءٌ من الأسطورة والتقاليد, وللتقاليد واقعها المختلف, ولا يوجد اسم (بلقيس) في القرآن الكريم, لأن هذا الاسم يوناني أصلا وانتقل إلى المعارف الشعبية في القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) لأن الذين كتبوا الفهارس والتاريخ العربي - الإسلامي درسوا في دمشق والإسكندرية والقاهرة في مدارس يونانية فنقلوا الاسم إلى العربية مما هو شائع من معارف شعبية في زمنهم.

مدخل إلى الحضارات

  • دعنا ننتقل الآن إلى كتابك عن الديانة السامية وجذورها القديمة. ما الذي دفع بك إلى هذا المجال? ومتى بدأت هذا الاهتمام?

- يعود اهتمامي بالعصور القديمة إلى أيام الطفولة. أنا درستُ في ألمانيا في مدرسة لم تعد قائمة الآن, ولكن أسس نظامها وُضعت في عصر النهضة الأوربية قبل 500 عام. ومدرستي هذه بالذات تأسست في العام 1524, ولم تتحول عن برامجها الأساسية. كانت مدرسة معنية بالكلاسيكيات شأنها في ذلك شأن أي مدرسة في مدينة ألمانية كبيرة.

  • هل تميّزت هذه المدرسة بشيء ما?

- تميزت بتعليم اللغات القديمة, وفيها درسنا وقرأنا عدة لغات, وبخاصة اللاتينية واليونانية القديمة, دراسة وقراءة معمقة لا سطحية, وهو ما مكنني من قراءة النصوص القديمة بلا ترجمة مثلما أقرأ اللغات الحية. فقرأت أعمال أفلاطون وأرسطو وأوفيد وفرجيل في لغتها الأصلية, أي أنني اطلعت على العالم الكلاسيكي في مصادره اليونانية والرومانية بلا وسيط. وكان لنا مدخل إلى اللغة العبرية أيضا. بالطبع كانت هناك دروس الرياضيات والفيزياء والعلوم الأخرى كما هي في المدارس المتخصصة في هذه الميادين. أضف إلى هذا دراستنا للغات حديثة مثل الفرنسية والإيطالية والإنجليزية. كان التركيز على اللاتينية واليونانية ليس بوصفهما مدخلين إلى اللغات بل كمدخلين إلى الحضارات.

  • ألم تكن العربية ضمن هذه المداخل?

- لا.. وكمدخل إلى الحضارات التقينا بالحياة القديمة قبل 2000 سنة و2500 سنة مثلما نلتقي بما هو حي. كان أناس تلك الحضارات أحياء بالنسبة لنا. لقاؤنا بالفن التشكيلي اليوناني كان لقاء حيًا وحقيقيًا. وحين كنت أزور اليونان كنت أكتشف حقيقة هذا العالم وأعرفه أفضل مما يعرفه أهل اليونان أنفسهم. وفي زيارتي لروما خلال أيام الدراسة عرفتُ العالم الروماني كما لم يعرفه أحد من أهل إيطاليا. لقد فهمتُ شيئا: أن العالم لا يتغير والقضايا الحقيقية التي تعنينا هي ذاتها التي كانت موجودة قبل ألفي سنة. أسئلتهم آنذاك هي أسئلتنا نفسها, وما يختلف هو الأجوبة. وعرفتُ شيئا آخر: ألا أقبل كل ما أقرأ. كان النقد واجبا يحتل المرتبة الأولى, ليس كل ما يقال أو يُكتب أو ينقل صحيحًا. هذا المفهوم تعلمناه من النصوص اليونانية. فحين سأل أناس سقراط شرح ماهية الحياة بعد الموت, سألهم عن مفهومهم هم للحياة والموت. كان سقراط يردّ بسؤال إضافي حين يُسأل, فيوضح للسائلين أنهم لا يعرفون شيئًا, وأنهم يصدقون كل ما يقال لهم. هذا هو الأصل.

بعد ذلك درستُ مادة الحقوق, وامتلكت هذه المادة تأثيرًا في تفكيري, وركزت على القانون الروماني. وحين انتقلت إلى المرحلة الجامعية بدأتُ بدراسة العربية. وهنا انفتح أمامي عالمٌ جديد, ورأيتُ أيضًا أن هذا العالم قريب منا.

  • كيف? وبأي معنى?

- مثلما رأيتُ في عالم اليونان والرومان, كنت قادرًا هنا على رؤية ما يشبه أفكارنا وتقاليدنا. هنالك بالطبع بعض القضايا السطحية المثارة في العالم العربي والإسلامي اليوم والتي لا أفهمها أو لا أفهم ضرورتها, ولكن هذه القضايا لا تعطيك صورة هذا العالم الحقيقية, أو لا تمنحك فكرة عن الأصول. إنني أجد الأصول والصورة الحقيقية عن طريق الحياة في قرية عربية في سوريا أو مصر أو الجزائر. وعن طريق هذه الحياة في المكان العربي اكتشفتُ هذا العالم, واكشتفت أن لا فرق بين العالم العربي الحقيقي والعالم الأوربي الحقيقي.

  • في الجذور?

- طبعا, في الجذور. الحياة في اليمن كانت الخطوة الأولى في تطوري الفكري, فهناك درست اللغات اليمنية القديمة, وبخاصة السبئية القريبة من العربية مع بعض الاختلاف. ودرستُ خلال فترة العشرين عامًا الآشورية وفنون وادي الرافدين أيضًا. وظل الشرق موضع اهتمامي الدائم.

  • جمعتَ في كتابك بين ما اكتشفته من تقاليد دينية كانت شائعة في اليمن في العصر الجاهلي وبين التقاليد الدينية التي عرفتها المنطقة بعد ظهور الإسلام, هل تعتبر الأولى نوعًا من الأصول الغارقة في القدم لما أصبح شائعًا ومعروفًا وقد اتخذ أشكالاً جديدة وربما مضامين جديدة?

- درستُ في البداية القصص الشعبي الذي جمعته واكتشفتُ أن حوالي ثلثيه قصص ديني ظل متداولا مشافهة طيلة أكثر من 1500 عام تقريبًا, ثم انعطفت إلى التقاليد التي تمارس في اليمن مثل الحج إلى مكان معين, وإقامة الأعياد شبه الدينية في 15 رجب وفي 15 شعبان سنويا, وتتطابق تواريخها مع أوقات يكتمل فيها القمر ويصير بدرًا, وربطت بين القصص وهذه التقاليد, وخرجتُ بنتائج قبلها المختصون بهذا المجال.

القصص كانت نصوصًا غير مكتوبة لهذه التقاليد, وهي تقاليد ترجع إلى العصر الجاهلي بلا أدنى شك, مثل تقديم الأضاحي من البقر والغنم, والصيد المقدس.. وما إلى ذلك.

يضاف إلى القصص والتقاليد, هنالك نقوش سبئية وحميرية تتحدث عن تقاليد قديمة من ضمنها الصيد المقدس, وهو طقس يقام في أوقات معينة من السنة يقوم بمقتضاه الناس بمطاردة وقتل نوع من الوعول الجبلية المقدسة لديهم جلبًا للمطر ونماء المزروعات.

  • ما أسس المقارنة التي اعتمدتها?

- نحن ندرس العلاقات بين التقاليد والنصوص ونفهم تغيرها عبر الزمن والمكان على أساس أنها إعادة إنتاج يمارسها البشر وفق مفاهيمهم. هناك حقائق وثوابت في حياة البشر, ولكن صيغ التعبير عنها تختلف من عصر إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى. وفي ضوء تجربتي وخلفيتي في ميدان دراسة الكتاب المقدس, وهو ميدان واسع في أوربا, استخدمت أسسا وقواعد مقررة لكيفية التفسير والتأويل سمحت لي بالمقارنة وإدخال دراسة الديانة القديمة في اليمن في سياق دراسة الأديان الأخرى.

الملك الكاهن

  • أليس غريبًا أن هذا القصص الديني لم يُنقش على ألواح مثلما نقش اليمنيون القدماء بالخط المسند أخبار المعارك وبناء المعابد وتقديم القرابين في المعابد? لماذا لم تنقش هذه النصوص المهمة بالنسبة لأي مجتمع إنساني?

- سؤالك في صميم الموضوع مباشرة, وهو سؤال سأله كل الباحثين منذ أن بدأت دراسة الخط المسند ولغته قبل مائة عام. الجواب صعب. وردّي الشخصي, وهو ردُّ آخرين أيضًا, هو أن الدين في دولة سبأ كان ينقسم بين الخاصة والعامة, أو هو دين رسمي من جهة ودين شعبي من جهة أخرى. في المستوى الأول, مستوى الملك وبطانته, لم يكن هذا ملكًا فقط بل وكاهنًا أيضًا, واعتبر الدين على هذا المستوى من أسرار الطبقة الحاكمة لا يعرفه أحد سواها, فالملك هو الذي يقيم بمعرفته عيد رأس السنة, وهو الذي يقيم الصلاة ويخاطب الآلهة وفق نصوص لا يعرفها سواه أو الخاصة من بطانته, وبخاصة صلاة الاستسقاء وغيرها من الطقوس. ولأن هذه المعرفة مصدر قوة كما كان يعتقد فمن المنطقي إبقاؤها سرًا محجوبًا عن عامة الناس, أي بعدم كتابتها ونشرها وإبقائها شفهية.

على الصعيد الشعبي, كان الدين مشاركة بطقوس, فالشعب يحتفل بالعيد ويمارس الحج والصيد المقدس وهو يعرف العموميات لا التفاصيل ولا الأسباب الموجبة. أو هو باختصار لا يمتلك مصدر القوة, أي النصوص المقصورة على من بيدهم أموره.

هناك ردٌّ آخر على سؤالك, ويقول به آخرون أيضًا, وهو أن لا أحد يعرف لماذا لم تُنقش هذه النصوص, بل ويعتقد هذا البعض أن اليمنيين القدماء لم يعرفوا الدين أصلاً.

  • في مسألة الصيد المقدس قلت في كتابك أن صيد الوعل المقدس يرمز إلى صيد إله, ترى كيف يمكن تفسير أن يفكر القدماء بذبح إله, ولو رمزيًا, مع كل ما تحمله فكرة الألوهية من تقديس واحترام? أليس هذا أمرًا شاذًا أيضًا?

- في كل الأديان السامية القديمة يموت الإله أو يُقتل ثم يعود إلى الحياة مرّة أخرى, بالطبع, قد يكون مصدر هذا الاعتقاد ما شاهده الإنسان من أحوال تلمّ بالطبيعة من حوله, يحلّ القحط والجفاف وتموت الخضرة أو تموت الطبيعة, ثم وعلى رغم هذا الموت يجيء الربيع طالعًا من تحت الأرض (أرض الأموات التي لا يرجع منها أحد) وتعود الحياة إلى سابق عهدها, فكيف يفسر أو يشرح هذا اللغز, هذا السر, ويفهمه? من هنا يجيء التفكير بأنه لابد من وجود قوة ما يمثلها إله يموت ثم ينبعث مجددا. ونجد مثال هذا في (أدونيس) في سوريا و(تموز) في العراق, وكل هذه التفسيرات منصوص عليها في نصوص الحضارات السامية القديمة.

  • هذا تفسير رائج منذ زمن طويل, ولكن مع اكتشاف أسطورة تموز وعشتار البابلية في أصلها السومري المسماة (هبوط أنانا إلى العالم السفلي) التي يموت فيها (دموزي), تبين أن ثمة إساءة تفسير حدثت, فقد ظهر أن (دموزي) كان مجرد زوج لأنانا التي هبطت إلى العالم السفلي (أي ماتت) لسبب غير واضح, واقتضت إعادتها إلى الحياة الإتيان ببديل لها, وهكذا خرجت, بشرط أن ترسل بديلا يحل محلها في عالم الأموات, ومعها شياطين العالم السفلي لأخذ من تراه يستحق الموت, وفي طريقها صادفت ملوكا وكهنة حزنوا على غيابها فتركتهم في حالهم, إلى أن وصلت إلى قصرها فوجدت (دموزي) لاهيا فرحا بالرغم من غيابها وموتها, فأمرت الشياطين بأخذه إلى العالم السفلي, فطاردوه, وبعد مغامرات تمكّنوا من قتله. ألا تغير هذه الأسطورة الكثير مما اعتدنا على أخذه مأخذ المسلمات حول فكرة موت وانبعاث الإله في الديانات السامية القديمة?

- إن لديك معلومات تفصيلية. أنا شخصيًا لا أملك معرفة دقيقة بالأساطير السومرية. وحتى نصوصها ليست كاملة, قصة (أنانا) لا تشبه كما أرى قصة (عشتار). بالطبع في عصر الأسرة الثالثة (2050 ق.م) تقريبا تمت ترجمة قصة (أنانا) إلى الإلهة البابلية الجديدة الأكدية (عشتار), ولكن مع اختلاف بين الاثنتين, ونحن لا نمتلك قصة هذا التحول خلال ألف عام, أي ما بين 3000 ق.م و2000 ق.م. في كتابي لم أهتم بأنانا مطلقًا, فأنا لا أعرف ما العلاقة بين الاثنتين, ولا التطورات التي أحدثت هذا الانتقال من هذه إلى تلك. هذا بعيد عن موضوعي الذي ركزته حول الساميين, وعشتار سامية واسمها أكدي. الاسم نفسه موجود في اليمن ولكن بصيغة (عثتر) الأقدم من كل تغيير طرأ فيما بعد وحوّله إلى اسم مؤنث, تارة بصيغة (عشتار) وتارة بصيغة (عشتارة) ثم بصيغة الجمع (عشتاروت). ولعل وجود حرف العين في الاسم الذي ظل في جنوبي الجزيرة العربية هو دليل ألسني على أصل (عشتار) قبل أن ينقلب إلى (أشتار) في الأكدية. على أساس هذا التغيير يعتقد الكثير من الباحثين بوجود تحوّل من (أنانا) إلى (عشتار), ولكنني شخصيا لا أعرف بالتفصيل كيف حدث هذا. ولست راغبا في تناول هذه القضية مطلقا. لقد بدأت دراستي بالأكديين.

  • على ذكر التحوّلات الألسنية, صادفت كثيرا من العلماء الغربيين يدخلون تصويتًا على حروف الخط المسند الصامتة تعسّفًا. فأنا مثلا أقرأ الحروف أ.ل/م.ق.ة على أنها (آل مقة) استنادًا إلى التصويت العربي الأقرب إلى لغة المسند, فالآل لدينا يعني الربوبية, بينما يقرأها الغربي (إيل مقة) ويمضي شخص آخر مثل (ويندل فيليبس) الذي نقب في اليمن في الخمسينيات مسافة أبعد فيقرأها (إيلو موقو)....لماذا هذا النوع من التصويت?

- نحن لا نملك معرفة بكيفية تصويت الكلمات المكتوبة بالحروف الصامتة لأنه لم يُعثر حتى الآن على تسجيلات صوتية من العصر السبئي لسوء الحظ. ولكن بإمكاننا إجراء مقارنات, أولا مع لغات سبئية أخرى, فهناك اللهجات اليمنية الحية. قبل خمسة عشر عاما اكتشف باحث ألماني أعرفه في قرى يمنية نائية بين المرتفعات الجبلية لهجة غير معروفة حتى الآن لأنها لهجة مقصورة على النساء. الرجال هناك يستخدمون العربية, ولكن النساء في البيوت يستخدمن لهجة ورثنها عن الأمهات والجدات. ونحو هذه اللهجة هو نحو سبئي. فلا تقول المرأة (أنا كتبت) بل تقول (أنا كتبكا) و(أنت كتبكي). هذه اللهجة تساعد على فهم كيف كانت تنطق السبئية والحميرية إلى حد ما.

وثانيًا في السنوات العشرين الأخيرة عُثر في اليمن على رسائل منقوشة على أخشاب يرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الثامن ق.م والرابع بعد الميلاد, ظهر فيها لأول مرة استخدام الضمير (أنا) و(أنت) وهو أمرٌ لا يظهر في نقوش المسند التي تستخدم ضمير الغائب (هو) و(هم).

هذه الاكتشافات تساعد على فهم النطق, ولكن لاتزال هناك مشاكل مفتوحة بخصوص معرفة النطق الصحيح. أما في ما يتعلق باسم الإله (إيل مقة), يعتقد كل الباحثين بلا استثناء أن كلمة (إيل) تعني (إله), وأن الكلمة السامية هي (إيل) في البابلية والأكدية والأشورية, وفي العربية (الله), وهي ذات علاقة بمعنى الأول أو المبدأ الأول.

  • لاحظ عالم إيطالي أن قارئ اللغات القديمة عندما يقف أمام سطر مكتوب بالحروف الصامتة يقوم بتحريكه أو تصويته وفق قواعد تصويت اللغة العبرية بحجة جعله قريبا من الأصل, وقال إن هذا خطأ فادح. فلماذا برأيك استخدام التصويت العبري?

- هذا العالم هو غاربيني, وهو من الباحثين البارزين في هذا الميدان, وهو قال هذا فعلا, الحق معك, قد يكون في الأمر تعسف وخطأ.

أين أصاب إدوارد سعيد?

  • في الختام, كيف تنظر إلى الاستشراق بين الأمس واليوم, والألماني منه تحديدًا, بين عصر (جوته) وعصرنا الراهن?

- لا يمكن أن نتحدث عن الاستشراق من دون أن نذكر د.إدوارد سعيد. أنا شخصيا أعتبر لقاءاتي به أحداثًا مهمة في حياتي. لم ألتقِ به بصورة شخصية ولكن عبر محاضرات له في ألمانيا, وأحترمه كاتبا ومفكرا وبخاصة في كتابه الذي أحببته أكثر من كتبه الأخرى, وأعني به كتاب ذكرياته وليس كتابه (الاستشراق). ففي ذكرياته لقاءات مع عدد من المفكرين والسياسيين ومن الناس المجهولين, وهناك قصص لاشك أنها جواهر خالصة.

عن موقفه من الاستشراق, أنا لا أشاركه في موقفه هذا. قد يكون صحيحا إلى حد ما أن الاستشراق خدم القوى الاستعمارية في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا في الثلاثينيات من القرن العشرين, ولكن هذا كان جزءا من الأمر وليس كلّه, ودائما هناك مَن يكتب ويساهم في الحركة العلمية ويوظف كتابته ومساهمته في أغراض شائعة في عصره. ولاشك أن الدول كانت تستخدم المعلومات لأهداف استعمارية إنما هذا صحيح لفترة معينة. ما لا أجده عند د.إدوارد سعيد هو الروح التاريخية أو المفهوم التاريخي. الروح التاريخية هي التي تفسر, ولابد من فهم التطور والاختلاف بين عصر وآخر. مثال ذلك, نحن الآن لا نقبل تجارة الرقيق إطلاقا ونعتبرها جريمة, ولكن إذا عدنا إلى التاريخ إلى ما قبل خمسمائة سنة أو أبعد, فسنجد أن العبودية كانت من القيم المقبولة وجزءًا من التركيبة الفكرية للمجتمع ومسلماته. هذا ينطبق على الاستشراق. أيضا د.سعيد بحث في فترة معينة هي العشرينيات والثلاثينيات واستخلص مفهومه عن الاستشراق. من هذه الفترة حين استخدم الاستشراق لأغراض غير أخلاقية.

  • لأغراض سلطوية.

- نعم, سلطوية, وغير أخلاقية, أعتقد في المقام الأول أن هذا المفهوم لم يكن صحيحا بالنسبة لألمانيا في أي وقت لأنه لم يكن لدينا ظرف يناسبه. وهو أيضا غير صحيح فيما يتعلق بالاستشراق الفرنسي والبريطاني في الشطر الأعظم من القرن التاسع عشر. ففي هذا القرن كانت هناك حركة باتجاه فهم الدول الشرقية, وحين تم تأسيس جامعة لندن في العام 1823لم تُؤسس لتدريس العلوم الطبية والهندسية والجغرافية والأدبية فقط, بل كانت هناك أقسام للحضارات واللغات الشرقية. بالطبع كان الغرض تعليم الموظفين الذين سيذهبون إلى الهند والبلدان العربية, ولكن من معرفتي واطلاعي على أعمال الأساتذة في ذلك الزمن أعرف أن غرضهم كان فهم الحضارات, مثل الحضارتين الفارسية والهندوسية, ورأوا ضرورة تعليم اللغات لموظفي المستقبل, وهؤلاء الأساتذة هم الذين اكتشفوا ونشروا النصوص القديمة الضائعة في تلك المجتمعات, هذا صحيح إلى حد كبير في فرنسا وبريطانيا وإلى حد أكبر في ألمانيا.

  • لدي ملحوظة بسيطة, الجوهري في رؤية د.سعيد للاستشراق هو أنه إنشاء لصورة معينة للشرق, أو هو تأسيس خطاب مرجعي لكل مَن يود أن ينظر في أمر ما هو شرقي, ولكن هذا الخطاب خلق الموضوع الذي زعم أنه يستكشفه ليكون موضوعًا ملائمًا للهيمنة والامتلاك. وأضرب مثلا, حين تأسس صندوق استكشاف فلسطين البريطاني في العام 1865 وفي أول اجتماع عام للمؤسسين, حدّد أسقف يورك رئيس الاجتماع دافعه الأساس بقوله (إن هذا البلد ينتمي لي ولكم, إنه لنا أساسًا, وقد مُنح لأب إسرائيل بهذه الكلمات: امش في الأرض طولاً وعرضًا لأنني سأعطيها لك. ونحن معنيون بالمسير في فلسطين طولاً وعرضًا لأن هذه الأرض أعطيت لنا, إنها الأرض التي نشعر تجاهها بالشعور الوطني نفسه الذي نشعر به تجاه هذه الإنجلترة العزيزة التي نحبها حبًا جمًا).

ما أعنيه بهذا هو أن الاستكشاف الأثري ارتبط مباشرة بالسيطرة على الأرض, هذا خطاب علني ورسمي, وأعتقد أنه تعبير نموذجي عن (الاستشراق), استخدام المعرفة والسلطة معًا لإنشاء صورة, غيبية أو غير غيبية, تتيح استباحة الشرق والتحكم به.

النقطة الأخرى التي أحب إضافتها هي أن د.سعيد لم يتناول الاستشراق خارج إطار تاريخي محدد وجغرافي أيضًا, لقد استبعد الاستشراق الألماني مثلا من حقل دراسته, وركّز على البريطاني والفرنسي كنموذجين لظاهرة إنشاء الخطاب الاستشراقي.

- هذا صحيح, وأنا معك في هذا تمامًا, ليست لديّ معرفة بوثائق تأسيس صندوق استكشاف فلسطين, وكنت أعتقد من قراءة جزئية لأعماله أن الغرض كان دينيًا وليس سياسيًا, ولكن من المحتمل أن تكون محقًا, القرن التاسع عشر بالطبع هو قرن العلمانية, وقادت العلمانية إلى بحث علاقة الكتاب المقدس بالتاريخ ووضعته موضع تساؤل بشخصياته ورواياته. وأرى أن صندوق استكشاف فلسطين كان جزءًا من هذا النشاط الديني بغرض التعرّف على الآثار, أين قصر سليمان? كيف كان المعبد في القدس? على أي حال أنا معك في ما ذهبت إليه, وفي أن موضوع د.سعيد كان صورة الذات والآخر.

  • مع انكشاف صورة الشرق الواقعي, أي الفروع المعرفية أكثر عناية بالشرق الآن?

- تشمل الدراسة كل الميادين, والمفهوم السائد هو الدراسة المتعددة الأبعاد لكل ما هو تاريخي وفني معماري واجتماعي وسياسي, بما في ذلك قضية النخبة الجديدة في الشرق, وقضايا المرأة...إلخ. هذه الاتجاهات أراها جافة, إنها لا تستطيع تفسير الشرق الحقيقي لنا. الشرق ليس اقتصادًا وتجارةً وسياسةً فقط بل هو بشر وحياة إنسانية, وهذا المستوى بالنسبة لي أكثر أهمية.

  • الاهتمام بالعلاقات الإنسانية هو ذاته نظرة الشرقي إلى الوجود, وهو موجود في الفلسفات والديانات الشرقية التي تقيم وزنا للشخصي والإنساني على حساب المصالح والمنافع المجرّدة.

- أنا معك في هذا.

  • ويعلم فلاسفة الشرق أن العمل الصالح هو عمل يقصد به ذات العمل لا ثمرته المرجوّة.

- أنا معك تماما, ولا أجد هذا في الدراسات الحالية