أيّ تعريب نريد? سليمان إبراهيم العسكري

أيّ تعريب نريد?

في الفترة الأخيرة ارتفعت أصوات عدة تنبّه إلى أزمة التعريب, كما ارتفعت أصوات أخرى تعلن عن مشاريع طموحة للترجمة, وهي جميعًا مبادرة خير, وتعكس إحساسًا بوجود مأزق حقيقي تعانيه اللغة العربية إزاء الانفجار المعرفي في عالمنا الواسع.

  • الحفاظ على نقاء اللغة العربية لا يعني تحنيطها وإغلاق أبوابها أمام الجديد من المصطلحات للدخول في معاجمها
  • التعريب بألفاظ عربية عسيرة ومهجورة لا يؤدي للحفاظ على نقاء اللغة بل يصرف الناس عنها إلى الأيسر والأوضح
  • هناك جهود سابقة لابد من توظيفها في أي مشروع كبير للتعريب والترجمة حتى لا نبدأ دائمًا من الصفر
  • الاستثمار في الترجمة الآلية مجال لابد للعرب من الدخول فيه وتطويره للحاق بثورة المعلومات المتسارعة في العالم

مع كل التقدير لحسن نية هذه الأصوات أو تلك, فإن أهمية القضية تتطلب وقفات لمراجعة ملامحها, وتأكيدات على وجوب تضافر الجهود, وتكاملها, لخروج حقيقي من هذا المأزق.

(المعثكلة)!

سيتصوّر كثيرون أن ثمة خطأ في كتابة الكلمة السابقة, وكثيرون لن يذهب بهم التصوّر في هذا الاتجاه, لكنهم سيعتبرون الكلمة لغزًا أو معضلة لغوية.

أما القليلون, والقليلون للغاية, فهم الذين سيعرفون أن (المعثكلة) هي كلمة عربية تعني (البنكرياس)!, وبينما يستطيع تلميذ في العاشرة من عمره أن يعرف كلمة (بنكرياس), فإن كثيرين من أساتذة الطب سيندهشون عندما يكتشفون ما تعنيه كلمة (معثكلة), وربما يحتجّون أو يسخرون عندما يكتشفون أن الكلمة تستخدم في التدريس لطلبة بعض كليات الطب التي عرّبت التعليم الطبي.

هذا المثال الموجز, واضح الدلالة, وقد يلخص المفارقة بين منطقية المطلب وغرابة تحقيقه, في قضية شائكة مثل قضية التعريب, التي لا يماري أحد في أنها تشكّل أزمة من أوضح الأزمات العربية في المجال المعرفي, بل في مجالات الحياة المعيشية اليومية التي تتداخل في نسيجها أجهزة ومواد وبرامج ومفاهيم تطلبت التعريب أو تتطلبه.

وقبل أن نمضي مع (أزمة التعريب) في سبر بعض أغوارها, ومحاولة استشراف أفق لها, لابد من إزالة الالتباس المتعلق بالمصطلح نفسه, أي (التعريب). فالكلمة, حتى الكلمة, يمكن أن تدخل في متاهة نظرية بين الفرقاء في عالمنا العربي, بل في عالم اللغة العربية ذاتها.

تجديد أم تجميد?!

يقول د. محمد بلاسي في معرض حديثه عن (التعريب بين النظرية والتطبيق): (إن تبادل التأثير والتأثر بين اللغات قانون اجتماعي إنساني وإن اقتراض بعض اللغات من بعض ظاهرة إنسانية أقام عليها فقهاء اللغة المحدثون أدلة لا تُحصى, والعربية في هذا المضمار ليست بدعًا من اللغات الإنسانية, غير أنها تفرق عنها: ببراعتها في تمثّلها للكلام الأجنبي, عن طريق صوغه على أوزانها, وإنزاله على أحكامها, وجعله جزءًا لا يتجزأ من عناصر التعبير فيها).

من هذه المقدمة يحدد د. بلاسي مفهوم التعريب الذي يعني أن تتفوّه العرب باللفظ الأجنبي على منهاجها وطريقتها, ومن ثم يقصر التعريب على الكلمات الأجنبية التي دخلت العربية ويقسمها إلى أطوار ثلاثة, هي:

1- المُعرّب: وهو ما استعمله العرب الفصحاء من الألفاظ الموضوعة لمعان في غير لغتها, وقد اصطلح المحدثون من الباحثين على أن العرب الفصحاء هم عرب البدو من جزيرة العرب إلى أواسط القرن الرابع الهجري, وعرب الأمصار إلى نهاية القرن الثاني الهجري, ويسمّون هذه العصور بعصور الاحتجاج.

2- المولّد: وهو ما استعمله المولدون (وهم الذين ولدوا بعد عصور الاحتجاج) من ألفاظ أعجمية لم يعربها فصحاء العرب.

3- المحدث أو العامي: وهو ما عربه المحدثون في العصر الحديث وشاع في لغة الحياة العامة.

ويضيف الدكتور البلاسي: (إن الطريقة المثلى في نقل مدلولات المكاشفات الأجنبية والاختراعات العلمية والاصطلاحات في شتى المجالات, هي: ألا نلجأ إلى التعريب وهو أشدها خطرًا على لغتنا الخالدة إلا بعد أن نكون قد بذلنا الجهد في كل وسيلة قبلها, فالترجمة أولاً, فإذا لم يوجد للفظ الأجنبي مقابل عربي فاشتقاق ثانيا, فإذا عجزنا فالمجاز ثالثًا, فإذا عجزنا ننحت للكلمة لفظًا مركبًا من كلمتين يؤدي معناهما مدلول الشيء المسمّى, فإذا عجزنا نعرب اللفظ الأجنبي تعريبًا مطابقًا لقواعد اللغة وصقله وفق أوزان لغتنا ومنطق لساننا, حتى يشبه اللفظ العربي الفصيح, وبذلك نترك اللغة العربية للخلف من بعدنا كما تركها لنا آباؤنا الأولون)!

إذن الغاية بمنطق المتحدث هي (ترك اللغة للخلف كما تركها آباؤنا الأولون), وهنا مكمن الخطر الذي يمكن أن يؤدي إلى جمود اللغة بهدف الحفاظ عليها (كما تركها الآباء), وهو جمود سيحافظ على السياقات القديمة في متن الكتب المدرسية وقاعات التلقين الدراسي, فيصبح (البنكرياس) (معثكلة) و(البروستاتا) (موثة), بينما يذهب الناس إلى استخدام الأيسر والأقرب, وربما يؤدي الإفراط في التشدد اللغوي إلى التفريط في اللغة نفسها, وهو أمر نشاهده في الحياة اليومية العربية. وبين هذين النقيضين من الإفراط والتفريط تبرز سياقات أخرى من جدل التعريب, لعل أبرزها هو ما يتعلق بتعريب الطب, بين الراغبين فيه المؤيدين له, والراغبين عنه المهاجمين له. وهي قضية تلقي بالكثير من الأضواء والظلال على قضية التعريب وقضية الترجمة, معًا.

من أبرز المنادين بتعريب الطب, د. محمود المناوي أستاذ أمراض النساء والولادة وصاحب كتاب (أزمة التعريب) الذي سبق أن أشرنا إليه والذي أثار حوارًا واسعًا ولايزال.

يقول د.المناوي: (إن التعريب عكس التغريب, والفارق الظاهر للعيان بينهما (نقطة), إلا أنه في جوهره إما أن يكون اختراقا أو احتراقا. إننا إن استطعنا أن نصل إلى درجة التعريب الكامل, فسوف نخترق الثقافات الأجنبية السريعة التطور يومًا بعد يوم. وأما إذا لم نستطع أن نبلغ هذه الدرجة فإننا - لا مناص - سوف نحترق بتفوّق الأجانب علينا علميًا, وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تفوّقهم الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي بدرجة تجعلنا في عداد الدول المتخلفة, بحيث إننا لن نستطيع اللحاق بهم بعد ذلك).

فكأنه يرى أن نهوض العرب علميًا هو مسألة لغوية! وهو - إلى ذلك - يرى أن تمزّق العرب الفكري, إلى جانب الاضطراب الروحي في بعض أقطارهم, ومكانة الغرب في عقول المثقفين العرب, أضاع الثقة باللغة العربية. وأن (الثقة بالنفس أهم عامل في الإبداع والاختراع, والشعور بالنقص فضلا عن الانبهار الرحب بالغرب والإعجاب الأعمى بحضارته يعطل الإبداع ويضيع الثقة بالنفس).

ثم يضيف: (أتى على الأمة الإسلامية حين من الدهر تألقت في سمائها نهضة علمية زاهرة بلغت أوجها في عصر الخليفة المأمون (786-823م), حين أخذ المسلمون ينهلون من موارد العلم, ويترجمون الكتب الإغريقية والهندية والسريانية والفارسية, وينقلون إلى اللغة العربية مختلف الذخائر العلمية, وقد حمل لواء هذه الحركة العلمية العارمة - التي امتدت بعد ذلك بضعة قرون - عدد من العلماء العرب الأعلام قاموا بأروع الإنجازات العلمية وكتبوا أعظم المؤلفات, وأضافوا إلى هذه التراجم الكثير من مبتكراتهم).

الماضي وتضخيم دوره

كل ما سبق جميل, لكنه لا يخلو من نبرة مبالغة حماسية وتكريس للماضي, بل تعليق للحاضر على شروط الماضي, وتضخيم لدور اللغة - منفردة - في قضية النهوض العربي. لهذا تأتي اقتراحات الخروج من أزمة اللغة ومأزق التعريب: شكلية, وهو ما يلاحظه د.المناوي, نفسه, عبر قوله: (إن المؤتمرات المتكررة التي تتعرض لقضية التعريب, والتي تعقدها كل من جامعة الدول العربية والمجامع العربية ومنظمة الصحة العالمية والجمعيات الأهلية, أصبحت بمنزلة حائط مبكى يجتمع حوله المؤتمرون كل حين, فهل بعد كل هذا الجهد العظيم الذي قام به روادنا وأساتذتنا المجمعيون - وغيرهم - نجتمع كل عام لنذرف الدمع على قضية التعريب? وهانحن ننتظر أملا في أن يظهر لنا صلاح الدين من جديد لينفذ لنا ما انتهت إليه هذه الدراسات والبحوث القيّمة? والإجابة عن هذه التساؤلات تتلخص في كلمة واحدة هي (فلنبدأ) في العمل والتنفيذ قبل أن يتحوّل مشروعنا القومي والحضاري الخاص بالتعريب إلى مشروع يفرض علينا التغريب).

وإذ سألنا بماذا نبدأ? يكون رد د.المناوى: (إن ممارسة التدريس الجامعي والبحث العلمي والتأليف باللغة العربية هي السبيل الوحيد الذي يمكننا من تنفيذ تعريب التعليم العالي, إن معظم الأساتذة لا يعرفون شيئا عن المعاجم اللغوية والمعاجم العربية, وكانت حملتهم ضد التعريب بدعوى عدم قدرة اللغة العربية على استيعاب مصطلحات العصر وعلومه, بيد أن العلة ليست في اللغة العربية, بل فيمن لا يجيد استخدام اللغة وأساليبها في عرض الموضوع والمصطلح العلمي. ولذلك فقد صدر عدد من القرارات السياسية التي وئدت في مهدها لأنها تفتقر إلى وسائل التنفيذ والإيمان بضرورة تنفيذها).

في مواجهة ذلك هناك معارضون لتعريب الطب منهم د. نادر عبدالدايم أبو العطا أستاذ الجراحة الذي يقول في مقالة تحت عنوان (تعريب الطب....لصالح من?):

(إن تعريب العلوم عامة والطب خاصة يمثل نكبة خطيرة على مستقبل الطب), ورغم معرفته بأن اقتراح تعريب التعليم الطبي تتبناه منظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط منذ عام 1990 حتى الآن, فإنه يرى أن قصة هذا التعريب تبدأ من قطر عربي واحد وتنتهي فيه, وأن تعليم الطب باللغة العربية في قليل من الجامعات بالعالم العربي لم يثمر غير التأخر عن اللحاق بمستجدات الطب في العالم.

يقدّم د. نادر أبو العطا بعض أسانيده على فشل تعليم الطب باللغة العربية قائلا: (على مدى أكثر من 70 عاما في جامعة عربية اعتمدت تعليم الطب باللغة العربية وعلى مدى 16 عامًا في جامعة أخرى تبعتها, لم تستطع أي منهما منح دكتوراه واحدة. وكانوا يرسلون معيدي الطب إلى فرنسا وإنجلترا وأمريكا, وفي بعض الأحيان إلى روسيا والدول الشرقية, وفي بعض الأحوال كان يكتفى بعد الماجستير الممنوحة بالعربية بأن يقضي معيد الطب سنتين في تدريب عملي في دولة غربية ليعطى بعدها ما يسمى مجازة ويصبح مدرسا دون دكتوراه, أما إذا أراد طالب الطب الذي يدرس بالعربية مزيدا من التعمق أو التخصص, فهي الطامة الكبرى لعدم وجود مراجع أجنبية حديثة أو كافية أو دوريات أجنبية متعددة. وتوجد خلافات بين الكليات التي تدرس الطب بالعربية على أبسط الأسماء العربية للمصطلحات, ففي إحداها يتكلمون عن الهيموجلوبين والبنكرياس والبروستاتا, أما في الأخرى فهو الخضاب (الهيموجلوبين) والمعثكلة (البنكرياس) والموثة (البروستاتا), أما في المعجم الموحد, فالهيموجلوبين يدعى اليحمور أو الدمة والأطفال المبتسرون هم الخُدّج. وعلى طالب الطب الذي يدرس بالعربية أن يستذكر مصطلحين, عربيًا وأجنبيًا, لمسمى واحد حيث إن الاسم اللاتيني لجميع المصطلحات يكتب بجوار العربي).

معارضون بشدّة, ولكن....

وفي مواجهة المطالبين بتعليم الطب باللغة العربية يقول د. نادر أبو العطا: (لاشك أن الالتحام المستمر بالطب الأجنبي (أنجلو أمريكي, ألماني أو فرنسي) مهم جدا, والتعليم باللغة العربية سيضعف قدرات وفكر مبعوثينا ويقلل من استفادتهم لوجود الحاجز الفكري واللغوي, خاصة أن الأطباء عليهم قبل العمل في الخارج اجتياز امتحان معادلة صعب ودقيق باللغة الإنجليزية, تبلغ نسبة الرسوب فيه حاليًا 15 في المائة فما بالك بالنسبة بعد التعريب?).

وضمن أسانيده الرافضة للتعريب يقول د. نادر أبو العطا: (مما لاشك فيه أن أقوى دولة إسلامية هي باكستان (150 مليونا) والمنتجة لقنابل ذرية وصواريخ وغواصات, لكنها تدرس الطب والهندسة والعلوم بالإنجليزية لإيمانها بأهمية التقدم اللغوي في العلوم الطبيعية. أما إيران وهي دولة إسلامية قوية, فكانت طهران تدرس بالفارسية, ومازالت بينما كانت شيراز تدرس بالإنجليزية, ولذلك تفوّقت شيراز علميًا وأكاديميًا, وكانت مركزًا لتطوير التعليم الطبي على مستوى العالم في السبعينيات, وكذلك اقتنعت تركيا بالانفتاح على العالم, فغيّرت في عام 1992 لغة تعليمها الطبي إلى الإنجليزية). (وقد تنبهت فرنسا وألمانيا وهما من عمالقة الطب حاليا أن اللغة الإنجليزية هي لغة الطب العالمي, وأن مقالاتهم لا يقرؤها إلا القليلون, فبدأوا من 1992 في نشر المقالات بالإنجليزية مع ملخص بالفرنسية والألمانية. بل إن السويد بدأت في التدريس بالإنجليزية هي والنرويج مقتفية أثر الدنمارك في كليات الطب بها, وليس فقط في دورياتها الطبية, ولا ينكر أحد مدى اعتزاز هذه الدول الاسكندنافية بحضارتها ولغتها).

يرد د. المناوي - المؤيد بشدة للتعريب - قائلا: (يقولون في معارضة تعريب العلوم: إن تدريس العلوم بلغة أجنبية ضروري لرفع مستوى الطلبة فيها, ويحتجون بأن التعريب يحرم الطالب من التواصل المستمر مع مصادر تخصصه, وهذا مردود عليه, فالتعريب لا يعني بحال من الأحوال إهمال اللغة الأجنبية, بل في المقابل فإن التعريب, وبخاصة تعريب العلوم, يفترض استمرار التواصل باللغات الأجنبية على الطلاب والأساتذة, فمهما نقل عن ثراء العربية وطاقاتها وإمكاناتها الهائلة, فلا أحد يجهل أو يغفل الفرق الشاسع بين ما وصلت إليه علوم الحضارة الحديثة وتقنياتها وما حققناه نحن أو عربناه حتى اليوم من هذه العلوم).

وبخصوص مشكلة الكتب والدوريات والمراجع, والمصطلحات العلمية, يرى د.أحمد شفيق الخطيب عضو مجمع اللغة العربية المراسل من فلسطين (وهو من المؤيدين لتعريب تدريس العلوم) (إنها مشكلة واحدة مترابطة, وهي في الواقع مشكلة كل لغة وليست خاصة باللغة العربية. وإلا ماذا كان يقول الكوري والألباني والبلغاري....والإيراني والتركي والخمسون ثقافة التي كانت تؤلف الاتحاد السوفييتي السابق - وكلهم طبّقوا توطين العلوم واستنباتها بلغاتهم القومية بإمكانات لغوية ومادية وبشرية تتقزم أمام الإمكانات اللغوية والمادية والبشرية العربية. تعريب العلوم صعب, لكنه ممكن - ممكن إذا توافر له العزم والنوايا الصادقة والثقة بالنفس والهمم المؤمنة).

ولكي يعيد الذاكرة إلى العرب بأحد أهم أسباب إعاقة التعلم باللغة العربية - في رأيه - يقول: (وقد كان يرجى للغة العربية في هذا العهد أن تبلغ أعلى درجات الرقي لو أتيح لها أن تكون وتستمر لسان حال النهضة العلمية العصرية. ولكن سياسات الغرب الاستعمارية ما كانت تخطط لمثل هذا الانتعاش في مسيرة اللغة العربية - وقد أخذت تستوعب أسباب الحضارة ومتطلباتها العلمية بنجاح في القاهرة وبيروت - فما إن ثبت الاجتياح البريطاني أقدامه في مصر حتى عرقل هذه المسيرة - أولا بتحويل التدريس في مدرسة الطب إلى اللغة الإنجليزية عام 1887, بعد سبعة عقود من الإنجازات, ليس أقلها مصطلحيا قاموس الشذور الذهبية الذي ترجم قاموس القواميس الطبية الفرنسي لفاير, ثم أكمل البريطانيون إجهاض المسيرة تلك ثانيًا بقرار عام في 1889 بأن تكون لغة التعليم في مختلف المعاهد المصرية اللغة الإنجليزية.

فأغلقت مدرسة الألسن, ونفي رفاعة الطهطاوي ومؤيدوه إلى السودان, ووجهت البعثات إلى إنجلترا (بدل فرنسا وإيطاليا). وما هو إلا عام أو بعضه حتى حذا الأمريكيون في الكلية السورية الإنجيلية حذو البريطانيين, فتحول التدريس فيها, مع الأسف, من العربية إلى الإنجليزية بدءًا من عام 1890).

إعادة تقييم أم ضرورة تقويم?

لاشك في أن هذه كلها حقائق تاريخية لكنها لا يمكن أن تكون المبرر الوحيد لما وصلنا إليه في الحاضر, ثم هل يمكن استنساخ الماضي ليعيش في الحاضر الذي لم نبذل الجهد الذاتي للدخول فيه واللحاق بتطوراته العلمية والتقنية التي لم ننجزها بلغتنا? هذه هي المعضلة. ولعل هذا التساؤل يقودنا لمحاولة استكشاف الجهود العربية في التعريب لعلنا نحدد ما تستحقه من مواصلة الطريق, أو البحث عن دروب جديدة.

يرى د.كمال الدسوقي عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة أن المجامع اللغوية - منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى ومرحلة ما بين الحربين (في دمشق والقاهرة) وما بعد الحرب العالمية الثانية (بغداد وعمان) وحتى نشوء اتحاد المجامع اللغوية (1970) قد حققت أهداف قيامها على رعاية اللغة العربية وسيادتها.. في إصدارات قوائم مصطلحاتها, وإيجاد الكتاب العلمي المترجم أو المؤلف بلغة سليمة وإخراج جيد يقطع الطريق على التشكك والتردد, تضاف إلى ذلك جهود جامعة الدول العربية, في الشعبة القومية لليونسكو, ومكتب تنسيق التعريب في الرباط, ومنظمة العمل العربية ولجنة توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية. وهناك أيضا اتحادات الأطباء والمهندسين والمحامين والمعلمين العرب, ومجالس العلوم والآداب ومؤتمرات التعريب في الرباط (1961) والجزائر (1973) وطرابلس/ ليبيا وندوات أسبوع تعريب العلوم في المغرب (يناير 1963) وندوة مجلة الثقافة العربية للتعريب (1975) ومؤتمر تعريب التعليم العالي في بغداد (1978) والتعريب وقضايا اللغة العربية في التعليم الجامعي في الخرطوم (1979).

إن من يطالع كل هذه (الجهود), واتساع خريطتها الزمنية والجغرافية العربية, لابد أن يندهش, لا من كثرتها وحسب, بل من كثرتها التي تشير إلى تبعثرها وعدم إحداثها لتغيير ملحوظ في الخروج من أزمة التعريب ومأزق الترجمة, ومن ثم يكون البحث عن سبل جديدة للخروج أمرًا مطلوبًا مادامت الأزمة قائمة.

يقول د. دحام إسماعيل العاني في مقالة نشرها في مجلة مجمع اللغة العربية - دمشق: (مما لا شك فيه أن جميع الدول العربية لم تأل جهدًا في سعيها لدعم قضية التعريب ولم يقتصر نشاط هذه الدول على مجامع اللغة فقط, وإنما أنشأت مؤسسات أخرى منها على سبيل المثال - لا الحصر - معهد التعريب والترجمة التابع لجامعة محمد الخامس, مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية في بيروت, معهد المخطوطات العربية في القاهرة, ومؤسسة الكويت للتقدم العلمي في الكويت, ومراكز الترجمة والتعريب التابعة للجامعات في المملكة العربية السعودية).

لقد عقدت عشرات المؤتمرات والندوات واللقاءات.. وأجريت مئات الدراسات والأبحاث لتناول مسائل وقضايا التعريب في مختلف جوانبها, ومجرد حصر هذه الجهود يتطلب عملاً كبيرًا لتوثيقها مما يوحي بحجم وغزارة ما صرف نحو هذه الجهود من فكر وعمل فهل يعني ذلك أن هذه الجهود تمضي في طريقها الصحيح? لقد ظهر خلال السنوات والعقود الماضية في البلاد العربية - ومازال - الآلاف من الكتب العلمية المؤلفة والمترجمة إلى العربية - وبالرغم من هذه الجهود الفردية والجماعية الخاصة والرسمية, فإن مسألة تعريب العلوم لاتزال متعثرة ولا يبدو أنها على وشك الخروج من نفقها الطويل المعتم. فكل جامعة بمفردها تبذل جهودًا في تأليف وترجمة الكتب العلمية باللغة العربية, إلا أن التعاون بين هذه الجامعات لايزال ضعيفًا حتى على مستوى القطر الواحد, وقد يبدو مستغربًا ومثيرًا للدهشة أن نعلم أن أكثر المكتبات توثيقًا للكتب العربية هي مكتبة الكونجرس الأمريكية.

لهذه الأسباب جميعها ظهر أن توثيق الجهود المبعثرة لإنتاج الكتاب العلمي العربي والمعجم المختص سيخدم المؤسسات العلمية العربية, وسيكون إنشاء قاعدة معلومات لتوثيق الكتاب العلمي العربي من مصادره المختلفة - بما فيه الموسوعة والمعجم - حجر الزاوية في أي مشروعات عربية تهدف إلى خدمة قضية تعريب العلوم والكتابة العلمية باللغة العربية وإشاعة تداول المصطلح العلمي العربي ومن ثم توحيده.

إن التطورات التقنية المتلاحقة في مجال استخدام الحاسوب في دعم برامج التوثيق وإنشاء قواعد البيانات تعدّ دافعًا طبيعيًا لاستثمار تلك الإمكانات في تنفيذ مثل هذه المشروعات. كما فتحت أخيرًا شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) آفاقًا واسعة لتضافر الجهود وتكاملها في مثل هذه المشروعات.

توسيع أبواب الخروج

لقد أفسحت للفرقاء في قضية التعريب مساحة واسعة, في حديث هذا الشهر, تظهر ليس فقط مدى اختلافهم, بل تكشف عن المناهج التي يعملون بها. ويبقى أن الاختلافات والمناهج, جميعًا, تستدعي بعض الملاحظات التي لابد من إيرادها قبل السير في أي طريق مقترح للخروج من الأزمة.

لا ينبغي وضع المسألة - في قضية تعريب الطب كمثال - على النحو الذي وُضعت به بين الفرقاء: تعريب أو لا تعريب. فثمة درجة بين الدرجتين تستدعي السؤال الذي وضعته عنوانا لهذا المقال: أي تعريب نريد? والتعريب المأمول لا يمكن أن يكون استخدامًا لمصطلحات عربية مأخوذة من جذور معجمية مجهولة ومهجورة, بل ميتة, وهو ما يجعل هذه المصطلحات أكثر عسرًا على الدارس من المصطلح الأجنبي. ثم لماذا لا نستعير أو نقتبس من اللغات الأخرى ما هو حي ومتداول من الألفاظ والمصطلحات وندخلها في معجمنا العربي بما تمليه ضرورة الحركة وتسارع وتكاثف المعارف الجديدة, خاصة هذه التي لم نساهم في إنشائها.

إننا, لو حرصنا حقًا على لغتنا العربية, لكان لزامًا علينا أن نكون أكثر مرونة في إفساح مداخل هذه اللغة لتغتني بكل جديد, دون كثير من التلكؤ الذي يريد صون اللغة في خزائن حديدية تمنع تيسيرها بحجة الحفاظ عليها (كما أورثها الأولون لنا), لأن هذا التعنت كفيل بإضاعة الإرث نفسه, بدلاً من تنميته وتطويره.

وفي زاوية حادة من هذا المأزق, لابد من التعامل مع كل حالة على حدة, وعدم جعل الشعار يسبق التصرّف, بل جعل الضرورة تحتم الاجتهاد فمسألة كتعريب العلوم لا ينبغي أن تؤخذ بمنطق (إما كل شيء أو لا شيء). فتعريب الطب مثلاً يمكن إرجاؤه إذا كان سيعيق تقدمنا ويؤخّر لحاقنا بمن هم أكثر منا تقدمًا في الطب العالمي. وليكن التعريب منصبًا على مجال الثقافة الطبية للعموم, أما خواص المتخصصين فلنتركهم ينهلون من جديد العالم إلى أن يشاركوا في إنجاز الجديد وهنا يكون لنا مع التعريب وقفة مغايرة, ولعل الأقرب إلى المراد في هذا الشأن أن نطلب من المتخصصين في العلوم - عامة - وأيا كانت اللغة التي يدرسون بها, أن يكرسوا بعضًا من جهدهم لتقريب الثقافة العلمية - في مجالات تخصصاتهم - للجمهور العربي باللغة العربية, وباللغة العربية الميسرة. إضافة لواجب إسهامهم في تدقيق الترجمات العلمية بما يحافظ على دقة ووضوح المادة العلمية وسلامة ويسر اللغة العربية في آن معًا.

أما الترجمة, وهي الدائرة الأوسع التي تحتوي التعريب في قلبها, وبشكل عملي وتطبيقي, بل هي المختبر الذي ينمو فيه التعريب بفتح دروب جديدة - واقعية وملبية للحاجة - إذ تكون في اختبار حقيقي بين أيدي المترجمين, وأدوات الترجمة, وجمهور المتلقين للنتائج, فإن هناك بديهيات صار واجبًا الاهتداء بها في إنجاز أي برامج طموحة للترجمة تستهدف الإنجاز في الجوهر, والخروج من المأزق العربي الذي توقعه الفجوة المعرفية بيننا وبين المنتجين للمعرفة بكثافة في العالم المتقدم.. من هذه البديهيات:

1 - عدم اللجوء للبدء من نقطة الصفر, فثمة جهود بُذلت في حقل الترجمة ينبغي استثمارها, وحشدها في أي مشروع عربي كبير للترجمة, وثمة مؤسسات تعمل بدأب منذ فترة طويلة يجب عدم إغفال إدخالها كمشارك في أي مشروع جديد.

2 - لابد أن يعلو الجميع فوق الذاتية ويكون هدف أي مشروع طموح للترجمة أن يسترشد بآراء أوسع قاعدة من المتخصصين والمثقفين وأن يزيل من قاموسه مبدأ المنافسة الفردية والسبق الشخصي ليحل محله مبدأ التكامل مع الجهود الأخرى وعدم تكرار ترجمة النصوص ذاتها.

3 - إن منهج التيسير والمرونة والدقة في الترجمة من أجل إنتاج نصوص مترجمة سلسة وجميلة يستدعي أن يكون هناك اتفاق واسع على المصطلحات والصيغ الأساسية, وهنا لابد من إنشاء برامج جامعية تركز على فن الترجمة لتخريج مترجمين مبدعين ومحترفين ومتجانسي الأداء في الوقت نفسه.

4 - أصبح حتميا أن يولي أي مشروع عربي كبير للترجمة - وليته يكون على المستوى القومي وإن تعددت شعبه في الأقطار العربية المختلفة - اهتمامًا فائقًا بالترجمة الآلية التي ينبغي أن يكون لها نصيب وافر من الاستثمارات والجهود للحاق بالعالم المتقدم, ليس فقط من أجل توسيع الحوار مع الثقافات المغايرة, بل أيضًا وأساسًا من أجل توطين المعرفة في العالم العربي.

أخيرًا, وبكلمات موجزة, وردًا على السؤال الذي حمله العنوان: إننا - تبعًا لمعطيات الحاضر وتوقعات المستقبل - نريد تعريبًا وترجمة أكثر حيوية وحياة واستجابة لمتطلبات مجتمع المعرفة الذي إن لم نسارع بدخوله في عالمنا العربي فلن يكون لنا مكان لائق تحت شمس هذا العالم. إن لدينا الكثير ونستطيع إنجاز الكثير, المهم أن نبدأ, وأن نبدأ بمرونة وسرعة استجابة وحرص على الدقة.

 

سليمان إبراهيم العسكري