(اقتصاد المعرفة).. أين نحن منه? محمد دياب

(اقتصاد المعرفة).. أين نحن منه?

فرع جديد من فروع العلوم الاقتصادية ظهر في الآونة الأخيرة هو (اقتصاد المعرفة), يقوم على فهم جديد أكثر عمقًا لدور المعرفة ورأس المال البشري في تطور الاقتصاد وتقدم المجتمع.

إن مفهوم (المعرفة) ليس بالأمر الجديد بالطبع, فالمعرفة رافقت الإنسان منذ أن تفتّحَ وعيه, وارتقت معه من مستوياتها البدائية, مرافقة لاتساع مداركه وتعمقها, حتى وصلت إلى ذراها الحالية. غير أن الجديد اليوم هو حجم تأثيرها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية وعلى نمط حياة الإنسان عمومًا, وذلك بفضل الثورة العلمية التكنولوجية. فقد شهد الربع الأخير من القرن العشرين أعظم تغيير في حياة البشرية, هو التحول الثالث بعد ظهور الزراعة والصناعة, وتمثّل بثورة العلوم والتقانة فائقة التطور في المجالات الإلكترونية والنووية والفيزيائية والبيولوجية والفضائية.

وكان لثورة المعلومات والاتصالات دور الريادة في هذا التحول. فهي مكّنت الإنسان من فرض سيطرته على الطبيعة إلى حد أصبح عامل التطور المعرفي أكثر تأثيرًا في الحياة من بين العوامل الأخرى, المادية والطبيعية. لقد باتت المعلومات موردًا أساسيًا من الموارد الاقتصادية له خصوصيته, بل إنها المورد الاستراتيجي الجديد في الحياة الاقتصادية, المكمل للموارد الطبيعية. كما تشكل تكنولوجيا المعلومات في عصرنا الراهن العنصر الأساس في النمو الاقتصادي. فمع التطور الهائل لأنظمة المعلوماتية, تحولت تكنولوجيا المعلوماتية إلى أحد أهم جوانب تطور الاقتصاد العالمي, حيث بلغ حجم السوق العالمية للخدمات المعلوماتية عام 2000 حوالي تريليون دولار. لقد أدخلت ثورة المعلومات المجتمعات العصرية (أو, لنكن أكثر دقة, بعضها الأكثر تطورًا) في الحقبة ما بعد الصناعية. وقد أحدثت هذه الثورة جملة من التحولات التي طاولت مختلف جوانب حياة المجتمع, سواء بنيته الاقتصادية أو علاقات العمل أو ما يكتنفه من علاقات إنسانية - مجتمعية.. إلخ.

مع ثورة المعلوماتية هذه ظهرت مفاهيم من نوع (الأمن المعلوماتي) و(الحرب المعلوماتية). والمثال على ذلك أن يلجأ البلد المنتج لأجهزة الكمبيوتر عند تصديرها إلى بلد ما لأغراض حكومية أو دفاعية, إلى تغذيتها ببرامج مع فيروسات خاصة مهمتها تخريب شبكة المعلومات الوطنية في البلد المعني وتشويش أقنية الاتصالات فيه أو حتى قطعها وشل المنظومات الكمبيوترية للحسابات المالية.. إلخ. إن الانتصار في مثل هذه (الحرب المعلوماتية) يكون بالطبع حليف الدول المتقدمة المصنعة لتكنولوجيا المعلومات.

تدفعنا هذه الحقيقة للإشارة إلى (الهوة التكنولوجية) المتنامية بين هذه الدول, والبلدان سواء النامية أو حتى الصناعية ولكن التي فاتها لهذا السبب أو ذاك قطار التطور التكنولوجي. إن هذه الهوة تزداد اتساعًا ويصبح من الصعب أكثر فأكثر جسرها, فتتفاقم (التبعية التكنولوجية) والتفاوت في التطور الاقتصادي.

إن التقدم الحاصل في التكنولوجيا والتغير السريع الذي تحدثه في الاقتصاد يؤثران ليس في درجة النمو وسرعته فحسب, وإنما أيضًا في نوعية حياة الإنسان.

فثورة التكنولوجيا, وبالأخص ثورة الاتصالات والإنترنت, تؤثر في تعليم الإنسان وتربيته وتدريبه, وتجعل عامل السرعة في التأقلم مع التغيير من أهم العوامل الاقتصادية الإنتاجية. فالمجتمع, وكذلك الإنسان, الذي لا يسعى إلى مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي سرعان ما يجد نفسه عاجزًا عن ولوج الاقتصاد الجديد والمساهمة فيه. والدولة التي لا تدرك أن المعرفة هي اليوم العامل الأكثر أهمية للانتقال من التخلف إلى التطور ومن الفقر إلى الغنى ستجد نفسها حتمًا على هامش مسيرة التقدم, لتنضم في نهاية المطاف إلى مجموعة ما يسمى (الدول الفاشلة).

إن لاقتصاد المعرفة مستلزمات أساسية, أبرزها:

أولاً: إعادة هيكلة الإنفاق العام وترشيده وإجراء زيادة حاسمة في الإنفاق المخصص لتعزيز المعرفة, ابتداء من المدرسة الابتدائية وصولاً إلى التعليم الجامعي, مع توجيه اهتمام مركز للبحث العلمي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن إنفاق الولايات المتحدة في ميدان البحث العلمي والابتكارات يزيد على إنفاق الدول المتقدمة الأخرى مجتمعة, ما يساهم في جعل الاقتصاد الأمريكي الأكثر تطورًا ودينامية في العالم (بلغ إنفاق الدول الغربية في هذا المجال 360 مليار دولار عام 2000, كانت حصة الولايات المتحدة منها 180 مليارًا).

ثانيًا: وارتباطًا بما سبق, العمل على خلق وتطوير رأس المال البشري بنوعية عالية. وعلى الدولة خلق المناخ المناسب للمعرفة. فالمعرفة اليوم ليست (ترفًا فكريًا), بل أصبحت أهم عنصر من عناصر الإنتاج.

ثالثًا: إدراك المستثمرين والشركات أهمية اقتصاد المعرفة. والملاحظ أن الشركات العالمية الكبري (العابرة للقوميات خصوصًا) تساهم في تمويل جزء من تعليم العاملين لديها ورفع مستوى تدريبهم وكفاءتهم, وتخصص جزءا مهما من استثماراتها للبحث العلمي والابتكار.. إلخ.

الثورة العلمية.. الوجه الآخر

يركز الباحثون عمومًا - ونحن نوافقهم في ذلك - على تقديم ثورة تكنولوجيا المعلومات كفرصة للتطور الاقتصادي والمعرفي الذي يتيح تشكيل قاعدة راسخة للازدهار الاقتصادي. ولكن مما لا شك فيه أن هذه الثورة تخلق في الوقت نفسه معضلة إضافية, تضاف إلى مشكلات الاقتصاد العالمي الرئيسية, نعني بها تفاقم فائض رأس المال واليد العاملة. ربما تبدو هذه الفكرة مستغربة, ومتناقضة مع المسار الرئيسي للتحليل الذي يؤكد على الفرص الكبيرة للتطور التي تنتجها هذه الثورة. ولكن لو حاولنا التمعن في المسألة عن قرب, لوجدنا أن الدافع الرئيسي لمثل هذا الاستنتاج يتلخص في كون معظم المجالات الاستثمارية, الصناعية والخدماتية, التي خلقتها هذه الثورة, (مثل ما يسمى (البيع الإلكتروني), أي بيع السلع والخدمات عبر شبكة الإنترنت), هي ببساطة بدائل للنشاطات القائمة, كالبيع بالمفرق أو العقود التجارية التقليدية, ولا تشكل بالتالي زيادة صافية في الطلب الاستهلاكي الكلي أو في مستوى التوظيف على الصعيد الاقتصادي الكلي. كما أن الصناعات الجديدة (الإلكترونية, مثلاً), رغم أنها تتطلب استثمارات كبيرة في مراحلها الأولى, المرتبطة خصوصًا بميدان الأبحاث والتطوير العلمي, فإنها لا تتطلب في مراحلها اللاحقة إنفاقًا استثماريًا كبيرًا أو درجة عالية من تشغيل اليد العاملة, مقارنة بصناعات (تقليدية), كصناعة السيارات مثلاً. ونتيجة لذلك, فإن الطلب على رأس المال ينحو منحى سلبيًا, حيث إن هذه الصناعات الجديدة تتطلب حجمًا قليلاً نسبيًا من رأس المال الثابت (الآلات والمعدات والتجهيزات والأرض.. إلخ), وعددًا محدودًا نسبيًا من اليد العاملة ذات الاختصاص المميز والمهارة العالية.

هذا الانتقال بالبنية الاقتصادية نحو نشاطات تتطلب معرفة أكثر مما تتطلب من رأس مال ويد عاملة, يحمل دون شك دلالات مهمة, وينطوي على انعكاسات خطيرة بالنسبة للاقتصاد الرأسمالي (سواء في البلدان المتطورة أو النامية), والذي كانت آلية تطوّره وتقدمه منذ نشوئه تتطلب تحريك تدفقات كبيرة من رءوس الأموال لتحقيق ثورته الصناعية الأولى, ثم المراحل والحقبات التالية في تطوّره, وصولاً إلى نهايات القرن العشرين.

إن هذه الظاهرة يمكن أن تخلق تناقضًا داخليًا ضمن آلية عمل النظام الاقتصادي الرأسمالي. فالطلب على رأس المال, الذي يأخذ طابعًا تنازليًا طويل الأمد نتيجة الثورة المعلوماتية والإلكترونية, من المحتمل أن يخلق بصورة متزايدة (في نظام قائم على مفهوم الربح كهدف رئيسي لأي نشاط استثماري) صعوبة في تحقيق مبدأ تعظيم الأرباح وصولاً إلى الحدود القصوى. وقد أبرزت هذه التطورات بشكل أوضح من أي وقت مضى, على حد قول الباحث الأمريكي هاري شات في كتابه (الديمقراطية الجديدة - بدائل لنظام عالمي ينهار), الذي صدرت ترجمته العربية أخيرًا: (المشكلة المزمنة لنظام الأرباح الرأسمالي: كيفية الحفاظ على معدل أرباح كتلة رأس المال المتنامية دائمًا في ظل محدودية قدرة السوق على التوسّع المستمر بمعدل سريع بما فيه الكفاية لتوفير منافذ الاستثمار الضرورية). ويستنتج الباحث أن الدلائل تشير إلى عدم إمكان الحفاظ على نمو اقتصادي على المدى الطويل يفوق المتوسط السنوي التاريخي, وأن التغير التكنولوجي سيحتّم تراجعًا في الطلب على رأس المال الثابت إلى ما دون المتوسط التاريخي, مما يجعل البحث عن فرص استثمار جديدة مستميتًا أكثر من أي وقت مضى!

التقنيات والعمالة

رغم المخاوف من البطالة المكثفة الناتجة عن التقنيات القائمة على الإلكترونيات الدقيقة, فإن الخبرة الخاصة لكل من الدول الصناعية المتطورة والدول النامية, تبين أن أثر تلك التقنيات في التوظيف المباشر وغير المباشر يمكن أن يكون في الحقيقة إيجابيًا بشكل هامشي. وتشير بعض الدراسات إلى أن التقنيات الحديثة يمكن أن تحل مكان العمالة في الأنشطة القديمة, ولكنها يمكن أن تولّد في الوقت نفسه طلبًا إضافيًا على العمالة من خلال خلق سلع وخدمات جديدة. وبصرف النظر عن الآراء المتعارضة في هذا الخصوص, يمكننا - من دون تردد - تأكيد أن تأثيرات التكنولوجيا الحديثة في مجال التوظيف لن تشمل فقط حجم العمالة وبنيتها المهنية وسوق العمل, ولكنها ستشمل أيضًا وبصورة أساسية نوعية العمل, خصوصًا فيما يتعلق باعتماد ما يمكن تسميته (الأنواع المرنة) للعمالة ذات الطابع التعاقدي والعمل المنزلي, وكذلك الاتجاه نحو تقليص ساعات العمل....إلخ. وباختصار, أن أسواق العمل في البلدان الصناعية المتطورة والبلدان النامية على حد سواء ستصبح أكثر مرونة. وسيظهر تخصيص سوق العمل والإنتاج في شكل زيادات في فرص التوظيف المؤقت وساعات العمل المرنة غير الثابتة. وتجد هذه الظاهرة انعكاسًا لها في تبدّل سياسات الحكومات في معظم الدول الرأسمالية باتجاه تراجع دور (الدولة الراعية), الذي يقترن بتقلّص التقديمات الاجتماعية, ولتلك الظاهرة جانبها السلبي المتمثل في شعور المرء بعدم الاستقرار وعدم الثقة بالغد, وعمومًا بانعدام الأمان الاجتماعي في ضوء عدم استمرارية العمل والحرمان من التقديمات الاجتماعية والضمانات التي يؤمنها العمل الثابت.

ومن الواضح أنه سيكون للثورة التكنولوجية الجديدة أثر كبير في توزيع الدخل, سواء في داخل البلدان أو في ما بينها. بحيث تجري هذه العملية لمصلحة الفئات الأكثر احتكاكًا بالتكنولوجيا الجديدة, ولمصلحة الاختصاصات العصرية والأكثر حداثة, التي يغلب فيها عنصر الشباب, وذلك على حساب المجالات والاختصاصات التقليدية. كما أنها ستكون لمصلحة كبار المنتجين والشركات الكبرى العابرة للقوميات والمؤسسات ذات الإنتاج الموجه للتصدير. وبديهي أنها ستكون أيضًا في مصلحة الدول الأكثر تطورًا, القادرة على الاستفادة من الميزات المطلقة والنسبية التي يوفرها لها امتلاك ناصية التكنولوجيا واحتكار القسم الأعظم منها, من خلال التبادل الدولي, ومن ثم تكريس تفوّقها ومفاقمة (الهوة التكنولوجية) مع البلدان النامية والأقل تطورًا, والتي تصبح أكثر اتساعًا وعمقًا واستعصاء على التذليل.

فمن الواضح أن التدويل المتزايد للإنتاج واشتداد المنافسة الدولية يجعل الدول التي تركز على اقتصاد التصدير, أكثر اضطرارًا لاستخدام التكنولوجيا الحديثة, وبالتالي إلى استيرادها في حال عدم قدرتها على إنتاجها بنفسها. ويؤدي هذا, بالطبع, إلى (تبعية تكنولوجية) متزايدة.

أخطار تهدد البيئة

ويتجلى هذا التهديد على نحو الخصوص في كون المستويات المرتفعة للنشاط الاقتصادي تسبب ارتفاع درجات الحرارة, وتؤدي إلى تغييرات فجائية وسريعة في المناخ (تقترن بذوبان أجزاء من جليد القطبين الشمالي والجنوبي, مثلاً) مع ما يرافق ذلك من نتائج سلبية على الزراعة, أو على إمكان العيش في بعض المناطق التي كانت موطنًا للإنسان منذ آلاف السنين. فضلاً عن ذلك, تؤدي أنماط معينة من الإنتاج والاستهلاك إلى تزايد نسبة تلوث الهواء والتربة والمياه السطحية والجوفية والبيئة البحرية...إلخ, بحيث إن الطبيعة تصبح عاجزة عن القيام بما كانت تقوم به منذ الأزل, أي إعادة إنتاج نفسها وإصلاح ما كان يلحق بها من أضرار أو استنزاف, نتيجة عوامل مختلفة, سواء كانت طبيعية أو من صنع يد الإنسان.

إن هذه التطورات تفرض إما إبطاء نمو النشاط الاقتصادي العالمي إلى درجة تتوافق مع متطلبات الحفاظ على البيئة, أو على نحو يتيح للطبيعة إصلاح ما أفسدته يد الإنسان, وهو أمر مستحيل في ظل النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يشكّل مثل هذا التباطؤ موتًا حقيقيًا له, كما أنه غير قابل للتحقيق خصوصًا في ضوء (الثورة الديمغرافية) وتنامي عدد سكان العالم على نحو غير مسبوق في التاريخ, وتزايد حاجاتهم اللامحدودة في ظل نمط حياة استهلاكي بامتياز, وإما تعديل التكنولوجيا الصناعية وأنماط التطور وعقلنة النشاط الاقتصادي ونمط معيشة الإنسان الحديث عمومًا, بشكل يجعله (يتصالح) مع البيئة, ويوظف طاقاته العظيمة والذرى المعرفية التي وصل إليها في معالجة التحديّات الهائلة التي تواجه المجتمع الإنساني على مختلف المستويات, وفي خدمة المصالح الحقيقية للأجيال الحالية والقادمة.

* * *

إن السؤال الذي يطرح نفسه بحدّة هو: أين نحن, كمجتمعات عربية, من هذا التطور العاصف للعلوم والتكنولوجيا, من هذا الاتساع الهائل لنطاق المعرفة ودورها?! من الواضح أن مجتمعاتنا لم تدخل بعد (اقتصاد المعرفة). فنحن لانزال في موقع المتلقي السلبي, لا المنتج, لثمار وإنجازات الثورة العلمية التكنولوجية في كل مراحلها, ولانزال على مسافة سنوات ضوئية عن مرحلتها الأخيرة المتمثلة بثورة الاتصالات والمعلوماتية (غير أن ذلك لا يجعلنا بمنأى عن آثارها السلبية). إن مجتمعاتنا لاتزال في بدايات الدخول حقبة (المرحلة الصناعية) بمفهومها المتطور, في حين أن الدول المتطورة أصبحت في قلب ما يسمى (مرحلة ما بعد الصناعة). وهذا ما يضاعف الهوّة بيننا وبينها, ويزيدها عمقًا واتساعًا. إن ثقافة التغيير والتأقلم مع متطلبات التطور المعرفي لم تصل إلى مجتمعاتنا بعد. إننا بحاجة ماسّة إلى إعادة النظر في مقاربتنا لمفهوم (المعرفة), وفي وعينا لحقيقة أن دخولنا (اقتصاد المعرفة) هو السبيل الوحيد لنجاحنا في مواجهة تحديات العصر ولاحتلال موقع لائق بين الأمم.

 

محمد دياب