هدية الإلياذة جابر عصفور

هدية الإلياذة

احتفت الحياة الثقافية المصرية والعربية احتفاءً كبيرًا بظهور تعريب سليمان البستاني لرائعة هوميروس الخالدة. واستمرت الاحتفالات وأنواع التكريم لأشهر عدة طوال سنة 1904 التي صدرت فيها الإلياذة منظومة باللغة العربية.

كانت الفرحة بصدور هذا العمل دالة ما بين كبار المثقفين ورجال الدولة المهتمين بالثقافة في الوقت نفسه, وخصصت جرائد العصر الكثير من المقالات, على نحو ما فعلت جرائد: (المؤيد) و(الظاهر) و(الوطن) و(المقطم) و(الأهرام) و(الاتحاد المصري) و(الإخلاص) و(العمران) و(الحرية) و(المنعم) و(اللواء) و(الظاهر) و(العائلة) ومجلات: (المنار) و(الضياء) و(الهلال) و(المقتطف) و(المحيط). وتسابقت جرائد بيروت ومجلاتها في الاحتفاء على نحو ما فعلت جريدة (لسان الحال) و(الأحوال) و(المحبة) و(لبنان) و(الأرز) ومجلة (المشرق) وغيرها.

وتنادى كبار المثقفين وأعلام العصر لإقامة احتفال كبير بظهور الإلياذة باللغة العربية, فاستجاب الكثيرون إلى الاكتتاب الذي أعلن عنه لإقامة مأدبة كبيرة في فندق شبرد الشهير, ولكن الأحوال قضت بالاقتصار على عدد معين من المكتتبين, وأقفل الاكتتاب بعد أن وصل عدد المكتتبين إلى خمسة وسبعين. وكان أبرز المكتتبين الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر وجرجى زيدان وجبرائيل تقلا وداود بركات وداود عمود وإسماعيل عاصم وعزيز خانكي والدكتور شبلي شميل وسعادتلو الكونت سكاكيني باشا وعزتلو سليم بك زنانيري ويوسف بك شيحا وجناب الخواجة نجيب صروف, إلى آخر بقية الأسماء التي جمعت المشرفين على الصحف السيارة وكبار الكتاب والوجهاء المهتمين بالثقافة من المسلمين والمسيحيين واليهود على السواء. أما اللجنة التي قامت بإعداد لوازم الحفل, فكانت مؤلفة من عزتلو أفندم عبدالله بك صغير, وعزتلو أفندم فريد بابا زوغلى بك, وعزتلو أفندم نجيب بحري بك وعزتلو جبرائيل حداد بك, وعزتلو سليمان ناصيف بك, وعزتلو داود بك عمون, وحضرة سليم أفندي بسترس. وكان أول ما انصرفت إليه أفكار المحتفلين هو وجوب اشتراك (لجنة إحياء اللغة العربية) التي كان يرأسها مفتي الديار المصرية محمد عبده, ومن كبار أعضائها عبدالخالق ثروت ومحمد فريد ورشيد رضا وغيرهم. وكما رأت اللجنة أن تدعو على وجه خاص الشيخ إبراهيم اليازجي الذي أفاد اللغة العربية بما ألف وصنف, جنبا إلى جنب أعلام الأدب والشعراء, وتعين مساء الثلاثاء الرابع عشر من يونيو موعدًا لإقامة المأدبة الكبرى. وقد أقيمت المأدبة بالفعل في مساء اليوم المحدد في فندق شبرد الذي زيّن واجهته بهذه المناسبة, وأدخل المصابيح الكهربائية الصغيرة في خلال أشجار الحديقة, حيث مدت المائدة الفاخرة. وحضر من المدعوين السيد محمد توفيق البكري نقيب الأشراف والناشر الذي ترك لنا (صهاريج اللؤلؤ) وإسماعيل باشا صبري وكيل نظارة الحقانية ومن أعضاء لجنة إحياء اللغة العربية والشاعر الكبير الذي أفاد منه شوقي وحافظ. وسعد زغلول المستشار في محكمة الاستئناف الأهلية في ذلك الوقت, وعبدالخالق بك ثروت الذي كان مفتشًا في لجنة المراقبة القضائية بنظارة الحقانية وسكرتير جمعية إحياء اللغة العربية, ومحمد فريد الزعيم الوطني, وعمر لطفي بك وكيل مدرسة الحقوق, والشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار, وإبراهيم رمزي صاحب جريدة التمدن, جنباً إلى جنب محمد أفندي مسعود وحافظ أفندي عوض والشيخ إبراهيم اليازجي مع غيرهم من كبار المدعوين.

ولما اكتمل عدد الحضور, وحل موعد العشاء, جلس الجميع إلى المائدة المقسومة إلى خمس موائد, أمام كل جالس إليها جدول الطعام باللغتين العربية والفرنساوية, وعلى ظاهره رسم الأهرام وأبي الهول, يقابلهما رسم أرز لبنان, وبين الرسمين شمس تشملهما بأشعتها, وتحتهما الأبيات التالية:

حُييت يا وطنا تصبُو القلوبُ إلى أرجائه وبه الأرواح تغتبطُ
شمسُ المعارف في علياه جامعةُ أطرافهُ وهي فيما بينها وسطُ
ففي ذُرَى الأرز حبلٌ من أشعتها يُلقى وحَبْلٌ على الأهرام ينبسطُ


احتفال حضاري

وبعد انتهاء الأكل وشرب القهوة وقف الدكتور يعقوب صروف المكلف من المحتفلين بالخطابة, وألقى كلمة قال فيها: إن هذا الاحتفال هو الأول من نوعه في ديار المشرق, وعسى أن يكون فاتحة حفلات كثيرة تقام إكرامًا للعلم وإجلالاً لقدر ذويه, وتحدث صروف عن ترحيب الكثيرين بهذا الحفل من حيث دلالته على روح جديدة انبثت في أبناء المشرق الذين كانوا يجهلونها أو يغضّون الطرف عنها, وهي قدر الفوائد العلمية والأدبية قدرها, وتقدير معنى أن يشتغل عالم من علماء الأمة هو سليمان البستاني بالعلم لأكثر من ثلاثين سنة, وتظهر نفثات يراعته في دائرة المعارف قبل ظهورها في إلياذة هوميروس. وينتقل صروف من الاستهلال إلى الموضوع وهو الاحتفال بترجمة الإلياذة التي رآها دائرة لمعارف عصرها, ومرآة لحضارة اليونان التي لا نظير لها في أوربا. وقد اطلع على الإلياذة أدباء العرب لما ترجموا كتب اليونان فتهيبوها ولم يترجموها لا لأنهم كرهوا ترجمة القصص, أو لأنهم لم يألفوا شيئًا مثلها, فإنهم وضعوا قصة عنترة ووقائعها تشبه وقائع الإلياذة وأسلوبهما واحد في أساس تاريخي وجيز, تناولته قريحة هوميروس في الإلياذة وقريحة الأصمعي في قصة عنترة, وإنما لأن العرب أحجموا عن ترجمة الإلياذة لكثرة ما فيها من الأعلام الغريبة والمعاني المغلقة, أو لكثرة ما فيها من ذكر لآلهة اليونان وشعائرهم الدينية. وظل هوميروس مغلقا أمام أبناء العربية, يتمنّى أدباؤهم لو أتيح لأحد منهم أن يزيح الستار عنه, وينقله إلى لغتهم كما نقل إلى اللغات الأوربية, أو كما نقل إلى السريانية. ولكن لم يكن في الإمكان أن يتصدّى لهذا العمل الخطير إلا رجل درس اللغة اليونانية لكي يقرأ هوميروس في أصله, عارف ببعض اللغات الأوربية الشهيرة, ليقرأ شروح هوميروس فيها, سيال القريحة حتى يسهل عليه نظم الألوف من الأبيات. وقد اجتمعت هذه الأوصاف في البستاني الذي قبض بيديه على هوميروس, ولم يتركه إلا بعد أن ألبسه حلة عربية.

ومضى الاحتفال بعد ذلك فوقف عبدالخالق ثروت وتلا كتابًا مرسلاً من الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية ورئيس جمعية إحياء اللغة العربية. وتلا فريد بابا زوغلو تلغرافا من الدكتور أبوستوليدس المقيم في الإسكندرية. وقد قام بترجمة الإلياذة إلى اليونانية الحديثة. وقرأ داود عمون كتابا واردا من شبلي شميل الذي لم يتمكن من الحضور بسبب مرضه. وقرأ محمد مسعود كتاب الشيخ علي يوسف الذي كان في الإسكندرية وارتجل رشيد رضا صاحب المنار كلمة ضافية. وأخيرا, نهض سليمان البستاني وألقى كلمة يعبّر فيها عن تقديره للاحتفال وللمحتفلين من المصريين واللبنانيين والسوريين. وتتابع المتحدثون بعد البستاني, فكان منهم شكور باشا الذي تكلم بالفرنسية والأستاذ يوكوفالاس الذي ألقى كلمته بالفرنسية كذلك, وتلاه الأستاذ أورانيكاكس الذي تكلم باليونانية. وكانت كلمة الختام لإبراهيم رمزي.

هدية الإلياذة

وكان من الممكن ألا يعرف أحد هذه التفاصيل, فلا يطالع الكلمات التي قيلت في الحفل, أو البرقيات التي وصلت إلى سليمان البستاني لتهنئته, ولا الخطابات والمقالات والقصائد التي نشرت في الجرائد والمجلات, لولا نجيب متري صاحب مطبعة المعارف ومكتبتها التي تولت طباعة التعريب وتوزيعه. وكان نجيب متري شاعرًا أديبًا عاشقًا للأدب, صديقًا للبستاني, ممتلئا بالحماسة لمشاركته في إخراج الإلياذة إلى النور بالعربية, ولذلك قام بجمع ما كتبه أرباب المقامات السامية وأصحاب الصحف والمجلات والأدباء والشعراء عند ظهور الإلياذة مع تفصيل الحفلة الوطنية التي أقيمت تكريمًا لسليمان البستاني. وتولى نجيب متري طباعة هذا كله في كتاب لم أر له مثيلا في ثقافتنا العربية. وأطلق على الكتاب اسم (هدية الإلياذة) وأصدره - بالطبع - من مطبعته ومكتبته سنة 1950 أي بعد مرور عام تقريبًا على صدور الترجمة, وبعد أن اكتملت الاحتفالات بها والكتابة عنها.

والكتاب يُعدّ وثيقة ثقافية نادرة دالة على معان كثيرة أولها الاحتفاء باكتمال عمل من أعمال الترجمة التي نقلت إحدى روائع الإبداع الإنساني الأساسية إلى اللغة العربية, وذلك في سياق الاحتفال الضمني بأهمية الترجمة في تحقيق النهضة والإسهام الفاعل في مسيرة التقدم التي لا تتحقق بمعزل عن الترجمة. ويبدو أن المحتفلين قد استرجعوا بمعنى أو غيره ما فعله أسلافهم الذين لم تنهض حضارتهم إلا بعد أن ترجموا إنجازات الحضارات السابقة عليهم. وأضافوا إليها ما جعل لهم إنجازهم الخاص في مسار التقدم الإنساني كله. ومن الواضح أن الوعي بأهمية الترجمة قد أخذ يتسع تدريجيًا, منذ أن أوكل محمد علي باشا (1769-1849) إلى رفاعة الطهطاوي (1801-1873) إنشاء مدرسة الألسن بعد أن عاد من بعثته إلى فرنسا سنة 1831. وكان هذا الإنشاء التأسيس الأول لحركة الترجمة العربية الحديثة. وهو التأسيس الذي ما لبث أن اتسعت أصداؤه, وتجاوز نظائره, في تصاعد من الوعي الذي تكثّفت إشعاعاته في المعنى الأول للاحتفاء بإنجاز البستاني لتعريبه الذي كان بمنزلة استئناف لمسيرة الماضي, وإضافة إليه بما يؤكد وعود العطاء النابع من الحاضر والمتطلع إلى المستقبل.

ومن المؤكد أن نوعية المسهمين في الاحتفاء, كتّابًا وشعراء, رجال دين ورجال دولة. وجهاء وأثرياء, وتوزع ألقابهم ما بين الأفندية والبكوات والباشوات, فضلا عن الألقاب الأجنبية المرتبطة بغير العرب, لها مغزاها الخاص في هذا السياق, خصوصا من حيث التمثيل للوعي الذي جاوز طليعة المثقفين إلى ممثلي الدولة في أوجهها المختلفة. ومن ثم اتساع درجة الوعي بأهمية الترجمة في ارتباطها الوثيق بحلم النهضة الذي أخذ يغزو عقول الجميع. ولم يكن من المصادفة أن يحدث ذلك في السياق الثقافي الذي شهد كتابات كثيرة عن معاني التقدم وأسبابه, خلاصا من التخلف ومشكلاته, وذلك على نحو أنتج محاضرة سليم باخوس الذي نشرت (مطبعة العصر) في مصر محاضرته (لامع البرق في ارتقاء وانحطاط الشرق) سنة 1891, ويتبعه أحمد فتحي زغلول بترجمة كتاب (سر تقدم الإنجليز السكسونيين) الذي طبعته مطبعة المعارف سنة 1899, وهي المطبعة التي طبعت بعد ذلك بخمس سنوات تعريب البستاني, مؤكدة اهتمامها - من خلال منظور صاحبها نجيب متري - بحلم التقدم الذي دفع محمد عمر إلى نشر كتابه (حاضر المصريين وسر تخلّفهم) من مطبعة المقتطف سنة 1902, قبل عامين فحسب من صدور ترجمة الإلياذة, وهي المطبعة التي حضر صاحبها ومحرر المجلة) المعنونة باسمها الاحتفال بسليمان البستاني وإلقاء الخطبة الافتتاحية في مأدبة التكريم.

التفاعل القومي

وهناك المعنى القومي الماثل في الاحتفال وإنجاز الترجمة على السواء, فأديب متري الذي طبع وسليمان البستاني الذي ترجم وشرح وقدم, كلاهما من الشوام الذين استقروا بمصر, ووجدوا فيها البيئة الصالحة لإنجازهم, والمناخ الصالح لتطوير أفكارهم بعيدا عن التعصب أو الاضطهاد الديني الذي أدى إلى فرار أمثال أحمد فارس الشدياق من موطنه الأصلي. شأن البستاني ومتري في ذلك شأن اليازجي وصروف وجرجي زيدان وفرح أنطون وجبرائيل تقلا وخليل مطران وداود عمون ونجيب شقرا وشبلي شميل ورشيد رضا وغيرهم من الشوام الذين استقروا بمصر, وأنشأوا فيها الجرائد والمجلات, وأسهموا مع إخوانهم المصريين في تأسيس نهضة أدبية, منطلقها مصر وأفقها الأقطار العربية التي أخذت تتسابق إلى النهضة. ولذلك لم يكن من المصادفة أن تكون قائمة الطعام في مأدبة الاحتفال جامعة بين الأهرام وأبي الهول رمزا لمصر وأرزة لبنان رمزا للبنان, وأن يتبارى الخطباء المصريون والعرب في تأكيد المعاني القومية للثقافة العربية التي لا تعرف التمييز بين قطر وقطر إلا بطبيعة الإنجاز الثقافي ومداه. ويبدو أن الذي صاغ الأبيات الموجودة على قائمة الطعام كان واعيا بذلك كل الوعي, خصوصا حين وصل بين ذرى الأرز والأهرام في الرابطة التي تؤكدها شمس المعارف التي تنبع منهما وتنيرهما وغيرهما. ولذلك لم يكن هناك فارق بين الجرائد المصرية واللبنانية والسورية في تأكيد أهمية ترجمة الإلياذة, والنظر إلى معنى إنجازها من المنظور القومي وقيمه التي رعتها مصر.

وقصائد الشعراء التي ضمها كتاب (هدية الإلياذة) دليل آخر على هذا المعنى القومي, ففيها الشاعر اللبناني الذي استقر في مصر مثل نجيب متري وخليل مطران, وفيها شاعر دمشق الفيحا, سليم عنحوري, وفيها من الشعراء أحمد نسيم (1878 - 1938) الذي أكد حضوره على نحو خاص, لأنه سرعان ما تأثر بدلالة الإلياذة, وقرر أن ينشئ في موازاتها ما أطلق عليه اسم (الإلياذة الإسلامية) التي نظمها تمجيدا للإسلام وقيمه مع تقدير مضمر للأصل الذي دفعه إلى هذا النوع من النظم. وقد مدح أحمد نسيم البستاني بقوله:

أحييت تبيان هوميروس في أمم عدوّا امرأ القيس فيها ربَّ تبيان
أخلاق قوم تراءت في قصائدهم فأظهرت كيف كانوا منذ أزمان
هذي قوافيك في الإلياذة ابتسمت عن لؤلؤ مودع في خير ديوان
طالعت فيها إلى أن خِلْت ناظمها في فرع عدنان أو من نسل قحطان
وقلت للنفس يا نفس ارقصي طربا من شعر هومير لا من شعر حسان


وتظهر ثقافة أحمد نسيم في أبياته, فقد كان شاعرا من شعراء الإحياء الذين ينظمون على طرائق العرب الفحول وتقاليدهم في النظم. وقد اكتملت ثقافته الشعرية من عمله, فقد كان من المشرفين على تصحيح الدواوين الشعرية القديمة التي تولّت دار الكتب المصرية نشرها.

وأبياته ناطقة بثقافته, فهناك الإشارة إلى امرئ القيس رب البيان عند العرب, ولفظة الإحياء المستخدمة في الإشارة إلى تعريب البستاني تبيان هوميروس, ووصف الإلياذة بأنها لؤلؤ مودع في خير ديوان, وأضف إلى ذلك وصف شعر البستاني الذي نظم فيه الإلياذة, ومن ثم الإشارة إلى قوافيه التي تبتسم, والديباجة العربية التي أنطقت هوميروس بلسان عربي مبين, كأنه من فرع عدنان أو نسل قحطان, وأخيرا هزة الشعور بالنظم الذي يستمد قيمته من مقارنته بشعر حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم.

الشراكة الحضارية

ولا تؤكد الترجمة أهمية الشراكة التي تجمع بين الحضارات السابقة والحضارات اللاحقة في مساق تتميم النوع الإنساني فحسب, وإنما تضيف إلى ذلك ضرورة التفاعل بين الحضارات والثقافات المتعاصرة, وتبادل الفائدة التي تضيف إلى أبعاد دلالة تتميم النوع الإنساني على مستوى الحاضر الذي يجمع بين الثقافات واللغات. وقد كان الاحتفاء بهذا المعنى الإنساني ماثلا في جهد البستاني الذي أفاد من معرفته باليونانية القديمة التي تعلمها ليقرأ بها الأصل, كما أفاد من الترجمات والشروح التي أتيح له أن يقرأها بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية. وهي لغات كان يعرفها إلى جانب معرفته بالألمانية والفارسية والتركية.

ولذلك كان عمله معتمدا على أقرانه من محبي هوميروس في ثقافات عديدة, ومكملا لهم. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يحدثنا هو عن أنه اتصل في الأستانة ببعض أدباء اليونان من عشاق هوميروس وإلياذته كأستافريذس مترجم السفارة الإنجليزية في الأستانة, وكأوليذس الأستاذ بالكلية اليونانية هناك, فكان يشاورهم في بعض ما التبس وأغلق من التراكيب.

وكان من نتيجة ذلك أن أخذ الاحتفال به بعدا عالميا, ولذلك نرى في (هدية الإلياذة) البرقية التي أرسلها إليه ملك اليونان ووزير خارجيتها,ووزير الأديان والمعارف بها, وأن يتحدث الخطباء في المأدبة التي أقيمت على شرفه باللغات العربية والفرنسية واليونانية, وأن يختم إبراهيم رمزي كلمات المأدبة بالإشارة إلى (المدينة الحاضرة) التي تنتسب إليها مصر, وتأكيد أن هذه المدينة الحاضرة مدينة لليونان التي أفاضت على العالم نورا باهرا, مشى في طريقه الإنسان حتى وصل إلى المدينة الحاضرة.

هذا المعنى الإنساني لم يكن ابن الاحتفال بصدور ترجمة البستاني, وإنما كان قرين الأفق الذي فتحته النهضة التي أدركت ضرورة التعلم من الغرب المتقدم, وضرورة الاتصال بالمشرق الناهض في الوقت نفسه. ولذلك كان مثقفو النهضة من طراز سليمان البستاني جامعا بين لغات الغرب (الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية.. إلخ) ولغات الشرق التي كان أهمها الفارسية والتركية. وبقدر ما كانت حيوية عمليات التبادل الثقافي مفيدة في تأكيد خطى مفارقة الماضي القريب المهيض, ابتعادا عن حاضر التخلف, كانت هذه الحيوية مستدعية الازدهار الثقافي القديم الذي انبنت على أساسه الحضارة العربية الإسلامية, خصوصا بعد أن تأكد فيها المعنى الجلي لتتميم النوع الإنساني الذي جعل العرب يترجمون حضارات اليونان والفرس والهند وغيرها من حضارات العالم القديم. وقد بعث الاحتفال بالبستاني هذا المعنى على نحو واضح, متواصلا مع المحاولات السابقة, متسعا بمعنى المدينة الحديثة التي لم تقتصر على حلم الخديو إسماعيل أن تكون مصر قطعة من أوربا, بل امتدت به كي يصبح حلم الانتساب إلى ثقافة إنسانية متصلة.

الافتخار بالتراث العربي

هذا المعنى الإنساني لم يكن يتعارض مع المعنى القومي بل يكمله ويكتمل به. ولذلك لم يشعر أحد بغضاضة الافتخار بالشعر العربي القديم, ولم يستنكر على البستاني أن ترجم الإلياذة في شعر رصين يستعيد تقاليد الفحول من شعراء العرب, ولا يتوقف عند تعريب أسماء البشر والآلهة اليونانية لتنسجم مع الذوق العربي الفصيح. وليس من المصادفة أن يختار البستاني النظم شعرا موزونا مقفى, ففي الاختيار معنى إثبات قدرة النظم العربي على مضاهاة النظم اليوناني, ومعنى الافتخار بالميراث العربي الذي استوعب ميراث العالم الأقدم وأضاف إليه. وكان من الأيسر على البستاني أن يترجم الإلياذة نثرا, لا يتقيد فيه بوزن ولا قافية, ولكنه استبدل باليسر العسر, وشقَّ على نفسه وعلى قرائه في اختيار التراكيب التي تليق بالأوزان, وتنقل ما بين الأوزان لكي يحاكي تقلب الحالات النفسية والمواقف المضطربة بالأحداث, فتعب وأتعب. وكانت النتيجة منظومة شعرية ملحمية, تنتسب إلى الثقافة العربية, وإلى التقاليد الشعرية, انتسابها إلى الثقافة العالمية, وإلى الملحمة اليونانية. وأتصور أن هذا البعد يفرض على دارسي الأدب العربي الحديث أن يلتفتوا إلى قصائد الإلياذة العربية من منظور انتسابها إلى التقاليد نفسها التي انتسب إليها شعر البارودي وشوقي وحافظ والرصافي والزهاوي وغيرهم من شعراء الإحياء على امتداد الوطن العربي, ففي قصائد الإلياذة العربية ما يكمل ملامح الشعر العربي في عصر الإحياء من منظور التقاليد وتفاصيل التقنية البلاغية وأسرار الصنعة الشعرية.

ويبقى معنى أخير هو معنى الوحدة التي اقترنت بالتسامح الديني الذي تمثل في اجتماع بطريرك الموارنة الأنطاكي ومطران طرسوس ومفتي الديار المصرية الإمام محمد عبده ونقيب الأشراف محمد توفيق البكري في الاحتفال بترجمة الإلياذة, وأن تتكرر المعاني القومية والإنسانية في الكلمات التي قالها, وأن يرى الجميع في الإبداع أثرى عطاء للإنسانية, بعيدا عن التعصب لدين أو طائفة أو تيار بعينه, فالتسامح الذي غمر كلمات الجميع لم يكن دليلا على الوحدة الطائفية فحسب, وإنما كان - وسيظل - دليلا على التسامح الذي يقترن بلحظات الصحو الحضاري التي تندفع فيها الأمم إلى الأمام بقوة في مسيرة التقدم. ولذلك لم يكن من المصادفة أن تتضمن كلمة الإمام محمد عبده التي قُرِئَتْ في الحفل حرص الإمام على أن تتمثل اللغة العربية (التي كان يرأس جمعية إحيائها) تراث العالم الإنساني, ففي ذلك ما يغنيها ويزيد في ثرائها, شريطة أن تضيف إلى ما سبقها أو عاصرها من إبداعها الذاتي في كل مجال. وتكشف حكمة الإمام عن نزعته العقلانية السمحة التي كانت تدرك فائدة ما تضفيه ترجمة البستاني إلى لغة القرآن وأساليبها, كما كانت تؤمن بأهمية العلم الذي (لا يختلف فيه مشرق عن مغرب,ولا يتخالف على حقائقه الأعجم والمعرب).وفي ذلك ما يؤكد المعنى الإنساني الذي وصل العرب القدماء بما اخترع اليونانيون والهنديون والفارسيون, والذي لابد أن يصل العرب المحدثين بما يبدعه أقرانهم في كل بلدان العالم الإنساني المتقدم.

والحق أن الكلمات التي يحتويها كتاب (هدية الإلياذة) تؤكد ما أكدته كلمة الإمام, وتضيف إليها الكثير في مدى التسامح المقرون بفرحة الاحتفال بالإنجاز العلمي وتكريمه, وأهمية الترجمة وتقديرها. وقد أحسن نجيب متري بجمع ما قيل في هذه المناسبة, وعيا منه بأهميته وضرورة توثيقها, وتحية لصديقه سليمان البستاني الذي يهديه جهده في قصيدة من نظمه, يخاطب فيها البستاني بقوله:

هذي مدائحك التي قد مثّلتْ أوصافك الغرَّ الحسان الزاهره
جادت بها العلماء والأدباء تفو يها بِسفْرٍ قد نشرتَ مآثره
أملا بحسن رضاك عنى صنتُها من بعد ما ألفيتُها متناثره
أهديكها عجبا وأنت قوامها بل روحها بل أنت قطب الدائره


 

جابر عصفور