عندما يتقدم العمر بامرأة ج. م. كويتزي ترجمة: ياسر شعبان

عندما يتقدم العمر بامرأة

إنها في زيارة لابنتها في (نيس), وهى الأولى منذ سنوات وسيلحق بها ابنها قادما من الولايات المتحدة ليقضي معهما أياما معدودات يحضر خلالها مؤتمرا أو أكثر.

شغلها أمر تراكم المواعيد, ولم تستبعد وجود نوع ما من التواطؤ بينهما لوضع خطة وتقديم عرض لها من ذلك النوع الذي يقدمه الأطفال لآبائهم عندما يشعرون بعدم قدرتهم على الاعتناء بأنفسهم. وهكذا لابد أنهما قالا - أحدهما للآخر, بنبرة كلها عزم وعناد وإرادة - كيف نستطيع التغلب على عجزها إلا بالعمل معا?

بالتأكيد يحبانها, وإلا ما كانا اشتركا في وضع الخطط من أجلها. وبالرغم من ذلك تشعر كما لو كانت من الأرستقراطيين الرومان الذين كانوا ينتظرون الجرعة القاتلة, ينتظرون أن يخبروا بأكثر الوسائل ثقة وتعاطفا بأنه من أجل المصلحة العامة يجب أن يتجرعوا ذلك الشراب دون تردد.

إن أطفالها, كسابق عهدها بهم, صالحون ويؤدون ما عليهم من واجبات. أما صلاحها كأم ووفاؤها بواجباتها, فتلك مسألة أخرى.

لكن في هذه الحياة لا نحصل دائما على ما نستحق, وعلى طفليها أن ينتظرا حياة أخرى وتجسدا آخر, إذا أرادا الحصول على ما يستحقانه.

تدير ابنتها معرضا فنيا في (نيس), ولأغراض نفعية أصبحت ابنتها فرنسية. أما ابنها, بزوجته الأمريكية وأطفاله الأمريكيين, فسيصبح قريبا أمريكيا بسبب كل الأغراض النفعية. وهكذا بمغادرتهما لبيت الأسرة, انفلتا بعيدا. وقد يظن المرء, بمزيد من الفطنة, أنهما رحلا ليتخلصا منهما.

ومهما كان العرض الذي يقدمانه لها, فهو, بالتأكيد, ممتلئ بالازدواجية: الحب والقلق المفرط في جانب, وفى الجانب الآخر قليل من جمود المشاعر ورغبة في رؤية نهايتها.

حسنا يجب ألا تربكها هذه الازدواجية, فلقد تجاوزتها الآن. وهل دون المعاني المزدوجة يكون لفن القص من وجود?

بل كيف ستكون الحياة ذاتها إذا لم يكن هناك سوى رءوس وذيول دون شيء بينها.

***

(هيلين), ابنتها, تدير معرضا فنيا في المدينة القديمة ويعتبر هذا المعرض ناجحا على جميع المستويات. لا تمتلك (هيلين) هذا المعرض, فلقد وظفها سويسريان يأتيان من (برن), حيث يعيشان, مرتين في السنة لمراجعة الحسابات وتحصيل قيمة المبيعات.

وتصغر (هيلين) أو (هيلينا) أخاها (جون) ولكنها تبدو أكبر منه. حتى وهى طالبة كانت تبدو في منتصف العمر بتنوراتها ذات اللون الرصاصي والنظارة التي تشبه عيني بومة. وتسريحة شعرها التي تشبه الـ(شنيون).

إنها من ذلك النوع الذي يفسح له الفرنسيون مجالا بل ويظهرون له الاحترام: نموذج المثقف الأعزب المتزمت. بينما في إنجلترا ستعامل (هيلين) كأمينة مكتبة وتكون موضع سخرية. وحقيقة لم تنشغل الأم بعدم زواج (هيلين).

فـ(هيلين) لا تتحدث عن حياتها الخاصة, لكنها علمت من (جون) بأمر علاقتها لسنوات مع رجل أعمال من (ليون) كان يصاحبها خلال العطلات الأسبوعية ومن يدرى, ربما تكون أنوثتها قد تفتحت خلال تلك العطلات.

وهي ليست من النوع الذي يتطفل على الحياة الجنسية لأطفالها. ورغم ذلك فهي لا تؤمن بأن شخصا ما وهب حياته للفن, وتحديدا لبيع اللوحات, لا تستبد به الرغبة.

كانت قد توقعت هجوما مزدوجا, يجلسها (جون) و(هيلين) ويعرضان عليها الخطة التي وضعاها لإنقاذها.لكن لم يحدث شيء من ذلك,فلقد مرت ليلتهم الأولى معا في بهجة وسرور ولم يفتح الموضوع إلا في اليوم التالي, في سيارة (هيلين) عندما انطلقا معا باتجاه جبال الألب لتناول الغداء في بقعة اختارتها (هيلين) للتنزه, وقد تركتا (جون)خلفهما للعمل في ورقة بحثية سيقدمها لأحد المؤتمرات.

- تقول (هيلين) في شجن:كيف تفضلين المعيشة هنا يا (أمي)?

- أتقصدين في الجبال?

- لا.. في فرنسا أقصد.في (نيس) هناك شقة في بنايتي ستخلو بحلول أكتوبر. بوسعك شراؤها أو نستطيع شراءها معا.إنها بالطابق الأرضي.

- أتريدين أن نعيش معا, أنت وأنا? إنه لأمر مباغت يا عزيزتي. أواثقة أنك تعنين ما تقولينه?

- لن نعيش معا. ستكونين مستقلة تماما. لكنك عند الطوارئ ستحتاجين الى من تطلبين عونه.

- أشكرك يا عزيزتي, لكن في ملبورن لدينا أشخاص مؤهلون كفاية للاعتناء بالعجائز وحالاتهم الطارئة.

- من فضلك يا أمي دعينا من هذه المناورات. أنتِ في الثانية والسبعين ولديك مشكلات بالقلب.ولن تكوني دائما قادرة على العناية بنفسك.فإذا كنت...

- لا تزيدي يا عزيزتي. أنا متأكدة. أنك تجدين التعبيرات اللطيفة مثيرة للاشمئزاز مثلما أجدها. أعرف أنني قد أكسر مفصل الحوض أو أصبح كثيرة التقيؤ أو تمتد بي الحياة وأنا واهنة طريحة الفراش لسنوات, تلك نوعية الأشياء التي نتحدث عنها, ورغم ما يوفره عرضك من تسهيلات, فإنني أتساءل: لماذا أثقل كاهل ابنتي بأمر الاعتناء بي? والآن أسألك: هل تستطيعين أن تتعايشي مع نفسك إذا لم تقومي - مرة واحدة على الأقل - وبكل إخلاص بتقديم العون وتوفير الحماية لي? هل عرضت بأمانة مشكلتنا, أعنى المشكلة المشتركة بيننا?

- نعم.عرض مخلص وعملي كذلك. ولقد ناقشته مع (جون).

- إذن دعينا لا نفسد هذا اليوم الجميل بالجدال. لقد قدمت عرضك وسمعته, وأعدك أنني سأفكر فيه. لنترك الأمر عند هذا الحد فمن الصعب أن أقبل مثلما خمنتم بالتأكيد. فأفكاري تتوجه إلى اتجاه مختلف تماما. هناك شيء واحد فقط يتفوق فيه المسنون على الشباب, وهو الموت. شيء يجعل العجوز (يالها من كلمة تبعث القشعريرة) يموت بسلام, يكشف لمن يأتون بعده كم الموت طيب. ذلك ما يتوجه له تفكيري, التركيز على جعل موتي أمرا طيبا.

- تستطيعين جعل موتك أمرا طيبا في (نيس) تماما مثلما في (ملبورن).

- لكن ذلك ليس صحيحا يا (هيلين), فكري في الأمر وستدركين أنه ليس صحيحا. اسأليني عما أعنيه بجعل الموت أمرا طيبا.

أطلقت (هيلين) صوتا يعبر عن الاستهجان. وبعدها ساد الصمت طوال الطريق. أصبحت (نيس) خلفهما بمسافة بعيدة, واستمر انطلاقهما عبر الطريق الخالية باتجاه الوادي الممتد. ورغم أنه فصل الصيف, كان الهواء باردا, كما لو أن أشعة الشمس لم تمس هذه البقاع قبلا.

ارتعشت وأغلقت النافذة. وبدوتا كما لو كانتا تنطلقان في قصة رمزية..!

- وأخيرا تقول (هيلين): ليس صوابا أن تموتي بمفردك, دون أحد يمسك يدك. ذلك ضد الطبيعة الاجتماعية وغير إنساني. إنه يخلو من مشاعر الحب. عذرا على هذه الكلمات لكنني أعنيها. وهأنا أعرض أن أمسك يدك, أن أكون إلى جوارك.

... وحدها كانت (هيلين) الأكثر تحفظا دائما, والتي تحرص على وجود مسافة بينها وبين أمها. أبدا لم يسبق لـ(هيلين) أن تحدثت هكذا.

أكلتا فى فندق يدعى les Deux Ermites وبالتأكيد هناك قصة خلف هذا الاسم لكنها تفضل ألا تعرفها لأنها حتى لو كانت قصة جميلة فمن المحتمل أن تكون مختلفة.

هبت ريح قارسة فجلستا خلف الزجاج للحماية ومتابعة نتف الثلج وهي تتساقط رغم أن الوقت مازال مبكرا على قدوم الشتاء, وإلى جوارهما لم تكن سوى منضدتين مشغولتين فقط.

- جميلة? نعم بالتأكيد هي جميلة, إنه بلد جميل فمن يستطيع أن يرى فرنسا ولا يقول إنها جميلة. لكن لا تنسي يا (هيلين) كم كنت محظوظة, وحظيت بفرصة التنزه أينما ذهبت, كنت قادرة على التنقل كما أرغب في معظم فترات حياتي. لقد عشت, عندما كان لي الخيار, في وفرة من الجمال. ووجدت نفسي أتساءل الآن, بماذا أفادني كل هذا الجمال? أليس الجمال شيئا يستهلك مثله في ذلك مثل آي شي آخر? ماذا يتبقى من الجمال? ما فائدته? هل الجمال يجعلنا في حال أفضل?

- قبل أن أجيبك يا ( أمي) هل أطرح عليكِ سؤالا? فأنا أظن أنني أعرف ما ستقولينه. ستقولين إن الجمال لم ينفعك بشيء واضح, لم يقدم لك ما ينفعك في تلك الأيام عندما ستجدين نفسك واقفة عند بوابة الفردوس بيديك خاليتين وثمة علامة استفهام كبيرة فوق رأسك. سيكون مناسبا لك تماما أن تقولي ذلك, مثل شخصية (اليزابيث كوستيللو). تقولينه وتؤمنين به.

الإجابة التي لن تقدميها - لأنها غير مناسبة لشخصية اليزابيث كوستيللو- أن ما تقدمينه ككاتبة ليس جميلا في ذاته -جمال محدود, مضمون, ليس شعرا, لكنه جمال رغم ذلك, له قوام واضح واقتصادي- لكنه يغير كذلك حيوات الآخرين, يجعلهم أناسا أفضل أو أفضل قليلا. ولست وحدي من تقول ذلك, هناك كثيرون يقولونه, كثيرون من الغرباء بالنسبة لي. ولا يرجع ذلك إلى أن ماتكتبينه يحتوي دروسا لكن لأنه درس في حد ذاته, مثل ذبابة الـ(ووترسكاتر).

- لا أعرف ماذا تكون الـ (ووترسكاتر).

- الـ (ووترسكاتر) أوالذبابة طويلة الأرجل, نوع من الذباب, وتظن هذه الذبابة أنها تصطاد من أجل الغذاء, بينما حقيقة تترك حركتها أثرا على سطح ماء البركة, ومرة بعد أخرى, تظهر أجمل الكلمات (اسم الجلالة - الله). وتحركات القلم على سطح الورقة تترك أثرا مشابها, مثلما الحال معك, فأنت تستطيعين رؤية ذلك - كما أظن من المتابعة عن بعد - لكنني أنا لا أستطيع.

- نعم, إذا كان ذلك يروق لك. لكن الأمر يفوق ذلك. فأنت بالكتابة تعلمين الناس كيف يشعرون. إنها هبة من الله. هبة تجعل القلم يتبع حركة الأفكار.

يبدو لها موقف ابنتها قديم النمط, فهذه النظرية الجمالية التي تشرحها وتدافع عنها أقرب إلى الأرسطية. هل توصلت إليها (هيلين) بنفسها أم يا ترى قد قرأتها في مكان ما? وكيف تطبقها على فن الرسم? وإذا كان إيقاع القلم يتبع إيقاع الفكر, فماذا يكون إيقاع الفرشاة? وماذا عن الرسم بالدهان المرشوش? كيف تعلمنا هذه اللوحات لنصبح أفضل?

- تنهدت وهى تقول: إنه لجميل أن تقولي ذلك يا(هيلين), جميل أن تدعميني لأكتشف أن حياتي لم تضع هباء. مؤكد لم أقتنع وكما تقولين, إذا كان باستطاعتي أن اقتنع فلن أكون أنا. لكن ليس في ذلك تعزية, فكما ترين لست بحالة مزاجية جيدة.

- إذن لنتوقف الآن عن الحديث.

- نعم, دعينا نتوقف عن الحديث. لنفعل شيئا آخر قديما بالفعل.لنجلس صامتين تماما وننصت إلى طير الوقواق.

وكان هناك فعلا طائر وقواق يصيح, من غيضة صغيرة خلف المطعم. وإذا فتحت النافذة ولو قليلا فستحمل لهما الرياح ذلك الصوت واضحا تماما: صوت يتكون من نغمتين, مرتفعة ومنخفضة, تتكرر مرة بعد أخرى. بهجة الربيع, هكذا فكرت, إنها أحد تعبيرات (كيتس), بهجة الصيف ويسره. طائر نزق, لكن ياله من مغن, ياله من كاهن.. (كوكو).. اسم الرب كما يردده لسان طائر الوقواق.حقا إنه عالم من الرموز.

يفعلون الآن شيئا لم يفعلوه معا منذ كان طفلاها صغيرين. يجلسون في الشرفة بشقة هيلين في إحدى الليالي المتوسطية دافئة النسيم ويلعبون الورق. يلعبون البريدج الثلاثي, يلعبون اللعبة التي يطلقون عليها (سبعات) ويطلق عليها في فرنسا (RAMI) وذلك حسب ما ذكرته (هيلين /هيلينا).

كان قضاء الأمسية في لعب الورق من اقتراح (هيلين) وبدا اقتراحا غريبا ومتكلفا, ولكن فور الاندماج فيها شعرت بالسعادة وأعجبت بحدس (هيلين), ربما لأنها لم تتوقع أن يكون لدى (هيلين) مثل هذا الحدس.

لكن ما باغتها الآن كيف انزلقوا إلى تقمص شخصياتهم أثناء لعب الورق منذ ثلاثين عاما مضت, وتلك الشخصيات التي ظنت أنهم قد تخلصوا منها للأبد منذ فر أحدهم من الآخر: (هيلين) الطائشة والمنطلقة, (جون) العابث العنيد, وهي ذاتها بقدرتها على المنافسة والتي أدهشتها, وفى ذاكرتها ما كان عليه جسدها وكيف كانت تخرج ثديها لإطعام طفلتها فور أن تبكي. وعندما كانوا يلعبون مقابل رهان مالي, كانت تكسب الكثير من أموالهم بحيلها المتعددة. أي انطباع يخلفه ذلك حيالها? أي انطباع يخلفه ذلك حيالهم? هل يشير إلى أن تلك الشخصية كانت ثابتة وعنيدة, أو يشير إلى أن تلك العائلات, العائلات السعيدة, يلتم شملها بإعادة أداء الألعاب التي كانوا يقومون بها خلف الأقنعة?

أشارت بعد أن حققت فوزا آخر (يبدو أن قدراتي لم تذهب هباء. اعذراني فأنا مرتبكة). مؤكد هذه كذبة, فهي ليست مرتبكة على الإطلاق. إنها مفعمة بمشاعر النصر. يتملكها فضول لمعرفة أي القدرات يحتفظ بها المرء لسنوات وما التي يبدأ فقدانها.

- يسأل ابنها بفضول: أي القدرات تشعرين أنك تفقدينها, يا أمي?

- تقول بابتهاج: أفقد قدرة الرغبة, في القليل أوالكثير.

- يرد (جون) في إصرار لقيادة الحديث: أفضل استخدام (شدة) أو(جهد) ولكن ليس قدرة. فالرغبة قد تجعلك ترغبين في تسلق الجبل لكنها لن تعاونك في الوصول إلى القمة.

- ماذا يحمل المرء إلى القمة?

- الطاقة. الوقود. ما اختزنته عبر مراحل مختلفة.

- الطاقة. أتريد معرفة نظريتي عن الطاقة, مصادر الطاقة بالنسبة لشخص عجوز? لا تتحفز, فليس هناك شيء شخصي ليربكك, كذلك ليس بها من الغيبيات شيء ولو ذرة. فهي نظرية مادية قدر المستطاع.

ها هي: فعندما نتقدم في العمر, يبدأ كل جزء في الجسد يطوله العطب أو يعانى من تناقص الطاقة, ويمتد ذلك إلى كل خلية. هذا ما تعنيه الشيخوخة, وفقا لوجهة نظر مادية. حتى في الحالات التي يكون فيها الجسد ما زال صحيحا معافى, تكتسي الخلايا القديمة بألوان الخريف (استعارة, أسلم بذلك, لكن لمحة من مجاز هنا وهناك لا تؤدي إلى شيء من الغيبيات). ويصل ذلك إلى العديد والعديد من الخلايا, ومن بينها خلايا المخ كذلك.

فإذا كان الربيع هو الفصل الذي يتطلع إلى الصيف, فإن الخريف هو الفصل الذي ينظر إلى الخلف. والرغبات التي تحملها خلايا المخ في مرحلة الخريف هي رغبات تتوق إلى الماضي, رغبات تضمها الذاكرة, لم تعد تسري بها سخونة الصيف, رغبات تتنازعها قوى مختلفة معقدة تتوجه للماضي أكثر من المستقبل. هذا هو جوهر الأمر, وهي مساهمتي في علم المخ, فما رأيك?

- تقول (هيلين): هل هذا ما تشغلين به نفسك هذه الأيام, (علوم المخ)? هل هذا ما تكتبين عنه?

.. سؤال غريب ومتطفل. و(هيلين) لم تسألها أبدا عن عملها. ليس لأنه موضوع ممنوع التطرق إليه, لكن لأنه ليس مطروحا بالتأكيد.

- لا فمازلت متفرغة للأدب, وسيريحك أن تسمعي ذلك. فأنا لم أبدأ بعد النزول إلى الشارع لأبيع أفكاري مثل بائع متجول. أفكار (إليزابيث كوستيللو) في النسخة المنقحة.

- رواية جديدة ?

- لا ليست رواية, إنها قصص. أتريدين سماع إحداها?

- أريد, فلقد مضت فترة طويلة منذ حكيت لنا قصة.

- حسنا جدا, قصة ما قبل النوم. حدث ذات مرة - في زماننا وليس في زمن قديم مضى - أن رجلا كان مسافرا إلى مدينة غريبة لحضور اختبار التقدم لإحدى الوظائف. ومن غرفته بالفندق, وكان يشعر بالقلق- وكان في حالة مزاجية تصبو للمغامرة, ومن يدرى ما يشعر به - طلب تليفونيا إحدى العاهرات. ووصلت الفتاة وقضت معه بعض الوقت. وكان يشعر معها بحرية لم يخبرها مع زوجته, وطلب منها بعض الأشياء.

تجاوز الاختبار وحصل على الوظيفة, ووافق -كما جاء في القصة- أن ينتقل لهذه المدينة. وبين من قابلهم في مكتبه الجديد, وكانت تعمل كسكرتيرة أو بعمل كتابي آخر أو عاملة تليفون, تعرف على نفس الفتاة, العاهرة, وتعرفت عليه.

- وماذا أيضا?

- لا أستطيع أن أحكي المزيد.

- لكن هذه ليست قصة.. إنما مجرد خلفية لقصة ولن تكون قصة حتى تذكري ماذا حدث حاليا.

- لم تضطر لأن تصبح سكرتيرته. فلقد حصل الرجل على الوظيفة وقبل الانتقال إلى مدينة جديدة. وفى الطريق زار بعض الأقارب, ابن عم لم يره منذ الطفولة أو ابن عم زوجته, ودخلت ابنته وإذا بها نفس البنت التي جاءته بالفندق.

- أكملي. وماذا حدث بعد ذلك?

- يتوقف ذلك على نوع القصة. ربما لم يحدث شيء -ربما تكون من هذه القصص التي تنتهي فجأة.

- هراء, على أي شيء تعتمد?

- والآن تحدث (جون): تعتمد على ما دار بينهما بحجرته في الفندق. تعتمد على ماطلبه منها حسب قولك. هل تذكرين يا(أمي) ما طلبه منها?

- نعم? أذكر.

وخيم الصمت عليهم جميعا. فما سيفعله الرجل بوظيفته الجديدة, وما ستفعله هذه البنت التي تمارس البغاء كعمل إضافي, كلاهما تراجعت أهميته. فالقصة الحقيقية تدور في الشرفة, حيث يجلس طفلان في منتصف عمريهما بمواجهة أمهما التي لم تفقد قدرتها على إثارة اضطرابهما. فأنا من تبكي.

- سألت (هيلين) بحدة: هل ستخبريننا بما طلبه منها? حيث لم يكن هناك شيء آخر تسأل عنه.

كان الزمن قد مضى لكن لم يفت الأوان بعد, فلم يعودا طفلين كلاهما. خيرا كان ذلك أو شرا, هم الآن بنفس القارب المعطوب ويدعي الحياة, طاف بلا هدف دون صلات - حتى - تبعث الطمأنينة وفي بحر حالك الظلمة, ما لهذه الاستعارات التي تنطق بها الليلة..!, فهل يستطيعون التعلم كيف يعيشون معا دون أن يلتهم بعضهم البعض الآخر?

- تلك الأشياء التي يفرضها رجل على امرأة وأجدها صادمة لي. لكن قد لا تجدينها أنت كذلك, لانتمائك إلى جيل مختلف. فربما يكون العالم قد تجاوزني في هذا الصدد وخلفني وراءه على الشاطيء لا أقوم إلا بالاستنكار. وربما تكون هذه عقدة القصة, فأثناء ما كان وجه الرجل, الرجل الناضج, قد امتقع عندما واجه الفتاة, كان ما حدث للفتاة بحجرته في الفندق جزءا من عملها, ومما ينتظم به حدوث الأشياء, جزءا من الحياة.

وهكذا قالت الفتاة: السيد جونز... عمي هارى.. كيف حالكما..?

تبادل الطفلان اللذان لم يعودا طفلين, تبادلا النظرات, ولسان حالهما يقول: أهذا كل شيء? لا يمثل الشيء الكثير.

- الفتاة في القصة فائقة الجمال, مثل زهرة حقيقية وقالت: أستطيع أن أوضح لكما الأمر, فالسيد (جونز) يا عمي (هارى) لم يسبق أن ورط نفسه في شيء مثل هذا قبل الآن, إذلال الجمال وإخضاعه, لم تكن هذه خطته عندما أجرى المكالمة التليفونية, ولم يكن قد خمن أنها بداخله.

فلقد أصبحت خطته فقط عندما ظهرت الفتاة ورأى - كما قلت - أنها زهرة. وتجلى الأمر له مثل إهانة لأنه افتقد هذا الجمال طوال حياته, وربما يفتقده من الآن فصاعدا يا له من عالم بلا عدالة..! هكذا كان يصرخ داخله, وابتدأ حينها طريقه القاسي. وهكذا لم يعد رجلا لطيفا على الإطلاق.

- أظن أنك يا أمي تحملين الكثير من الشكوك حول الجمال وأهميته. تعتبرينه أمرا ثانويا, هكذا دعوته.

- أقلت ذلك?

- تقريبا.

- وعندئذ تدخل (جون) ووضع يده فوق ذراع أخته وهو يقول: الرجل في القصة, لا أذكر هل هو(العم هاري) أو(السيد جونز), مازال يؤمن بالجمال, إنه خاضع لسطوته. ولهذا السبب كرهه وحاربه.

- تقول (هيلين): هل هذا ما تقصدينه يا (أمي)?

- لا أعرف ما أقصد, فالقصة لم تكتب بعد. فدائما ما أقاوم الإغراء بالحديث عن القصص قبل كامل خروجها من الزجاجة, والآن أعرف سبب ذلك. ورغم أن الأمسية كانت دافئة, فإنها بدأت ترتعش قليلا : أشعر بتشوش متزايد.

- الزجاجة.

- لا عليك.

- ليس تشوشا.فلو كان هناك ناس آخرون, قد يكون ذلك تشوشا. لكننا معك. وتأكيدا تعرفين ذلك.

معك? ياله من هراء. فالأطفال ضد آبائهم, وليسوا معهم. لكن تلك أمسية خاصة في أسبوع خاص. فمن المحتمل جدا أنهم لن يجتمعوا هكذا ثانية, ثلاثتهم, على الأقل ليس في هذه الحياة. وربما في هذه المرة يجب أن يرتفعوا فوق ذواتهم وربما تكون كلمات ابنتها نابعة من القلب, من القلب الحقيقي وليس الكاذب. نحن معك. وربما تكون نبضته عند سماع هذه الكلمات نابعة من القلب الحقيقي كذلك.

- إذن أخبريني بما يمكن قوله تاليا?

- يحتضنها في وجود الأسرة بكاملها, دعيه يحتضن الفتاة بين ذراعيه. ولا يهم كم سيبدو ذلك غريبا. (سامحينى - لما اقترفته بحقك) دعيه يقل ذلك, ثم يركع أمامها على ركبتيه ويقول (دعيني أتعبد مجددا في محراب الجمال). أو يقول كلمات أخرى لها ذات التأثير.

- تغمغم الأم: أسلوب أيرلندي ضعيف. شديدة الشبه بأسلوب دستويفسكى. ولست متأكدة أن لأيهما وجودا في المعالجة التي أقدمها. إنه اليوم الأخير لـ(جون) في نيس, وغدا في الصباح الباكر سيسافر إلى (دبروفنيك) لحضور المؤتمر الذي جاء لأجله, حيث ستتم مناقشة - كما يبدو- مسألة الزمن قبل بدايته وبعد نهايته.

- في يوم من الأيام كنت مجرد طفل يحب التحديق عبر التليسكوب. والآن يجب على أن أعيد تهيئة نفسي كفيلسوف, وربما كعالم لاهوت. تغير حياتي تام.

- وماذا تأمل أن ترى, عندما تنظر عبر التليسكوب إلى الزمن قبل بداية الزمن.

- لا أدرى. ربما الرب الذي لا يحده شيء, الخفي عن الأنظار.

- حسنا, أود رؤيته أنا أيضا. لكن يبدو أنني لن أستطيع ذلك. لذا أبلغه تحيتي. قل له إنني سأكون إلى جواره ذات يوم من الأيام.

- أمي..!

- عذرا. أنا متأكدة أنك تعرف ما عرضته علي (هيلين) بشراء شقة هنا في (نيس). إنها فكرة طيبة, لكن لا أظن أنني سأقبلها. وقالت لي إن لديك عرضا خاصا. جميعها عروض ذكية كما لو أن ودي يُخطب مُجددا. فما عرضك?

- أن تأتي لتقيمي معي في (بالتيمور). المنزل هناك كبير وبه متسع, ولدينا حمام آخر صالح للاستخدام. سيحب الطفلان ذلك الوضع, فسيكون من المفيد لهما أن يجدا جدتهما معهما.

- ربما يحبان ذلك وهما في التاسعة والسادسة من العمر. لكن لن يحباه عندما يبلغان الخامسة عشرة والثانية عشرة, ويصحبان أصدقاءهما إلى المنزل بينما الجدة تتنقل في المطبخ ببطء وهي مرتدية خفها, تغمغم لنفسها وتصطك أسنانها وربما تكون غير قادرة على الشم جيدا. أشكرك يا (جون) لكنني أرفض هذا العرض.

- لا تتخذي قرارك الآن. فالعرض قائم دائما.

- جون - أنا لست في وضع يسمح لي بالوعظ, فأنا قادمة من أستراليا التي استجابت مثل النخاسين لأوامر سيدها الأمريكي. ومع ذلك, تذكر أنك تدعوني إلى مغادرة البلد الذي ولِدت به, لأتخذ مسكنا في جوف الشيطان الأعظم, وتذكر كذلك أن لدي تحفظات على القيام بذلك.

يقف ابنها, وتقف إلى جواره على أرض المتنزه ويبدو أنه يفكر في كلماتها مُضيفا إليها خليطا من البودنج والجيلي في الطبق الذي كان يقدم له كهدية في عيد ميلاده منذ أربعين سنة مضت, فخلاياه لم ينلها الإرهاق بعد, ومازالت نشيطة لملاحقة الأفكار كبيرها وصغيرها, الزمن قبل الزمن, والزمن بعد الزمن, وكيف يتصرف مع أم عجوز.

- تعالي على أي حال. بغض النظر عن تحفظاتك أوافقك أنه ليس الزمن الأفضل, لكن تعالي. وبروح ساخرة يضيف: وإذا كان ممكنا أن تقبلي كلمة نصح صغيرة ولطيفة, فكوني حذرة من الكلمات الضخمة. فأمريكا ليست الشيطان الأكبر. وهؤلاء الرجال في البيت الأبيض مجرد نقطة عابرة في التاريخ, وسيتم قذفهم إلى الخارج لتعود كل الأمور إلى وضعها الطبيعي.

- إذن قد أستطيع الاستنكار لكن يجب ألا أشجب أو أتهم.

- الاستقامة يا (أمي) إنها ما أشير إليه, إيقاع وروح الاستقامة. وأعرف أنها مخاطرة, بعد أن قضيت حياتك كلها تقدرين لكل كلمة وزنها قبل الكتابة, أن تتركي نفسك لتجرف الروح, لكنها تخلف مذاقا سيئا. يجب أن تكوني واعية بذلك.

- روح الاستقامة. سأحفظ بعقلي ما دعوتها به, وسأضفي على الأمر بعض الفكر.

تمسك ذراعه, وفي صمت يستكملان نزهتهما. لكن الأمور ليست على ما يرام بينهما. فهي تشعر بتوتره وتشنجه. تتذكر كم كان طفلا صعب المراس وعبوسا. فالذكريات تتدافع عليهما, تلك الساعات التي تحاول ملاطفته لإخراجه من عبوسه, فهو صبي كئيب لوالدين كئيبين. كيف تستطيع أن تحلم باتخاذ ستار يفصلهما عن زوجته ذات الوجه العبوس والرافض دائما? وشعرت بارتياح لأنهما -على الأقل - لم يتعاملا معها كمغفلة. على الأقل منحاني هذا الشرف.

- كفى شجارا - هل تلاطف الآن? هل تتوسل?

- لا حاجة بنا أن نجعل أنفسنا بحالة مُزرية بالحديث عن السياسة. ها نحن على شواطئ البحر المتوسط, في بلد بمنزلة المهد لأوربا القديمة, وفي ليلة معتدلة المناخ. دعني أقل ببساطة, إذا كنت و(نورما) والطفلان لا تستطيعون تحمل أمريكا أكثر, لا تستطيعون تحمل ما تجلبه من عار عليكم, فإن المنزل في (ملبورن) منزلكم كما كان دائما. تستطيعون أن تأتوا في زيارة, تستطيعون أن تأتوا كلاجئين, تستطيعون أن تأتوا للم شمل الأسرة - حسب وصف (هيلين). والآن - ما رأيك أن نمر على (هيلين) ونصحبها إلى ذلك المطعم الصغير الخاص بها في شارع (جمبيتا) لتناول آخر وجبة مبهجة تجمعنا معا.

 

ج. م. كويتزي