تصوير الإدراك في المخ محمد الدنيا

تصوير الإدراك في المخ

الإدراك, أو الاستعراف, يتضمن السُبُل والخطوات التي تتم بها المعرفة وتصل المدركات إلى عالم الإنسان, ومنها الإحساس, وإدراك المعنى الكلي, والتصوّر, والتفّهم, والاستيعاب, والحكم, والاستدلال. وهي جميعها من أدق ما يقوم به المخ, وتحاول أدوات العلوم الطبية المتقدمة أن تصوّره وترصده, منذ عشرين عاماً... وحتى الآن.

كان (فرانز جوزيف غال) أول مَن وضع خريطة لوظائفنا الاستعرافية (المعرفية). استندت نظريته في تفرّس الجماجم إلى شكل الجمجمة, حيث تتوافق كل وظيفة عقلية وجزء من قشرة الدماغ, مثلا, مَن استطاع تطوير قدرة عقلية ما, فإن لديه على ما يبدو - حسب الطبيب (غال) - حدبة تتموضع على سطح جمجمته, ولكن, سرعان ما سقطت هذه النظرية واختفت, واليوم, في هذا العصر الذي يضعون فيه خرائط لجينومات الأحياء, ليس دماغنا, عضو تفكيرنا, مستثنى من هذه الخرائطية, خصوصا أن التقنيات الحديثة تتعقب, بشكل مباشر, كل نواحي الدماغ التي تتنشط. ماذا يحدث عندما يساورنا الحزن? كيف نفك رموز كلمات لغتنا? وضع خريطة لمناطقه الضالعة في وظائف الاستعراف (اكتساب اللغة, والمحاكمة العقلية, والعمليات الحسابية الذهنية....) وكذلك الكشف عن حالات الخلل الوظيفي (الاكتئاب, والأمراض العصبية التنكسية, والفُصام...), تلك هي مهمة التصوير الطبي الدماغي الوظيفي.

بحثا عن الصور

التقنية الأكثر استخداما اليوم, للحصول على صور لأعماق دماغنا الناشط, هي التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي IRMF, الذي يستند إلى الخاصيات المغناطيسية لمكوناتنا الطبيعية, ازدادت أهميته منذ اكتشافه في بداية تسعينيات القرن العشرين. وتأتي أهميته من انتشاره في الكثير من المشافي, ولأنه يتيح دراسة المرضى وسليمي البنية على حد سواء دون إلحاق أي أذى بهم, ويعطي حاليا ميْزاً (استبانة) حيّزيا هو الأفضل على صعيد تصوير الدماغ, وفي بعض الحالات, يمكنه بلوغ دقة تحت مليمترية. وهو رقم قياسي في ميدانه, ومع الفأر, وصل الباحثون اليوم إلى قياسات تصل إلى حجم 100ميكرون. ومن المعروف أن بنية الدماغ هي في غاية الدقة, أما الميْز الزمني لهذه التقنية فيبلغ 1 إلى 2 ثانية, ويعتبر طويلاً بالمقارنة مع استجابة الخلايا العصبية السريعة - التي يقع معدلها عند حدود المليثانية.

في مجال الاستعراف, تكمن ميزة هذه الطريقة في عمليات تكرار التصوير العديدة التي يمكن أن يخضع لها الشخص, كما أنها تتيح الحصول على المعطيات بسهولة, خلال ما يسمّيه الباحثون مهمات راحة الدماغ, ومن ثم مقارنتها مع مهمات عمله, نشاطه, وليس للتقنية حدود عمرية, فقد طبقت على رضع من سن 2-3 أشهر في تجارب حول اللغة, لكن شائبة جهاز التصوير الرئيسية هي ضيق أبعاده, إذ سرعان ما يولّد الانطباع برهاب الحبس, كما أنه ضاجّ, عدا ذلك, يتطلب الفحص به عدم وجود أي شيء معدني لدى الشخص, فلا يستطيع المعتمدون على البدلات (التعويضات) المعدنية بذلك الإفادة منه.

إلا أن التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي ليس الطريقة الوحيدة المتاحة, هناك تقنية ثورية أخرى لتصوير الدماغ, التصوير المقطعي بالبث البوزيتروني TEP, الذي أتيح أسلوب استخدامه في ثمانينيات القرن الماضي, ويقوم على حقن قائف TRACEUR في الجسم, ومعاينة مساره بوساطة كاميرا مكيّفة, وحتى التسعينيات منه, كان لهذه التقنية دور راجح في تحليل صور الدماغ, غير أن أهميتها ضعفت لمصلحة التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي, الأقل (غزواً) للجسم بكثير. يتطلب التصوير المقطعي بالبث البوزيتروني في الواقع استخدام مواد إشعاعية النشاط. وحتى لو استخدمت بجرعات ضعيفة, فإن الشخص لا يستطيع تكرار سوى عدد محدود من التجارب, وعليه انتظار سنة حتى يتمكن من المشاركة ثانية في الدراسات, كما أن الميز الحيزي لهذا التصوير هو أدنى جودة بالمقارنة مع مثيله في التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي, فضلاً عن ضعف ميزه الزمني وتقلباته الاحصائية.

رغم عيوبه هذه, فإن التصوير المقطعي بالبث البوزيتروني لا يجارى في تعقب أثر الجزيئات النوعية. ففي عام 1985-1986, تم بواسطته الوصول إلى نتيجة مفاجئة. لقد بين أن الدماغ الذي يفكر, وبدلاً من أن يعمل كعضلة تتطلب الكثير من الأكسجين والسكريات لتوليد الطاقة خلال بذل الجهد, يتخلص من الأكسجين كي ينطلق أكثر, وعلى غرار عدّاء سريع, يستهلك السكر, ويسرّع تدفق الدم, غير أنه يتجاوز مرحلة الأكسجين, أو على الأقل يقلصها إلى حد كبير, يتيح هذا النظام الطاقي, المكيف فعلا مع عمل الاستعراف, الاستجابة بفعالية وسرعة لمتطلبات الخلايا العصبية العاجلة.

وبواسطته أيضا, تم تجاوز الفكرة القديمة التي تفيد بأن كل وظيفة تتوافق وناحية محددة من الدماغ, في الواقع, تتوافق كل وظيفة وشبكة قوامها مجموعة من نواحي الدماغ التي تتنشط بهذا القدر أو ذاك. وأخيراً, أتاحت هذه التقنية, على صعيد الأمراض التنكسية العصبية, كشف زوال نوع من الخلايا العصبية - التي تعمل بالناقل العصبي (الدوبامين) - عند الإصابة بمرض باركنسون مثلا, كما أثبتت صحة علاجات جديدة, كطعوم الخلايا العصبية في هذا المرض نفسه, ومن المنتظر أن يتمخض استخدامها عن مكتشفات جديدة أخرى.

واليوم, فإن التصوير المقطعي بالبث البوزيتروني والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي هما تقنيتا تصوير الدماغ الرئيسيتان اللتان يمكن تطبيقهما على الإنسان. مع ذلك, ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين, يمكن لمخطط كهربائية الدماغ EEG أن يضخم ويسجل التفريغات الكهربائية التي تجول في دماغنا. ومنذ سبعينياته, يجيد الاختصاصيون القيام بالشيء نفسه مع الإشارات المغناطيسية, يستخدمون عندئذ تخطيط مغناطيسية الدماغ MEG, تتميز الطريقتان - المستخدمتان أيضاً في التصوير الطبي - وخلافاً للتصوير المقطعي بالبث البوزيتروني والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي, بميْز زمني استثنائي. تتم التسجيلات هنا في الواقع بالمليثانية! إذن, يقتفى فيها نشاط مجموعات الخلايا العصبية بالزمن الحقيقي. بالمقابل, تجرى القياسات بواسطتها عند سطح الجمجمة. وبالتالي, لا تكون موضعة الإشارات داخل الدماغ دقيقة, واليوم, تدور الدراسات حول تحسين الطريقة من خلال تطوير خوارزميات رياضية متقدمة. هناك أيضاً - لمزيد من الدقة - مشروع للتوحيد بين هذه التقنيات: التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي ومخطط كهربائية الدماغ, والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي مع تخطيط الدماغ وقليل من التصوير المقطعي بالبث البوزيتروني, ذلك من أجل المعاينة الدماغية بالمستوى الجزيئي, وقد أجريت تجارب في هذا الإطار منذ وقت سابق. كما أجريت تجارب تقرن بين التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي ومخطط كهربائية الدماغ وتخطيط مغناطيسية الدماغ. لكن هذه التجارب هي في بداياتها.

أدوات جينية

من أجل الكشف عن الجينات الضالعة في التعلّم والذاكرة, يستعين العلماء بالنماذج الحيوانية. وأوجدت لهذا الغرض فئران تقلد بعض اضطرابات الاستعراف البشرية.

ربما كان 20% من جيناتنا, أي 6000 جين تقريباً, تعبر عن نفسها في دماغنا, لأي بروتينات تكوّد هذه الجينات? وعلى أي وظائف استعراف تؤثر? سؤالان كبيران تصدى لهما علماء البيولوجيا العصبية عبر أبحاث صعبة, تقتضي اللجوء إلى النماذج الحيوانية, إذ لا مجال للتطبيق على الدماغ البشري لأسباب واضحة, وبشكل عام, الفأر هو النموذج فيها.

لم يعد العلماء يكتفون, منذ ثمانينيات القرن الماضي, بملاحظة خاصة نوعية ما والبحث عن الجينات المسئولة عنها. اليوم, يفعلون العكس بالأحرى: يسعون لأن يعزوا لهذا الجين أو ذاك وظيفة أو وظائف. المشكلة هي أن هذه المقاربة لا تتيح في الدماغ إيضاح الآليات الفيزيولوجية التي تحكمه. في الواقع, تؤدي نواتج عمل الجينات مساهمتها عبر شبكات من التأثيرات المتبادلة التي تتدخل بالمستوى الجزيئي, ثم الخلوي, وأخيراً بمستوى الناحية المحددة من الدماغ, إن لم نقل بمستوى الدماغ نفسه بمجمله. من جانب آخر, يعبر الكثير من هذه الجينات عن نفسه في نُسُج أخرى أيضا. وهكذا, عندما يتطفر أحدها (تحدث فيه طفرة, تغيّر في مادة الجين الوراثية), يصعب تأويل الخاصة الحاصلة, لأن هذه الخاصة تتوافق عندئذ وتتالى حالات تلف عدة تصيب الدماغ وأعضاء أخرى.

تتيح الوراثيات المشروطة GENETIQUE CONDITIONNELLE التخلص من هذه العثرة: تحصر منابلة الجينات في عضو واحد, إن لم يكن في نسيج واحد, دون أن تتعرض بقية الجسم لأي أذية. ترتكز الوراثيات المشروطة إلى تقنيتين جزيئيتين, كريلوكس وتتراسكلين, اللتين وصفتا لأول مرة في منتصف تسعينيات القرن العشرين.

في مختبر (الوراثيات الجزيئية) والفيزيولوجيا العصبية والسلوك, في (كوليج دو فرانس)/باريس, على سبيل المثال, صب الباحثون اهتمامهم على دراسة بروتين يستقبل هرموناً (يفرزه قشر الكظر) يبدو ضالعاً, بتأثير الكرب, في عمليات التعلم, والذاكرة, والسلوكات الانفعالية كالقلق والاكتئاب والتبعية للمخدرات. هذا البروتين الموجود في الدماغ موجود أيضا في الكبد, والجلد, ويتأثر مع الجهاز المناعي. وبعد الحصول بتقنية (كريلوكس) على فئران يكون فيها الجين الذي يكوّد لهذا البروتين خاملاً, أثبت الباحثون أن الفئران ظهرت أقل قلقاً وأقل تبعية للمخدرات.

التقنية الجزيئية الأخرى للوراثيات المشروطة هي نظام (النتراسكلين. (هذه المرة بدلا من إبطال جين ما, يدخل الباحثون جينا جديدا يعبر عن نفسه في الوقت المرغوب - بوجود مضاد حيوي (التتراسكلين هنا) في غذاء الفأر. لإبطال تأثير هذا الجين, يكفي إيقاف إعطاء المضاد الحيوي للحيوان. وقد برهن هذا النظام حتى الآن على فعاليته التامة بالمستوى الدماغي. وتعود أول الأعمال في هذا الإطار (أنجزت على فئران محورة جينياً), والتي مهدت لسبل استقصاء جديدة في دراسة الأسس الجزيئية للذاكرة, إلى فريق (إريك كاندل), الحائز على جائزة نوبل في الطب لعام 2000, من جامعة كولومبيا/نيويورك.

ليست هذه الدراسات سوى خطوة نحو تحديد الجينات التي تتدخل في البيولوجيا العصبية للعمل الاستعرافي. ومن خلال هذه المقاربات المختلفة, يسعى الباحثون في المرحلة التالية لتحديد وظائف الشبكات الجزيئية والخلوية الضالعة في الاستعراف والجينات التي تحرضها هذه الشبكات. وعند حل هذه المسائل مع الفأر, لن يعني ذلك أن العمل قد اكتمل, إذ على العلماء حينذاك التأكد مما إذا كانت هذه الجينات تؤدي الوظائف نفسها عند الإنسان.

 

محمد الدنيا







(اعرف نفسك بنفسك), كان ذلك هو شعار علم تفرّس الجماجم, الذي كان يحدد مواضع القدرات العقلية والأخلاقية على سطح الجمجمة خلال القرن التاسع عشر. (في الرقم 4 الحماقة, وفي الرقم 7 النميمة)





التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي هو التقنية الأكثر تطبيقا اليوم, يعاين الباحثون الباحة القشرية الحسيّة - الحركية للوجه المخي الأيمن مع مختلف الأعضاء المعنية





يسجل تخطيط كهربائية الدماغ, المطبق منذ ثلاثينيات القرن العشرين, ويضخم, وينسخ التفريغات الكهربائية التي تعبر دماغنا, ويفيد على المستوى الطبي في تشخيص الصرع, والتهاب الدماغ, والخرف الشيخوخي, والأورام, وكذلك موت الدماغ





يتيح تخطيط مغناطيسية الدماغ قياسات المجالات المغناطيسية على سطح فروة رأسنا