التلفزيون يجتاح حياتنا... أين الوعي النقدي? عبده جبير

التلفزيون يجتاح حياتنا... أين الوعي النقدي?

ساحة البحث في مجال التلفزيون خالية تمامًا كصحراء بلا نبت. ورغم أن هذه الأداة تؤثر فعليا في سلوك الناس فإنه لا يوجد وعي نقدي يرصد هذه الظاهرة.

المتطلع للتأثير المباشر الذي تحدثه الشاشة الصغيرة, في عيون ووجدان الناس في عالمنا العربي, وما يوازيه من اهتمام بدراسة ما يطرحه هذا التأثير الكاسح على حياتنا, سيصاب بالدهشة من تلك العشوائية التي تسير بها الأمور في شتى المجالات المتعلقة بهذا الجهاز الخطير, من هذه الزاوية بالذات, كما سيفاجأ بالفقر الذي يصل إلى حد الإملاق في مجال الكتابة المعمّقة والجادة في هذا المجال.

وحتى لا يتوه بنا الكلام في سراديب الإشكاليات العديدة المتداخلة سيكون حديثنا هنا عن قضية أولى تفرض نفسها بداية في هذا المجال هي إشكالية (إدراك أهمية الوعي النقدي في ميدان الكتابة والبحوث) في مجال التلفزيون.

وأستطيع التأكيد على أنني لم أقرأ, أو أسمع حديثا أو أشاهد محاورا, قال كلاما له معنى يوازي خطورة هذا الموضوع, على الرغم من أن الجميع يؤكدون خطورة التلفزيون الذي أضحى الوسيلة الأولى التي تؤثر في القيم والسلوك والذوق وأنماط الاستهلاك وما بين هذه وتلك من علائق.

إذا تقدمنا خطوة وطلبنا بحثا ينبني على رؤية نقدية, فإننا نجد الساحة خالية من أي مجهود يذكر, حتى ليمكن القول باطمئنان بأنه ليس لدينا أي شيء إلا بعض الفتات المتساقط من موائد حلقات النقاش البيزنطية التي تجري في غرف الفنادق المغلقة, ولا ينتج عنها أي (نتاج) حقيقي, فاعل ومؤثر, إلا, ربما, الضجيج الذي تحدثه سيارات الليموزين وهي تنقل السادة الباحثين من المطار إلى الفنادق حيث تعقد المؤتمرات المعقّمة عديمة الفائدة والتي تعتمد في أحسن الأحوال على إحصاءات جامدة بلا روح, أو ما يسمّيه البعض (استبيانات) تجرى على غير أساس, كما أنها على غير معرفة بطبيعة الناس أو بطبيعة الموضوع, هذا بالطبع في الغالب الأعم, وإن كان لكل قاعدة استثناء.

وفي سبيل معرفة ما يجري يمكن القول بداية إنني من خلال مراجعة ما يسمى بمنهج مادة التلفزيون في ثلاث من كليات الاعلام (اثنتان منها في مصر والثالثة في بلد عربي خليجي) أحسست بصدمة وأنا أتصفّح ما يدرسه الطلاب في هذه المادة. فالأغلب الأعم من الصفحات المقررة عرض للجانب الحرفي التكنيكي, وهذا أمر جيد لكنه لا يمكن أن يكون كافيا دون وضعه في إطار حيوي (يناقش), ويجعل الطالب (يفكر) في خطورة هذه الوسيلة وتأثيرها في الناس, خاصة أن طريقة عرضها باردة إلى حد الموت.

أي أن يكون الدرس قائما أساسا على روح نقدية خلاقة.

التلفزيون على مقاعد الدرس

صحيح أن أغلب المواد الدراسية في أغلب الجامعات النظرية العربية تعاني هذه الإشكالية التي أضحت موضع انتقاد علني لا يخفى على أحد وهي من قبيل ما سمّاه المنتقدون (التلقين الأعمى للمعلومات), إلا أن مادة التلفزيون كان المؤمل لها, باعتبارها مادة جديدة يدرسها جيل جديد من الأساتذة أن تكون مختلفة تستعين بالمناهج الجديدة التي تعلي من قيمة الإبداع الحر متخطية ذلك التكلّس الذي تعانيه المقررات في الكليات النظرية كافة, والذي نرجعه (لقدم) المناهج, كما لقدم كادر التدريس, ولا أعني بالقدم هنا العمر الزمني للمدرس بل قدم العقل والروح وهو أخطر وأعتى.

ومن زاوية معينة فإن هذه المناهج لن تؤدي إلى نتيجة إيجابية إذا لم تنبن على أساس نقدي, وهو ما يعني أن تكون الحركة النقدية في هذا المجال قائمة على أيدي نقاد حقيقيين.

إن أكبر نقّادنا نشأوا أصلا في الجامعات والصحافة, ولكنهم كانوا نقادا أولا وقبل كل شيء, أول شروط النقد أن يكون ضلعا في مثلث قاعدته هي الإبداع, المعاصر للناقد, وضلعه الآخر هو القارئ/المشاهد هنا (والإضافة والاختصار من عندنا) وعندما تصاب هذه العلاقة بالعطب يتحول النقد إلى عمل أكاديمي قاعدته هي التاريخ وضلعه الآخر هو التوثيق, أو أنه يتحول إلى (مختبر) لأبحاث علمية حول ذبذبات الصوت ومفردات البنية الذهنية, أو العكس فيتحول إلى (عمود) صحفي.

إن تصفّح قوائم المراجع التي تتحلى بها الأعداد المحدودة من الكتب المترجمة للغة العربية ليصيب المرء بالدوار, أما تصفّح هذه القوائم على شبكة الإنترنت بالإنجليزية, ولو من خلال موقع واحد هو (أمازون) فيصيب المرء بنكسة نفسية يمكن أن تصيبنا بالعطب.

وربما كان مفيدا لنا للسعي الأولي في مجال الدعوة للكتابة والبحث عربيا في هذا المجال أن نتعرف بإيجاز على مسار البحوث في الغرب, ولو في تلخيص مخل.

في كتاب لوريرو فيلشس المسمى (التلفزيون في الحياة اليومية) (مشروع الترجمة القومي في مصر نقله وجيه سمعان عبد المسيح) عبارة دالة تقول بأنه (يمكن تقسيم تاريخ البحوث الأولية الخاصة بالتلفزيون إلى مرحلتين أساسيتين, حيث تميز الجيل الأول من المؤلفات عن التلفزيون بالاهتمام بالوسائل ذاتها, ولم يهتم البحث في ذلك الوقت بالمضامين التي تنقلها هذه الوسيلة لأنه تم الاعتقاد بأن وظيفة التلفزيون بحكم طبيعته هي الاتفاق الثقافي, وعلى العكس من ذلك, فقد تعيّن على أبحاث الجيل الثاني الاهتمام بسلوك الجمهور, وكيف يتصرف المشاهدون عندما يتعرضون لهذه الوسيلة, وما المشاعر التي تثيرها فيهم, وتلك كانت الأسئلة الأساسية).

ويرى بعض المنظرين مثل نيوكومب أن مثل هذه الاتجاهات يمكن أن تكون نخبوية لأنها تنهض على رؤية بعض المتنبئين الذين يرون أن التغيرات الإلكترونية تنتج أوتوماتيكيا فضائل كبرى, وبقول آخر فإن هذا النقد نابع من كبار الأخلاقيين الذين يقيمون مبادئهم على القيم النابعة من حركة فردية ثقافية ولدها التلفزيون.

ومع رسوخ التلفزيون كأداة فعّالة تحرّك سلوك الناس ومراقبة ما يبثه, بدأ الباحثون الغربيون في إبداء مخاوفهم من أعمال العنف مما ولد نوعًا من الإحباط وخيبة الأمل من الوعود التي لم يف بها ما كان يبشر به التلفزيون من وعي جديد كان يتعين أن يقود إليه, الأمر الذي دفع الباحثين العلميين للنزول إلى معترك الحياة اليومية للمشاهدين في منازلهم وبدأت موجة مما سمي (دراسات السلوك) (وتأتي في هذا الإطار دراسات الدكتور Glynn عن (التلفزيون والشخصية الأمريكية, نظرات طبية نفسية إلى التلفزيون) - 1965 - حيث اهتم بدراسات أنماط المرضى النفسيين الكبار واستخدامهم للتلفزيون.

وقد أسهمت هذ الدراسة وما تلاها في التوعية بالقدرات المهمة للاجتذاب النفسي الذي يمارسه التلفزيون, وسوف تثير اهتمام المجتمع الأمريكي بضرورة إجراء دراسة أكثر عمقا لقضية تأثير التلفزيون, الأمر الذي دفع الكونجرس لتعيين لجنة سميت لجنة هاريس لـ (استقصاء تحديد مضامين برامج الإذاعة والتلفزيون), وأوصت النتائج المستخلصة من الدراسات التي أجريت باتخاذ إجراءات تشريعية ترمي إلى استبعاد البرامج الإذاعية والتلفزيونية غير المرغوب فيها, وتوضح دراسة (التلفزيون في الحياة اليومية) أن هذه النتائج كانت قد بررت بحالة الحرب الباردة التي كانت سائدة في ذلك الوقت. وتؤكد (أن الدراسات الخاصة بالتلفزيون سوف تتجه رويدا رويدا نحو مزيد من الدقة, وإلى المزيد من الحيطة والاحتراس أيضا, وبدأ نشر البيانات الإحصائية التي تسعى إلى تجاوز المجادلات الذاتية والأخلاقية, وحاولت البحوث الجديدة, اعتمادا على دراسات ذات طابع علمي ونقدي, أن تضع التلفزيون في إطار علاقة تكاملية مع الوسائل الأخرى).

البحث الثقافي للتلفزيون

وانطلق كل من البحث والنقد الثقافي للتلفزيون متأثرا بالعلوم الاجتماعية وتراث الكتابات الإنسانية الفلسفية اللذين تأثرا في فترات عديدة بالأفكار الاشتراكية الأوربية.

ولنر ما جرى على صعيد الدراسات النقدية أو الثقافية أو الاجتماعية الثقافية المتعلقة بنظريات الاتصال والإعلام, كخطوة متقدمة, فسنجد أن هذه الدراسات قد تكونت من (التفكير النظري) الذي اضطلع به أدرنو وهوركهايمر اللذان جعلا من الاتصال والإعلام, من خلال المبدأ النظري الذي صاغاه من الصناعة الثقافية محور التحليل الاجتماعي - الفلسفي.

فيرى أدرنو أن تحليل التلفزيون يجب أن يتجاوز, بصفة خاصة مسألة الآثار المباشرة فيقول (إن آثار التلفزيون لا يمكن تحديدها على نحو ملائم وفقا للنجاح أو الفشل, التذوق أو الاشمئزاز, الموافقة أو الرفض, ويتعين علينا بالأحرى أن نحاول ـ بمساعدة مفاهيم مستمدة من علم نفس الأعماق (التحليل النفسي) وبفضل المعارف المسبقة عن وسائل الإعلام ـ بلورة عدة مفاهيم نظرية تصلح لدراسة الآثار الممكنة للتلفزيون وتأثيره على شتى مستويات شخصية المشاهد, ومن ثم يصبح من الملائم أن نفحص, بصفة منتظمة وعلى مستويين, وصفي وسيكوديناميكي, الحوافز الاجتماعية السيكولوجية النموذجية للمادة التلفزيونية وتحليل مسلماتها (افتراضاتها) وكذلك تشكيلها العام وتقييم الآثار التي يمكن أن تحدثها, ويمكن أن يفضي هذا البحث في خاتمة المطاف إلى عدة توصيات عن الكيفية التي تنظم بها هذه الحوافز على نحو يعلي من شأن آثار التلفزيون الأكثر إيجابية).

ثم كانت محاولات أخرى تدفع بدراسات التلفزيون إلى مجال (فلسفة الجمال).

يقول المفكر والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو في دراسته المعنونة (التجربة التلفزيونية وفلسفة الجمال (مجلة عين, العدد الأول ترجمة أحمد المغربي)): (أوحت التجربة التلفزيونية منذ بداياتها الأولى بمجموعة من التأملات النظرية إلى حد يمكن معه الآن (عام 1969 ـ التوضيح من عندنا) أن نتحدث عن فلسفة الجمال في التلفزيون).

ومن كلام إيكو وتاريخ كتابة مقالته المذكورة, واستقراء معناها يمكننا أن نعرف أنه ومنذ أواسط الخمسينيات نشأت في إيطاليا, على الأقل, ما أسماه (فلسفة الجمال في التلفزيون).

ويشرح إيكو: (وعندما نتحدث عن فلسفة الجمال في إطار المصطلحات الفلسفية الإيطالية فإننا نقصد ما يتعلق بالبحث والدراسة التأملية (التأكيد من عندنا) في ظاهرة الفن بشكل عام, وفي الفعل الإنساني الذي ينتجه هذا الفن, وفي الخصائص العامة للموضوع المنتج.

وأمام الظاهرة التلفزيونية والوسائل العلمية التي يستخدمها جهاز التلفزيون فإنه من الضروري دراسة مدى الإسهام الذي يمكن أن تضيفه تجربة الإنتاج التلفزيوني على مستوى التأملات الجمالية سواء للتأكيد على بعض المواقف أو للعمل على توسيع دائرة التعريفات النظرية أو تحجيمها).

لذا سيكون من الضروري أن نتأمل في مرحلة لاحقة ماهية العلاقة التي تربط بين هياكل الاتصال الخاصة بالخطاب التلفزيوني والهياكل المفتوحة التي تطرحها علينا الفنون المعاصرة في مجالات أخرى.

لقد طرحت للنقاش موضوعات مختلفة كموضوع المكان التلفزيوني الذي يتحدد من خلال أبعاد الشاشة الصغيرة ومن خلال العمق الذي تتيحه عدسات الكاميرا كذلك, فقد ظهرت الخصائص المميزة للزمن التلفزيوني الذي يتوحد غالبا مع الزمن الحقيقي عند نقل بعض الأحداث أو العروض على الهواء, والذي يتحدد أيضا من خلال علاقته بالمكان وعلاقته بجمهور مؤهل تأهيلا نفسيا معينا كما طرحت العلاقة شديدة الخصوصية التي تربط بين التلفزيون والجمهور وهي علاقة خلقها المناخ الذي يوجد فيه جمهور المستقبلين والذي يختلف كما وكيفا عن الجمهور في العروض الفنية الأخرى, الأمر الذي يتيح للفرد أكبر هامش من العزلة ويضع عنصر الجماعة في المرتبة الثانية.

لقد تنوعت - إذن - واختلفت الدراسات المتعلقة بالتلفزيون في الغرب, إلى حد دخول مفكرين كبار للساحة لمناقشة التأثير الكاسح الذي يحدثه هذا الجهاز الخطير في المشاهدين, من دراسات تناقش الجوانب الاجتماعية إلى أخرى تناقش الجوانب النفسية, إلى ثالثة تناقش موضوعات أكثر تحديدا, كتأثير التلفزيون في الأطفال, خاصة بالنسبة لمشاهد العنف, ثم هناك تلك الدراسات المقارنة التي تدرس العلاقة بين التلفزيون والسينما (بل والمسرح), وما قدمناه هنا ما هو إلا اختصار يكاد يكون مخلا لبعض من فيض هذه الدراسات التي تتوسع كل يوم عن الآخر.

الناقد المحترف

والسؤال الآن: من يقوم بهذه المهمة في عالمنا العربي?

والإجابة الواضحة والصريحة, أن على جميع العاملين في مجالات البحث, الاجتماعي, والنفسي, وعلوم الاتصال, كما النقد والفلسفة وعلم الجمال, دورا مهما وأساسيا لتكوين مكتبة مرجعية للناقد المباشر الذي يطالعنا في الصحف بتعليقات تفصيلية حول هذا العمل التلفزيوني أو ذاك.

لقد أتيحت لكاتب هذه السطور فرصة الالتقاء في مدينة نيويورك منذ أعوام بمن قدم نفسه باعتباره (ناقدا تلفزيونيا) حرا (يكتب في عدة صحف ومجلات) ورغبة في التعرف على هذه النوعية من التخصصات الجديدة طلبت منه الحديث عن مهمته بشكل أكثر تفصيلا, فما كان منه إلا أن صحبني إلى مكتبته فوجدت ما فيها من مراجع يكاد يطاول كل المعارف, من التاريخ إلى الفلسفة, ومن الملابس والأزياء إلى المونتاج, من الصورة إلى الكادر, وبلا مبالغة تجاوزت هذه المكتبة (المتخصصة) عشرة آلاف مجلد, علاوة على آلاف أشرطة الفيديو.

هذا ما يملكه من مادة مرجعية يشتغل عليها, أما ما هو متاح له عبر الإنترنت فإنه يطاول كل ما أنتجته قريحة البشر, على الأقل عبر العقود القليلة الماضية. فهل يأتي اليوم الذي يكون عندنا فيه مثل هذا الناقد (المتخصص) في الكتابة المباشرة عن التلفزيون?

 

عبده جبير