إلى أن نلتقي أبوالمعاطي أبوالنجا

"السيد: زلزال"

لم تكن تلك هي المرة الأولى التى أتشرف فيها بلقائه، وفي الواقع أنت لا تلتقي أبدا بالزلزال، إنه هو الذي يجيء، ودائما يأتي فجأة، ومن كل الجهات، الأبواب والنوافذ تتحرك في وقت واحد فلا تدري أهي تفتح أم تغلق؟ المعلقات على الحوائط، والمدلَّيَات من الأسقف تهتز أو تسقط في ذات اللحظة التي تتحرك فيها المقاعد والمناضد على الأرض بها ومن عليها؟! ولكن في كل مرة سابقة كانت الطريقة التي ألقاه فيها، سمح لي بإجراء نوع من الحوار مع النفس، تسمح لي أو لغيري بنوع من حرية الحركة، كأنما [الزلزال] يدعونا للإفلات من حصاره، فيبدو الأمر كله وكأنه مجرد معابثة من كبير جدا مع صغار!!

في هذه المرة كان الأمر مختلفا تماما، كنت في طريقي إلى حجرتي في مجلة "العربي"، فجأة وجدتني أتطوح وأنا في بداية الممر المؤدي إلى حجرة المكتب، استندت بيدي معا إلى حائطي الممر لأحتفظ بتوازني، رآني الجالسون في الصالة [فيما بعد قال لي أحد الجالسين وهو يصف المشهد: " بدا الأمر لأول وهلة كأنك شمشون الذي يهز المعبد"] أواصل الاهتزاز مع الحائطين، لعل إدراكهم لمعنى ما أحسوا به وهم جلوس، التقى بإدراكهم لمعنى ما يحدث لهذا الواقف المتصالب بين حائطين مهتزين، فقد دوت في لحظة صرخة "زلزال" كأنما من كل من كانوا في الصالة!

في لحظة لمحت جميع الجالسين يندفعون نحو الباب، لا أتذكر أن أحدا منهم قد رفع قامته، اندفعوا في حركة قطيع حقيقي كأنهم يتوقَّوْن خطرا من فوقهم سوف يؤجله قليلاً ذلك الانحناء جريت وراءهم، قدماي تتحركان فوق أرض متحركة، تنبعث من الأرض أصوات مكتومة وصاخبة، كأن مئات من المحركات لمئات من الدبابات تجري تحت قشرة الأرض!

كنا في الطابق الأول، والمسافة بيننا وبين مدخل العمارة لا تستغرق ستين ثانية، ومع ذلك ففي هذه الثواني دهمني سؤال: ماذا يفعل أفراد أسرتي الآن؟ وكيف يتصرفون؟ عبر في ذهني الصغار جدا والكبار جدا، في هذه الثواني كنت أشعر بقوة وبوضوح أن الجري عبث تماما مثل الوقوف، فالخطر في كل مكان، ومع ذلك لم أتوقف عن الجري في المكان، لو أستطيع ان أجد نفسي فجأة في غير مكان! وأشعر بقوة وبوضوح أنني كنت طوال حياتي جزءاً من المكان، لا مكان لي خارج المكان، مم أهرب؟ الزلزال هو أنا، كنت أحيانا أصنعه، فلعله الآن يريد أن يصنعني! حتى بعد الموت سأبقى جزءاً من المكان، أهز الأرض أو تهزني لا فرق!

حين يصبح المكان هو الخطر، هو العدو، فأنت لا تملك خياراً حقيقيا، وكل الأعداء السابقين، وكل المخاوف السابقة لم تكن سوى أوهام على طريق حياة لم تلح لك حقيقتها المخيفة سوى الآن!؟

متى بدأت أدرك أنني أصبحت في الشارع؟ وأن العمارات المجاورة تقذف بسكانها في الشارع نفسه، المقذوفون في الطريق يتبادلون نظرات غير مبصرة، يديرون رءوسهم في كل اتجاه قبل أن يكتشفوا لذهولهم أن الأرض لم تعد تهتز، وأن العمائر لم تسقط بعد، وأنهم لا يزالون على قيد الحياة، حتى بعد أن تم لهم ولي هذا الاكتشاف العظيم، بعد أن أصبح البعض قادر، على أن يرسل ضحكات عصبية، أو أن ينفجر باكيا، كان يترسب في داخلي إحساس عميق بأن الإنسان الذي عاش هذه اللحظات لا يمكن أن يعود أبدا ذلك الإنسان الذي كان قبلها..! فقبل هذه اللحظات كانت هذه الأرض، واحدة من أشياء قليلة يمكن الوثوق بها، أما الآن فكيف يمكن لمن عاش هذه اللحظات أن يطمئن أو أن يثق؟ وقد رأى بعينيه كيف يمكن للأم أن تقتل أبناءها حبا أو خوفا أو حماقة!