حياة للحلم وأخرى للواقع

حياة للحلم وأخرى للواقع

تحت عنوان (حقيقة السفر في الزمان) نشرت مجلة العربي في العدد (542) يناير 2004 موضوعا عن نسبية الزمان وتمدده انتهى به الرأي إلى أن السفر إلى الماضي أو إلى المستقبل هو نوع من التصور, ذلك أن النسبية العامة لأينشتاين مرتبطة بظواهر الأشياء فقط, وليست مرتبطة ببنية وجودها المادي, باعتبار أن الزمن هو التغير الذي يطرأ على الأشياء وليس له وجود مستقل.

إن الإنسان عادة لا يدرك من حوله إلا الجزئيات ومنها الجزئيات الزمنية, أو تلك التقسيمات والمصطلحات التي أطلقها على الزمن مثل السنة والشهر واليوم والساعة والدقيقة....إلخ, وهو لا يدرك هذه المصطلحات مجرّدة, بل لابد أن تكون مرتبطة بالأحداث والمتغيرات المادية التي تحدث أمامه, أما الزمن الكلي أو الزمن الحقيقي, فهو بعيد تماما عن مداركه.

فنحن نفهم - مثلا - أن الزمن مكوّن من ثلاث حلقات هي الماضي والحاضر والمستقبل, وأن الماضي قد ذهب وولى ولا نعيش فيه (الآن), ولا يمكن إعادته إلينا مرة أخرى أو السفر إليه, كما أن المستقبل لم يهل علينا بعد, لذلك فنحن لا نعيش فيه (الآن) ولا يمكننا السفر إليه أيضا. فلا يبقى أمامنا سوى الحاضر, فما هو هذا الحاضر? هل هو هذه السنة التي نعيش فيها? أم هذا الشهر? أم اليوم? أم الساعة? أم الدقيقة? أم الثانية?....إلخ.

الإجابة هي أن الحاضر غير معلوم أو غير محدد, فيمكننا أن نقول - مثلا - إننا نعيش في السنة الحالية أو الشهر الجاري أو هذه الساعة...إلخ, وهذه كلها تقسيمات أو مصطلحات خاطئة, إذ يمكن تقسيم كل زمن من هذه الأزمنة إلى نصفين, نصف انقضى ونصف مازال في حوزة المستقبل, فالساعة التي نعيشها (الآن) مثلا انقضى نصفها ورحل إلى الماضي, والنصف الآخر لم يهل علينا من جوف المستقبل, كذلك الحال بالنسبة للدقيقة والثانية, بل إنه يمكن تقسيم الأتوثانية التي هي أصغر وحدة زمنية عرفها الإنسان.

قطار الزمن

وهناك أمثلة أخرى توضح حقيقة هذا (الحاضر), فعندما تتكلم مثلا يكون بعض كلامك قد فرغت منه, والبعض الآخر لم تقله بعد, ولو حركت ساعدك إلى الأمام مثلا يكون جزء من الحركة قد تم, والجزء الآخر يكون في سبيله إلى الوقوع.

لذلك فلا ينبغي أن نفهم الزمن على أنه قطعة من الكعك يمكن تقطيعه إلى أجزاء, بل هو مجرى سيال لا يمكن أن نفصل بين أجزائه, يمكن أن نشبّهه بقطار يسير بلا توقف, فتكون المسافة التي قطعها هي ما نطلق عليها اسم الماضي. والمسافة التي لم يبلغها بعد هي المستقبل, أما المسافة الوسطى فهي تلك التي أطلقنا عليها كلمة الحاضر, إلا أن هذه المسافة أو هذا الحاضر لا يمكن تعيينه أبدًا ما دامت عجلات القطار لا تتوقف عن الحركة, لأنه لو كانت هذه المسافة تساوي ميلا مثلا, فإن جزءا من هذا الميل يكون قد انطوى مع عجلات القطار ودخل كهف الماضي, والجزء الآخر مازال في حوزة المستقبل, حتى لو قلنا إن هذا الحاضر يساوي شبرًا واحدًا أو جزءًا من الثانية, فإن هذا الجزء الضئيل يمكن تقسيمه إلى نصفين, والنصف إلى ربعين وهكذا...فأين هو الحاضر?

وبما أن الماضي قد ذهب بلا رجعة, فإنه يصبح (الآن) غير موجود, كذلك المستقبل غير موجود أيضا, لأنه لم يطل علينا بعد, والحاضر أيضا غير موجود لأنه نقطة غير محددة تربط بين ماض غير موجود ومستقبل غير موجود, فهو أيضا غير موجود.

وقد يعترض أحدنا على هذا الرأي لأنه يلمس الحاضر أمامه بوضوح من خلال الأحداث والمتغيرات التي تجري من حوله, في الوقت نفسه, نحن لا يمكن أن نتخيل أنفسنا نعيش في وعاء زمني غير موجود. وهنا يمكن الرد بأننا نعيش في زمن ما, ولكن ليس بمفهوم هذا الزمن الجزئي, ولكن بمفهوم آخر من الصعب إدراكه هو مفهوم الزمن الكلي, فلو استطعنا أن نتخيل أنفسنا نعيش مثلا في عالم بلا شمس أو نجوم أو جاذبية, أي في زمن لا يبدأ بنهار ولا ينتهي بليل, فإنه يمكن لنا عندئذ أن نفهم حقيقة هذا الزمن حيث تختفي من عقولنا تلك المصطلحات الزمنية الأرضية التي اتفقنا عليها وهي السنة والشهر والساعة والماضي والحاضر والمستقبل, ولكن هذا أمر يصعب تخيّله حتى بافتراضنا وجود مثل هذا العالم الذي لا تسطع فيه شمس ولا يضيء فيه قمر, ذلك أننا لا يمكن أن نتخيل الزمن بلا أحداث أو بلا حركة, فهذه الأحداث هي التي تشعرنا بسريان الزمن أو بهذا القطار السائر دوما بلا توقف.

الزمن المتصل

والحقيقة أنه توجد في داخلنا قوى غير منظورة يمكن أن تسهّل لنا الإحساس بالزمن الحقيقي, بل ربما كان معظمنا يحس بهذا الزمن وإن كنا لا ندرك وسيلة هذا الإحساس, فهو مجرد إحساس لا ندرك كنهه بأننا نعيش في زمن متصل غير مقطوع الأوصال, يمكن من خلاله السفر إلى الماضي وإلى المستقبل, وسيلة هذا الإحساس لا تكمن في الفعل ولا في أي حاسّة من حواسنا الخمس, ربما كانت هي تلك الحاسّة المسمّاة بالحاسة السادسة أو ما بعدها, هذا ما يعلمه الله الذي أنزل الروح, ذلك أننا لا ندرك هذه الروح نفسها بالرغم من أنها لصيقة بأبداننا, ومَن أدرك الروح فقد أدرك الزمن الكلي, كل ما نستطيع أن نفعله هو أن نصف الزمن الكلي, فنقول - بوجه عام - إنه الزمن الذي لا يبدأ ولا ينتهي ولا يمكن أن نقتطع منه جزءا ندّعي أنه الماضي, ولا أن نضيف إليه جزءًا نقول إنه المستقبل.

وبما أن الجزء يندرج تحت الكل, فهذا معناه أن الحياة الدنيا هي جزء من كل, لهذا فمن الممكن للإنسان لو توافرت لديه قدرات خاصة أن يرى شيئا من الكل كأن يرى - مثلا - أحداثا عن بعد - أو كما يقول المقال - أن يشاهد ولو تصوريا أحداثا جرت في الماضي أو يستطيع السفر إلى المستقبل, فيتنبأ بأحداث مستقبلية, وأظن أنه يوجد من الناس مَن خصّه الله بهذه الشفافية.

والخلاصة هي أننا بالرغم من أننا نعيش زمنًا جزئيًا فإننا نندرج تحت لواء الزمن الكلي, أو بمعنى آخر, نحن نعيش الزمنين معا, أو قل إنه نوع من التداخل, دائرة صغرى تقع داخل دائرة كبرى, وهذا يعني أنه لا فرق بين ماض وحاضر ومستقبل, إذ يمكن الولوج لأي حلقة من هذه الحلقات الثلاث, بمعنى أنه لو قدّر لأحد منا أن يحسّ بهذا الزمن, فهو يستطيع أن يجمع الماضي والحاضر والمستقبل أمامه في بوتقة واحدة, كما نجمع عادة بين حياة الحلم وحياة الواقع أثناء النوم, باعتبار أن الأحداث التي نراها في الحلم تقع أثناء حياتنا الواقعية, فكأنها دائرة صغرى تدخل في دائرة كبرى, أي أننا نعيش الحياتين معا, حياة الحلم وحياة الواقع.

لذلك, فربما كانت أحلامنا دليلا على أننا نحيا في نطاق هذا الزمن الكلي, فرموز هذه الأحلام تدل على أحداث جرت في الماضي أو أحداث ستتحقق في المستقبل.

عادل شافعي الخطيب
القاهرة - مصر