الجزائر.. الماضي والحاضر في كتابين الجنرال أوراساس عرض: فوزي الشلق

الجزائر.. الماضي والحاضر في كتابين

مهمات خاصة: الجزائر 1955 ـ 1957

حقق كتاب (مهمات خاصة: الجزائر 1955 ـ 1957), الصادر باللغة الفرنسية عن دار (باران) رقما قياسيا في المبيعات, وتجاوز الـ 200 ألف نسخة خلال شهر واحد. وهو يروي مذكرات جنرال فرنسي متقاعد, يداه ملوثتان بعمليات التعذيب والقتل التي ارتكبها في الجزائر إبان معركة الاستقلال.

لم يكن الجنرال بول أوراساس البالغ من العمر اثنتين وثمانين سنة يعتقد أنه سينتهي إلى المحكمة الجزائية, قبل أن يساق إلى المحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية, حين خرج في البداية, من العتم إلى الضوء, وبدأ يروي عبر مقابلات صحفية, حكايات عن التعذيب والقتل في الجزائر, إبان معركة الاستقلال.

فالجنرال الفرنسي بول أوراساس المتقاعد خارج الحياة العسكرية والسياسية والاجتماعية, لم يبق لديه سوى الثياب العسكرية ووسام جوقة الشرف وذكريات عن معارك أو مهمات خاصة في فيتنام والجزائر وبعض العمليات التي نفذها, في أثناء تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني.. فالجنرال أوراساس كان إلى جانب حكومة فرنسا الحرة التي قادها الجنرال ديجول من لندن, عندما اجتاح الجيش الألماني فرنسا, ونصب المارشال بيتان رئيساً لفرنسا.

قيود تتكسر وبلاد تستقل

الجنرال أوراساس يتحدر من عائلة فرنسية محافظة ووالده كان صديق الكاتبة الفرنسية الشهيرة كوليت التي توفيت سنة 1954, وكتبت مجموعة من الروايات, وضعتها بين الكتاب الفرنسيين المعروفين. وحرص الوالد على تنشئة أولاده في مناخ ثقافي وأخلاقي وإنساني محافظ. فكيف انقلب الجنرال بول أوراساس على ذلك المناخ, وتحول إلى مجرم حرب? كيف كان ينفذ عمليات التعذيب والقتل, التي يرويها في كتابه (مهمات خاصة)?

الأرجح أن الجنرال أوراساس يقسم العالم إلى قسمين: الخير والشر, الحق والباطل, الوطنية والخيانة. ويعتقد أن فرنسا وطنه على حق, أيا تكن النتائج, وأيا تكن الصراعات, وأيا تكن الحروب. وهو ما يكشف عنه كتابه (مهمات خاصة), وتكشف عنه جميع عمليات الإعدام الفردية والجماعية التي نفذها في الجزائر. ومما زاد في انحراف الجنرال أوراساس , وميوله نحو العنف, والعنف المجاني في كثير من الأحيان, المناخ السياسي الذي كانت تعيشه فرنسا على جميع المستويات. فهي خرجت جريحة من الحرب العالمية الثانية, ومنهكة اجتماعيا واقتصاديا, في الوقت الذي كانت تتحرك فيه المستعمرات الفرنسية في اتجاه الاستقلال, وتتصاعد الحركات الوطنية والقومية في القارتين الآسيوية والإفريقية. فمعركة (ديان ـ بيان فو) في فيتنام, سنة 1954, جرحت كبار جنرالات الجيش الفرنسي.. وخرجت فرنسا من منطقة الهند ـ الصينية منكسرة ومهزومة, الأمر الذي جعل سياسييها, يتشددون في مواجهة الحركات الوطنية الاستقلالية, في شمال إفريقيا, وبخاصة في المغرب وتونس والجزائر. غير أن حلقات التشدد الفرنسي, كانت تتفكك الواحدة إثر الأخرى, ليستقل المغرب سنة 1955, ثم تونس سنة 1956, ولتشتد معركة استقلال الجزائر, وتتورط فرنسا في معركة قناة السويس سنة 1956 إلى جانب بريطانيا وإسرائيل وتخرج من تلك المعركة بهزيمة سياسية, تتصاعد على أثرها معركة استقلال الجزائر, التي تحولت إلى معركة سياسية داخل فرنسا, فجاءت بالجنرال شارل ديجول سنة 1958 رئيساً للجمهورية, وأنهت حقبة طويلة من تخبط الأحزاب السياسية الفرنسية وانقساماتها وصراعاتها.

في هذا المناخ السياسي أوفدت حكومة غي موليه الاشتراكية الجنرال بول أوراساس سنة 1955 إلى الجزائر في مهمة خاصة ومحددة واستثنائية. وكان قد سبقه إلى الجزائر عدد آخر من الجنرالات الذين خاضوا الحروب في أمكنة أخرى.. وبخاصة معركة (ديان ـ بيان فو) التي شارك فيها أوراساس نفسه. وكأن أولئك الجنرالات كانوا يبحثون عن انتصارات بديلة مستحيلة, يعيدون فيها إلى الجيش الفرنسي كبرياءه, وإلى فرنسا زهوها الاستعماري.

يروي الجنرال أوراساس قصة انتدابه إلى الجزائر سنة 1955, محدداً الأسباب بتصاعد وتيرة الحركة الوطنية الجزائرية وعجز الحكومات الفرنسية عن إحكام قبضاتها الأمنية والسياسية, على الجزائر. والجزائر في الضمير الفرنسي, وفي الروايات والكتابات الأدبية, هي (منطقة فرنسية)!! بل فردوسهم المفقود الذي يبحثون عنه حتى هذا اليوم.

يتحدث الجنرال أوراساس, عن وسائل التعذيب التي كان يستعملها الجيش الفرنسي, ضد الأسرى الجزائريين لانتزاع اعترافاتهم, ويوجزها بثلاثة: الضرب والكهرباء والمياه.. وغالبا ما كان ينتهي التعذيب بالموت. وفي ليلة واحدة, يعترف الجنرال أوراساس , بأنه قتل أربعة وثمانين أسيراً جزائريا. وقد يزيد العديد في ليال أخرى, أو ينقص, لكن الأمر كان ينتهي في غالب الأحيان إلى الإعدام.. فإما أن يتحول المعتقل الجزائري إلى معترف فمتعاون مع الجيش الفرنسي وأجهزة استخباراته وإما أن ينتهي إلى الموت.. والدفن في مكان غير معلوم.

في الفصول الثلاثة الأخيرة, من الكتاب, يفتح الجنرال أوراساس خزانة أسراره المغلقة, ويعترف بقتل المناضل الجزائري العربي بن مهدي والمحامي الشهير علي بومنجل وعلي لابوانت, قائلاً إن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد أفلتت من يديه, بسبب إحالتها إلى المحاكمة قبل قتلها.. وهي تزوجت في وقت لاحق, أي بعد خروجها من السجن, من محاميها الفرنسي جاك فرجيس.

في التقارير الطبية والعسكرية التي رفعها الجنرال أوراساس , إلى رؤسائه, سابقا وفي ملفات الجيش الفرنسي, تتحدث التقارير عن انتحار العربي بن مهدي بديل بن بله المعتقل, في قيادة جبهة التحرير الوطني, وانتحار علي بومنجل المحامي الذي كان على علاقة وثيقة بالوسط الثقافي الفرنسي. أما في كتاب (مهمات خاصة) فيعترف الجنرال أوراساس بأنه هو الذي (أعطى الأوامر بالإعدام), فالعربي بن مهدي قتل شنقاً, والمحامي بومنجل أعدم بالرصاص, ودفن الاثنان في إحدى المزارع الجزائرية.

وفي السطور الثلاثة الأخيرة من الكتاب, يعترف الجنرال أوراساس بأنه غير نادم على أي جريمة من الجرائم التي ارتكبها في الجزائر من أجل وطنه فرنسا. والسؤال الأكثر إلحاحا وخطورة: ماذا سيحدث إذا فتحت ملفات الجيش الفرنسي, إبان معركة استقلال الجزائر? هل يكون الجنرال أوراساس الوحيد الذي يحاكم بتهمة ارتكاب جرائم حربٍ ضد الإنسانية?

 

الجنرال أوراساس