القلب والموسيقى مصطفى عطري

القلب والموسيقى

يعتبر الإيقاع الموسيقي لقلب الأم أول لحن بشري عرفه الإنسان, منذ تمام الشهر الرابع لتكوينه البنيوي والعضوي من دورة حياته الجنينية, لأن حاسة السمع تعمل وتكتمل في ذلك الوقت من نشأته الأولى, ولهذا نعرف كيف يستطيع الطفل أن يظل هادئًا في رحم أمه خلال فترة الحمل المتبقية, حيث يصغي إلى أجمل موسيقى إلهية مؤلفها وملحنها وعازفها الأول هو القلب, وكذلك يعتبر القلب العضو الوظيفي الأول في حياة الإنسان, حيث يعمل منذ اليوم الواحد والعشرين في تكوينه الأولي. وفي هذا الوقت يتناغم قلب الجنين مع قلب أمه ليعزفا معًا أول لحن بشري مشترك عرفه التاريخ, ألا وهو لحن الحب, ويبكي الطفل بصورة حادة بعد الولادة مباشرة, تعبيرًا عن سخطه ولابتعاده القسري عن سماع موسيقى قلب أمه?!

ومن جمال الحياة أن المولود الجديد عندما يوضع على صدر أمه الأيسر من جديد, يعود للهدوء والنوم, بل والإصغاء لصوت قلبها المفعم بالمودة والرحمة والحب.

ولهذا نعرف لماذا يسجلون صوت قلب أم الطفل قبل ولادته في بعض مراكز الولادة والأمومة في الدول الإسكندنافية, ليبثوه في حجرة الطفل بعد ولادته أو حتى في الحواضن المجهزة لاستقباله, لأنهم يعرفون مسبقا أهمية التواصل الروحي وخاصة بموسيقى القلب, وحتى ينعم الطفل باللحظات الأولى لحياته الدنيوية بأجمل وأعز وألطف وأرق موسيقى محببة للأذن, بل وحتى لا يتعرض الطفل بشكل مفاجئ لضجيج العالم الحضاري وإزعاجاته المختلفة منذ اللحظة الأولى للحياة!

وبعد أيام من الولادة, نجد أن المولود يحب المناغاة ورؤية وجه أمه, وإذا ما بدأت الأم بالغناء لطفلها نراه يسترخي في حضنها ويتابع معها اللحن الجميل.

ولقد أثبتت البحوث العلمية الحديثة أن الأطفال الذين رضعوا من اثداء أمهاتهم وعلى موسيقى قلوبهن لمدة تزيد على السنة, غالبا ما تنمو لديهم المقاومة الطبيعية بصورة كبيرة, ولا يصابون بالأمراض إلا ما ندر, وكذلك أثبتت دراسات أخرى أن الأطفال الذين يدرسون الموسيقى ويعشقونها لمدة أطول, تتحسن نتائجهم في اختبارات الذكاء, ولقد وجد أيضا أن الإنسان يتذكر المعلومات بطريقة أسرع إذا اكتسبها أثناء سماعه لموسيقى خفيفة, فسماع قطعة الموسيقى الهادئة التي تسر حاسة السمع كل مرة, يحدث ترابطا بين المعلومات والموسيقى والمخ, وهذا الترابط يقوي انطباع المعلومات في الذاكرة ويسهل استعادتها في الذهن, كما تحفز الموسيقى سرعة التعلم والإبداع العلمي وكسب الأصدقاء, وبعض الجراحين العالميين يستخدمون الموسيقى كوسيلة للاسترخاء ولتحضير المريض قبل العمل الجراحي, بل وقد يتفق المريض مع الطبيب الجراح على نوع الموسيقى أثناء العمل الجراحي! ولهذا وجد أيضًا أن الموسيقى تستخدم كوسيلة لتخفيض الفترة اللازمة للنقاهة بعد العمليات الجراحية, وكذلك تستعمل بعض المستشفيات الغربية الموسيقى لتسكين الألم, فلقد أثبتت التجارب أن النساء اللاتي يستمعن إلى النغمات المحببة إليهن خلال الولادة, تقل حاجتهن إلى استعمال المخدر والمسكنات بنسبة خمسين في المائة! وتستخدم الموسيقى في علاج بعض الأمراض النفسية والعصبية, وذلك بأن يجلس الإنسان باسترخاء ويغمض عينيه ويتنفس مع إيقاع الموسيقى, وكأنه يتنفس النغمات, ومع الزفير يتخيل أنه يخرج التوتر والشدة من جسمه, ثم يستنشق ثانية, وهو يتخيل أن النغمات تحدث صدى متناغمًا في جسمه! أما الحزن فيمكن علاجه بالموسيقى, كسماع موسيقى متقلبة النغمات مثل موسيقى شوبان أو موسيقى لها صدى وذكريات حلوة بالنسبة للإنسان, وكذلك الغضب يعالج بالموسيقى العالية ذات الإيقاعات المنتظمة مثل موسيقى بيتهوفن أو أصوات الطبول.

والأشخاص الذين يحبون الموسيقى الكلاسيكية والأغاني القديمة والهادئة, غالبًا ما يتمتعون بالذكاء والقدرة على التحمل والخيال الواسع والتحرر السياسي, أما الأشخاص الذين يحبون موسيقى الروك أو الأغاني الصاخبة الجوفاء والتي لا معنى لكلماتها, فينتمون إلى الانفعال والتمرد وإلى حب الاستطلاع, وركوب الأخطار وكثرة الكلام دون تفكير أو حسن تدبير أحيانًا أخرى. أما محبو موسيقى الطرب أو الموسيقى الريفية أو التراثية, فإن هؤلاء يحبون البساطة والمرح ومساعدة الآخرين, وهم جذابون ومتمسكون بالأفكار المحافظة. وعندما نسي العرب موسيقاهم الخالدة على ألحان الناي والعود والقانون, بل وعندما مزجوا موسيقاهم بآلات الإلكترونيات الصاخبة, ظهرت لديهم الموسيقى الضبابية المعاصرة, وسمّوا هذا بالموسيقى الشبابية, بل وتسابقوا لتسجيلها على شرائط الفيديو كليب! بالصوت والصورة, لتخفي وراءها رداءة الكلمة واللحن أحيانًا والصوت أو الغناء أحيانًا أخرى. وعندما زرت البرازيل وجدت أن الموسيقى العربية تعود من جديد وعلى أيدي أبناء المهاجرين العرب الأوائل, والذين أحبوا وتذوقوا موسيقى الكلمة والطرب, والنابعة من إحساس القلب, والتي تسر الأذن والعين معًا. لقد نسي الإنسان المعاصر نفسه هذه الأيام وظن نفسه أنه اخترع الموسيقى عن طريق الصدفة, وعليه أن يعلم دائمًا وأبدًا أنه قلد الطبيعة فقط, وكانت أصواتها مصدر إلهام له, مثل أصوات الطيور وتغريد البلابل, وصوت حفيف الأشجار وخرير المياه وأصوات الأمواج على شواطئ البحار, ومن هذه الأصوات اتخذ مرتكزًا لأصول الموسيقى! ولكن سيظل القلب سيدًا وقائدًا للموسيقى الخالدة, لأنه يشدو دائما بلحن الحب, بل وستظل قلوب طيور الحب تعزف موسيقى السلام والأمل بمستقبل أفضل, رغم أنف ضجيج وصخب موسيقى قلوب صقور الحرب.

 

مصطفى عطري