مساحة ود بسمة الخطيب

مساحة ود

عصفور الجنة

هذه آخر ليلة في هذا السرير. غدا سأكون في سرير آخر, أكثر رحابة وجدّة. لذلك أريد لهذه الليلة أن تطول. وأريد أن أبكي. ليتني أستطيع! لمثل هذا السبب نتحسّر على طفولتنا. فقبل عقدين كنت أبكي كما أريد وعندما أريد. لأسباب تافهة ولأحاسيس متناقضة.

صباح الغد سيبدأ عام جديد في حياتي, فهل مازال يليق بي بكاء الأطفال? وماذا ستفعل أختاي إذا سمعتا بكائي? هل مازالتا تذكران كيف كنا, صغيرات, نتصرف في هذه المواقف? هل تذكران يوم لاقت أمي أبي, العائد لتوّه من عمله, وقالت بصوت مرهق ومتهدج إن صبرها نفد من مشاغباتنا. فعقد جلسة محاكمة طارئة في صالون المنزل, وقبل أن يبدأ استجوابه, انفجرت صغرانا بالبكاء, فاندفعنا (أنا وأختي الوسطى) نبرئها ونؤكد أننا وحدنا المذنبتان? وإذ حبسنا أبي في الصالون, فقد راحت, بين وقت وآخر, تحمل لنا الفاكهة والحلوى خلسة, ثم تطير بفستانها الصيفي القصير كعصفور ينقل الطعام إلى صغاره!

هي ليست الصغرى الآن ولكنها تظل هكذا في ذكرياتي. كما تظل أصغر مصلية عرفتها.

اعتقدت أني أحلّ لغزا إذ قلت لها: ربما هي الجنّة! فهزّت رأسها باطمئنان وقالت وهي توجّه إلي نظراتها الباسمة: هي الجنّة.

وبعد فترة سمعنا بوفاة طفل رضيع, فقالت جدّتي متنهّدة: عصفور جنة. وعلقت الكلمة في ذهني, صرت أتساءل: هل وحدهم الأطفال الرضّع يطيرون إلى الجنّة? وماذا لو ضلّوا الطريق إليها?

ها قد مضت السنوات, ومازالت أختي تنام بهدوء من يحلم بالجنة, وبسلام من يلتقي بالرسول الكريم. قلبها الآن يبتسم, أرى انعكاس بهجته على وجهها البيضاوي المضيء. أما أختي الثانية فترفع الغطاء فوق رأسها طلبا للدفء. وتحرمني من براءة وجهها ورقّته. غدا, ليلا, لن يؤنسني وجودهما قربي.

في الصباح كنت أول المستيقظين. أردت أن أوقظهم كي نتحدث في أي موضوع. ولكني لم أجرؤ على إزعاجهم ورحت أتفقّد الأسرّة الخمسة وأنا أتساءل: كيف سيكون صباحي من دونهم? بمشاجرات ومعاكسات من سأتسلى? ولفكاهات من سأضحك? من سيروي لي صباحا رؤياه ويشكو لي مساء شكواه?

تعلمت هذا اليوم, أن بعض الناس, وإن كبروا, يحتفظون بنعمة الطفولة. فالدموع التي رأيتها في عينيها, كانت هي نفسها دموع الابنة الخائفة من العقاب.

أغادر البيت على أنغام الزمامير, النساء تمطرنني بالزغاريد. أفكّر أن الدموع التي لجمتها هذا الصباح, ستنطلق بجموح مساء, عندما ترى سريري فارغا.

أقبّل الأهل وأعانقهم بيد, وباليد الأخرى أرفع فستاني الأبيض عن الأرض, ثم تنطلق السيارة المزيّنة بي, فأدير رأسي إلى الخلف وأمنى لو أضمّهم إلى صدري كباقة الورد التي أحملها. وأتمنى لو تنبت لي مثلهم أجنحة من نور, كي أحلّق معهم إلى السماء, من دون أن أخشى أن نضل الطريق, لأن أختي تعرفه جيدا, سبق لها أن كانت عصفور جنة في زمن من الأزمان.

 

بسمة الخطيب