أرقام

أرقام

العالم.. محلك سر!

(تلد النساء, ولا يزيد العالم).

هكذا كانت استراتيجية العديد من المنظمات الدولية التي طرحت في النصف الثاني من القرن العشرين فكرة تثبيت عدد سكان الأرض.

كان الخلل قد أصبح واضحا بين الموارد والسكان, وكان الخوف قد تزايد من ذلك اليوم الذي يصبح فيه الجوع قانونا أسمى. حينذاك تولدت هذه الفكرة, فإذا كان من العسير أن تزيد - وبقدر كاف - موارد الأرض: ماء وغذاء وكساء ومعادن وخامات لازمة للحياة فلا سبيل إلا أن تتباطأ مسيرة النسل حتى تصل إلى فكرة التثبيت فيكون القادمون الجدد إلى الحياة متساوين في العدد مع الراحلين من دنيانا.. و..هكذا بدأت برامج الحد من السكان. فعلتها الصين بتحديد الإنجاب بطفل واحد, وفعلتها دول أخرى ببرامج مختلفة ساعد عليها وعي المرأة وتعليمها وظروف اقتصادية كثيرة.

في ذلك الوقت, وحين جرى طرح فكرة التثبيت - والتي تجددت في تقرير التنمية في العالم الذي أصدره البنك الدولي عام (2003), في ذلك الوقت كانت هناك مؤشرات تقول إن أعداد السكان تقفز بشكل غير مسبوق.

كان سكان العالم في العام الأول الميلادي - وطبقا للبنك الدولي: ثلاثمائة مليون نسمة. هؤلاء هم كل الذين عمروا الكرة الأرضية عندما جاء السيد المسيح, واحتاج الأمر الى خمسة عشر قرنا كاملة ليتضاعف العدد ويصبح: ستمائة مليون.. ولم تمض غير أربعة قرون أخرى حتى بات عدد السكان حوالي ثلاثة أضعاف ما كان عليه فأصبح في عام (1900): (1.7) مليار نسمة.. ولكن وخلال مائة عام فقط, أي في نهاية القرن العشرين كان الرقم (6) مليارات هو المعتمد, وكانت التوقعات التي نشرها البنك الدولي في تقرير (2003) أن المسيرة كلها سوف تتوقف عند الرقم (9 - 10) مليارات, وأن التاريخ المتوقع هو العام (2100), بدلا من (2150) كما كانت التوقعات قبل ذلك.

إنها رحلة القرن الجديد تصل بنا إلى مشهد غير مسبوق لا يتعرض فيه سكان العالم الى تزايد أو نقصان, بل سوف يكون الشعار: (محلك سر), وإن اختلفت التفاصيل وأصبح سؤال الموارد والسكان في سياق آخر مختلف.

رحلة الألف ميل

كانت الظاهرة التي حكمت العالم خلال العشرين قرنا الماضية هي ظاهرة التسارع في النمو.. وكان الاتجاه لمعدلات أعلى وأسرع لأسباب واضحة, فقد تقدمت العلوم واستطاع الطب الحديث أن يقضي على الكثير من الأوبئة التي كانت تحصد القرى والمدن والنجوع, وتحسنت الأعمار نتيجة لتقدم الطب ونوعية التغذية ومستوى المعيشة, ومن ثم فقد أصبح متوسط العمر يفوق السبعين في كثير من الدول, ويفوق الثمانين في البعض منها.. بل إن دولا قد شهدت في النصف الثاني من القرن العشرين ما لم تشهده قبل ذلك حيث زاد متوسط العمر المتوقع بأكثر من عشرين عاما دفعة واحدة.

الإنسان - عدا مناطق محدودة - يعيش أكثر.. والأرض تزخر بأبنائها والسؤال عن المستقبل في ظل تركز الزيادة في الدول النامية. فقد سبقتنا الدول المتقدمة لفكرة تثبيت عدد السكان, بل إن البعض منها قد عانى نقصا في عدد السكان.

الزيادة تتركز جنوبا, وهناك دولتان هما: الهند والصين بينهما سباق دائر, ولكن نتيجة لسياسة الضبط التي تتبعها بكين فإن عدد سكانها عام (2050) سوف يصل الى (1610) ملايين نسمة كما هو متوقع بينما يصل عدد سكان الهند الى(1640) مليونا, وبما يجعل دولتين فقط في العالم تحتلان أكثر من ثلث تعداد سكان العالم.. و.. بطبيعة الحال فإن لذلك تداعياته السياسية والاقتصادية, وهي تداعيات قد تفسر لنا التحرك المبكر لدولة عظمى هي الولايات المتحدة التي تتجه إلى مصادر الطاقة في العالم لتتحكم في نمو القادمين الجدد الى مراكز القوة الدولية.

الصراع الدولي يحدث الآن تحسبا ليوم تتحول فيه القوة السكانية الى قوة سياسية وعسكرية واقتصادية طاغية, ليس ذلك بالنسبة للعملاقين الصيني والهندي فقط ولكن بالنسبة لكيانات أخرى كثيرة سيتخطى تعداد كل منها: المائة مليون نسمة.

وطبقا لتوقع البنك الدولي في عام (1994) فإن هناك عشر دول في ذلك التاريخ (منذ عشر سنوات) تخطت حاجز المائة مليون, لكن عدد هذه الدول سوف يصبح (18) دولة عام (2050), ومن بينها دولة عربية واحدة هي مصر والتي قد تصل الى المائة مليون عام (2025), ومن الدول الشرق أوسطية - أو دول الجوار العربي - إيران وتركيا وإثيوبيا.

الدول العملاقة تطور مهم وهو تطور قد يطرح في الوقت نفسه علامات استفهام بالنسبة للدول الصغرى أو متناهية الصغر والفرص المتاحة أمام هذه الدول في وجود آمن ومستقر تتوافر له أسباب المنعة ووسائل التقدم: مالا, وبشرا, وسوقا متسعة, وتكنولوجيا لازمة.

أقول, كان النمو السكاني بدرجة أكبر في الدول النامية التي كانت تحتل (67) في المائة من سكان العالم في منتصف القرن الماضي, فإذا بها تقترب من ثمانين في المائة في نهاية القرن, وكأن العالم يسير للخلف, أو أن التقدم بات محتكرا في الشمال بينما تتسع دائرة الفقر والتخلف في جنوب الكرة الأرضية رغم مظاهر تقدم كثيرة هنا وهناك.

وطبقا لتقرير البنك الدولي (2003) فقد صاحب النمو السكاني العديد من الظواهر: تراجع عدد من يعيشون في فقر مدقع (أي بأقل من دولار في اليوم) ولكن مازال هناك نحو(2.5 - 3) مليار يعيشون في حالة فقر (أقل من دولارين يوميا), أي أن نحو نصف العالم من الفقراء.

صاحبت ذلك ظواهر: سوء التغذية, والتقزم في بعض المناطق, ونقص وزن الأطفال القادمين للحياة.

وصاحبته أيضا ظاهرة تركز الثروة وانتشار الفقر ويشير البنك الدولي إلى أن آفة عدم المساواة آخذة في الاتساع حتى أن متوسط الدخل في أغنى عشرين دولة يفوق المتوسط في أفقر (20) دولة بمقدار: (37) ضعفا.. وهي هوة تضاعفت خلال الأربعين عاما الماضية. الفروق تزيد, والثروة تتركز على مستوى العالم وداخل الدولة الواحدة.

وفي الوقت نفسه فقد تفاقمت مشكلة البطالة وعجز العالم عن توفير نحو خمسين مليون فرصة عمل مطلوبة سنويا كما يرى خبراء منظمة العمل الدولية.

هكذا تمضي الرحلة نحو تثبيت عدد السكان, إنها رحلة الألف ميل لا يكفيها أن نقول: وسوف يتوقف العالم عند الرقم (عشرة مليارات) نعم سوف يتوقف تزايد السكان لكن المشاكل لن تتوقف والرفاهية لن تتحقق.

 

محمود المراغي







 




ش