جمال العربية فاروق شوشة

"تطوّر مشرُوع"

المتأمل فيما يستعمله كتاب هذا العصر وأدباؤه من أساليب يلاحظ أن كثيراً منها قد خرج على معانيه ودلالاته التي كانت له في القديم، والتي لا تزال مدونة في المعاجم والقواميس اللغوية، وأن هذا الخروج هو لون من التطور المشروع الذي يضيف إلى اللغة ويوسع في مقتنياتها وكنوزها، وثروتها الهائلة من المفردات والدلالات والتعابير.

وكثيراً ما قرأنا لبعض علماء اللغة، والحراص على ثباتها واستقرارها وعدم تغيرها، انتقادات وأحكاما بالجهل أو المروق والرغبة في الهدم، على من حاولوا توسيع إهاب اللغة بالاشتقاق والقياس والنحت اللغوي وتوسيع عالم دلالاتها- اللامتناهي- بالمزيد من الظلال في مستويات المعاني، مما جعل عدداً كبير من علماء اللغة، ومن المجمعيين، يتصدون لما اعتبره النقاد انحرافا لغويا، ويعكفون على فحصه ودراسته من حيث السلامة والصحة اللغوية والملاءمة لمقتضيات التطور، وقيام اللغة بعبء التعبير عن العصر ومستحدثاته والنهوض بمسئولية الإبداع فيه، مجيزين منها ما لا يخرج عن ضوابط اللغة العربية ونهجها القويم.

ومن خلال العمل المجمعي في لجنة الألفاظ والأساليب، وفي مجلسه المجمع ومؤتمره، كان هذا الحصاد من القرارات اللغوية حول الكثير من التعابير والأساليب التي دعي الكتاب والأدباء والمبدعون إلى استخدامها دون حرج أو تردد.

من بينها قولنا: جاء فوراً ودفع الثمن فوراً، وجاء فور الحين وفور الساعة. بينما التعبير المألوف في العربية هو: جاء من فوره أي جاء من ساعته، وجاء على الفور أي لا على التراخي. وأقر العلماء: جاء فوراً ودفع الثمن فوراً على الحالية، والفور: السرعة وعدم التراخي، أما قول البعض: فور الحين وفور الساعة، فلا وجه لهما من الصحة.

ومن بينها كلمة: الجيل بمعنى الصنف من الناس أي الجنس من الناس، فالعرب جيل والترك جيل والروم جيل وهكذا، ثم توسع الناس في استعمال الكلمة فأصبح معناها أهل الزمان الواحد، وهو معنى قريب من قول المتنبي:

وإنما نحن في جيل سواسية

شرٍّ على الحر من سقم على بدن

في المعجم الوسيط: الجيل: الأمة، والجنس من الناس، والقرن من الزمن، وثلث القرن يتعايش فيه الناس.

ويرى الدكتور أحمد مختار عمر في كتابه "العربية الصحيحة" أن كلمة "جيل" وردت في الحديث الشريف بمعناها القديم أي الصنف من الناس، ففي الحديث النبوي "ما أعلم من جيل كان أخبث منكم"، أي من صنف من الناس. ثم يقول: "وأول معجم وجدته يسجل هذا المعنى- أي الجماعة من الناس يختلف زمانها- هو تاج العروس للزبيدي الذي توفي عام 1205 هجرية.

وقد استدرك هذا المعنى على صاحب القاموس المحيط الذي اقتصر على قوله: الجيل: الصنف من الناس، فجاء صاحب تاج العروس وقال: ومما يستدرك عليه: والجيل: القرن.

"ثم جاءت المعاجم الحديثة فسجلت هذا المعنى".

ومن بينها كلمة: "غير"، فلم يعرف عن القدماء إدخالهم أداة التعريف عليها أو جمعها على أغيار. أما في الاستعمال الحديث، فإن تعريفها بحيث تصبح: الغير وجمعها على "أغيار" أمران تقتضيهما الحال، وعلى الأخص في لغة القانون عندما يقال هذا حق الغير وهو ملك للغير، وقد أقر العلماء هذا الاستخدام.

من بينها أيضا كلمة: "الشقي"، فالاستعمال القديم لها في اللغة أنها ضد السعيد لكن المحدثين يطلقون الكلمة على اللص وقاطع الطريق. وقد أقر المجمعيون هذا الاستعمال على أن يزاد في شرحه مما يدل على المعنى المطلوب.

ومن بين هذه الكلمات التي توسع في دلالتها الناس بفعل التطور وملاءمة اللغة لمقتضيات الحال كلمة: "الشهية" التي هي في الاستعمال اللغوي القديم مؤنث الشهي، والشهي: المشتهى، والشهوان، يقال: رجل شهي أي شهوان، وشيء شهي أي لذيذ.

والمحدثون يستعملون الشهية بمعنى الشهوة، ويخصصونها للرغبة في الطعام، فيقولون: أصبح مريضا لا يجد الشهية للطعام. أما الشهوة - وهي حركة النفس طلبا للملائم- فقلما تستعمل في هذا المعنى. وقد أقر المجمعيون أن يقال: فلان عنده شهية لكذا، أي نفس مشتهية، على تقدير موصوف محذوف.

كذلك الأمر في تعبير: "ينقصه كذا "، فالعرب يقولون: نقصتُ الشيء أي أذهبت منه شيئاً بعد تمامه، والمحدثون يستعملون : ينقصه بمعنى يعوزه، فيقولون: هو عالم ولكن تنقصه الخبرة والتجربة، وهذا مكان جميل ولكن تنقصه الإضاءة القوية.

وما أكثر ما نستعمله الآن من أساليب وتعابير ومفردات، أضفنا إليها بفعل التطور المشروع مزيداً من المعاني والدلالات والظلال الموحية، لتصبح ملمحا جديداً من جمال العربية وقدرتها على الوفاء باحتياجات العصر.

"بِمَ التعلّل؟"
لأبي الطيب المتنبي

أليس يكفي أن يقال فيه : إنه المتنبي؟

شاعر العربية الكبير، وعبقريتها الشعرية الخالدة على تعاقب الأزمان، والشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فاختلفوا فيه وفي شعره: تأويلا وتقييما، وانبهارا، ورغبة في الهدم، وبحثا عن السقطات. الدوافع شتى، والغايات مختلفة، والنفوس مليئة بالأحقاد.

لكن الحقيقة تبقى من بعدهم جميعا واحدة شامخة.

إن شعر أبي الطيب هو فخر أمته، وبيانها الناصع، والتحدي الذي لا يدفع أو يرد بمثله من الشعر. سيفياته في سيف الدولة الحمداني: أمير حلب وفارسها - وقد عاش في بلاطه قرابة تسع سنوات- وكافورياته في كافور- حاكم مصر الذي خان سيده الإخشيد فاستولى على عرشه بعد موته وعزل ولي عهده الصغير - شاهد على ملامح هذه العبقرية الشعرية إبداعا يسري مسرى البرق في مدارات عدة: همه وشجنه الخاص، وهم قومه: العرب جميعا من حوله، بعد أن تفرقوا وانقسمت إمبراطوريتهم إلى دويلات يحكم أغلبها غير العرب:

وإنما الناس بالملوك، وما

تفلح عرب ملوكها عجم

لا أدب عندهم ولا حسبٌ

ولا عهودٌ لهم ولا ذِمم

بكل أرض وطئتها أممٌ

ترعى بعبد كأنها غنمُ

عاش المتنبي (303 ه/ 354 ه) حياة عاصفة. يدفعه طموحه، وولعه بالمجد، وتسكنه رغبته في الثروة والجاه، ويثقل قلبه فساد الدنيا وهوان الناس وتغير الأحوال. يبلغه- وهو بمصر- أن قوما نعوه في مجلس سيف الدولة بحلب، وكأنهم يتمنون وفاته وينفسون عليه حياته ومجده الشعري الذائع الصيت فينزف قلبه شعرا يفيض بالحزن والكبرياء. إن النصال تتكسر على النصال.. وقد بعد الحبيب ولم يعد هناك من يرجوه أو يأمله:

بم التعلل لا أهل ولا وطن

ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكن

أريد من زمني ذا أن يُبلغني

ما ليس يبلغه من نفسه الزمن

لا تلق دهرك إلا غير مكترثٍ

ما دام يصحبُ فيه روحكَ البدنُ

فما يدوم سرور ما سررت به

ولا يردُّ عليك الغائب الحَزَنُ

مما أضر بأهل العشق أنهمو

هووا، وما عرفوا الدنيا وما فطنوا

تفنى عيونهمو دمعا وأنفسهم

في إثر كل قبيح وجهه حسن

تحملوا، حملتكم كل ناجية

فكلُّ بيْن عليّ اليومَ مؤتمنُ

ما في هوادجكم من مهجتي عوضٌ

إن مت شوقا ولا فيها لها ثمن

يا من نُعيتُ على بعد بمجلسه

كل بما زعم الناعون مرتهنُ

كم قد قتلتُ وكم قَدْ مِتُ عندكم

ثم انتفضتُ فزالَ القبرُ والكفنُ

د كان شاهد دفني قبل قولهمو

جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السَّفنُ

رأيتكم لا يصون العرض جارُكمو

ولا يدرُّ على مرعاكمو اللبنُ

جزاء كل قريب منكمو مللٌ

وحظ كل محبٍّ منكمو ضَغَنُ

وتغضبون على من نال رفدكمو

حتى يعاقبه التنغيص والمننُ

إني أصاحبُ حلمي وهو بي كرمٌ

ولا أصاحب حلمي وهو بي جُبُنُ

ولا أقيم على مال أَذِلُّ به

ولا ألذ بما عِرْضي به دَرِنُ

سهرتُ بعد رحيلي وحشة لكمو

ثم استمر مريري وارعوى الوسنُ

وإن بليتُ بود مثل ودكمو

فإنني بفراقٍ مثله قَمِنُ