جمال العربية

جمال العربية

هل اغتربت لغتنا بين أهلها?

حول قصيدة شاعر القطرين خليل مطران

تقول لنا سيرته كما جاءت في المجلد الأول من موسوعة أعلام الفكر العربي: هو خليل بن عبده مطران, شاعر عربي لقّب بشاعر القطرين, حيث ولد في أول يوليو سنة 1872 في لبنان ثم قضى معظم حياته في مصر. وكان مسقط رأسه في بعلبك في أسرة من أولاد نسيم الذين ينتهي نسبهم إلى الغساسنة.

وقد نزحت أسرته - أولاد نسيم - إلى وادي البقاع بالشام في القرن السادس عشر, وكان أبوه يعمل بالزراعة, فلما بلغ خليل سنّ الدراسة أرسله إلى زحلة ليتعلم القراءة والكتابة, ثم انتقل إلى بيروت حيث دخل المدرسة البطريركية وأتمّ دراسته الثانوية وهو في السابعة عشرة من عمره.

وقد درس اللغة العربية على يد الشيخ إبراهيم اليازجي شيخ العلماء والأدباء في عصره وبرع فيها, كما أتقن اللغتين الفرنسية والتركية إتقانا مكّنه من أن يترجم عنهما. وحدث أن كتب في شبابه شعرًا انتقد فيه السلطان عبدالحميد مما أحفظ عليه الحكومة التركية التي كانت تحكم الشام في ذلك الوقت, فهاجر من لبنان مسقط رأسه هربا من ظلم الحكم التركي إلى باريس وأقام فيها سنتين. وفي سنة 1893 غادر باريس إلى وطنه الثاني مصر, واشتغل بالصحافة محررا في جريدة (الأهرام), وظل يعمل بها سبع سنوات حتى 1899. وفي سنة 1900 أصدر (المجلة المصرية) لمدة سنتين, ثم عين مديرًا للفرقة القومية للتمثيل (المسرح القومي الآن).

ترجم خليل مطران مسرحيات شكسبير: عطيل, وتاجر البندقية, وماكبث, وهاملت, وغيرها وقام بالدور الأول فيها جورج أبيض. كما اشترك مع شاعر النيل حافظ إبراهيم في ترجمة كتاب (الموجز في الاقتصاد) وعاش عمره عزبًا لم يتزوج.

وفي ميدان الشعر, يُعدّ خليل مطران حلقة اتصال بين مدرسة البعث التي بدأها محمود سامي البارودي في أواخر القرن التاسع عشر, وحركة الاتجاهات الحديثة في الشعر ما بين الحربين العالميتين (1914 - 1939). فقد كان أكثر تحررا من زميليه شوقي وحافظ, من قوالب الشعر القديم, وصوره وأخيلته. وكان ما يعنيه هو التعبير عن وجدانه, وهو ما صرّح به في مقدمته لديوانه الأول سنة 1908. كما تتجلى في أشعاره وحدة القصيدة. كما تأثر في قصائده القصصية بالثقافة الفرنسية, حتى إنه يعتبر أول من طوّع الشعر العربي لهذا اللون من الشعر القصصي. وله كتاب تاريخ عنوانه: (مرآة الأيام في ملخص التاريخ العام). فهو إذن واحد من أبرز رواد التجديد في الشعر العربي. وكانت وفاته في الأول من يوليو عام 1949 عن سبعة وسبعين عامًا.

لا يفاجئنا من شاعر, هذا تكوينه المتكئ إلى معرفة عميقة وثقافة لغوية وأدبية تراثية على يد العلامة اليازجي وغيره, أن تكون علاقته بالعربية قوية الوشائج, قوامها الاعتزاز والحرص عليها والتنبيه - في شعره وكتاباته - إلى ما تعانيه هذه اللغة من أهلها إهمالا وإنكارًا ولا مبالاة. وإذا كان شاعر النيل حافظ إبراهيم قد أبدع من هذا المنطلق نفسه - الغيرة على اللغة والدعوة إلى الاهتمام بها والمحافظة عليها - تائيته الشهيرة التي يقول في مستهلها:

رجعت لنفسي فاتهمتُ حصاتي(1) وناديت قومي فاحتسبتُ حياتي
رموني بعقم في الشباب, وليتني عقِمْتُ فلم أجزع لقول عُداتي(2)
وسعتُ كتاب الله لفظا وغايةً وما ضقتُ عن آيٍ به وعظاتِ
فَكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ وتنسيق أسماءٍ لمخترعاتِ


وفيها البيت الذي لم أجد أفضل منه شعارًا لبرنامج (لغتنا الجميلة) منذ عام 1967 حتى اليوم:

أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ فهل سألوا الغواص عن صدفاتي


وفي بعض طبعات الديوان: فهل ساءلوا (والصيغتان صحيحتان لغةً ووزنا).

نشرت قصيدة حافظ إبراهيم سنة 1903, وبعدها بسنوات عدة, كانت قصيدة خليل مطران (عتبْ اللغة العربية على أهلها) ثم أضاف هذه الكلمات: وقد آثروا عليها اللغات الأخرى, إنها تستجير بالدكتور طه حسين بك, وفيها يقول مطران:

سمعتُ بأذْن قلبي صوْتَ عتَبْ له رقراق دمعٍ مُستهلِّ
تقول لأهلها الفصحى: أعدلٌ بِرَبِّكُمو اغترابي بين أهلي?
ألستُ أنا التي بدمي وروحي غذَتْ منهم وأنمتْ كلَّ طفْلِ?
أنا العربيةُ المشهودُ فضلي أأغدو اليوم, والمغمور فضلي?
إذا ما القوم باللغة استخفّوا فضاعت, ما مصيرُ القوم? قلْ لي
وما دعوى اتحادٍ في بلادٍ وما دعوى ذِمارٍ مُستقلِّ?(3)
فسادِ القوم فيه دليلُ عجْزٍ فهل معه يكون صلاحُ فعْلِ?
بُنيّات الحمى أنتنّ نسلي فإن تُنكرْنني أتكُنَّ نسلي?
ويا فتيانه إن أخطأتْني مبرتكم, فإن الثكل ثكْلي
يحاربني الأولى جحدوا جميلي ولم تردعهمو حُرماتُ أصلي
وفي القرآن إعجاز تجلّت حِلايَ بنوره أسْنى تجلِّ
وللعلماء والأدباء فيما نأتْ غاياتهُ مهّدْتُ سُبْلي
إذا ما كان في كلمي صعابٌ فلا تأخذ كثيري بالأقلِّ
وهل لغةٌ قديمًا أو حديثًا تُعدُّ بوفْرة الحسناتِ مثلي?


ثم يقول خليل مطران:

فيا أُمّ اللغاتِ عداكِ منّا عقوقُ مساءةٍ وعقوقُ جهْلِ
لكِ العوْدُ الحميدُ فأنتِ شمسٌ ولم يحجبْ شُعاعَكِ غيرُ ظلِّ
دعوْتِ فهبّ من شتّى النواحي ميامينٌ أولو حزْمٍ ونُبلِ
برأيٍ فيكِ يكفلُ أن تُردِّي مكرّمةً إلى أسمى محلّ


وفي المقطع الأخير من قصيدته, يتحدث مطران عن عميد الأدب العربي الراحل الدكتور طه حسين بك (وقد سبق ذكره في تقديمه لقصيدته).

فهو في رأي مطران صانع نهضة أدبية وفنية, تقوم على النقل والعقل, وهو حارس هذه اللغة التي تعاتب وتشكو, وهو في خصوبته وفضله يفيض كما يفيض النيل عطاء وخيرا, وهو يأمل فيه أن يشنّ حربا على كل من يسيء إلى اللغة أو يعتدي عليها. يقول مطران:

و(طه) في طليعة من أجابوا يُهيئُ نهضةً في المُستهلِّ
بموفوريْه: من أدبٍ وفنٍّ ومذخوريْه: من عقلٍ ونقْلِ
يفيض كما يفيضُ النيلُ خصْبا ويُحيي الحرْثَ في حَزْنٍ وسهلِ(4)
ويبعثُ في شباب العصر روحًا هو الروحُ الذي يبني ويُعْلي
إذا ما جاول (5) الفرسانَ جلّى(6) وخلّف شُقةً دون المُصلِّي(7)
فكيف به إذا ما شقّ حرْبًا على بِدْع الضّلول أو المُضلّ


ولا يكتفي مطران بهذه الصرخة المدوية التي صاغها على لسان اللغة العربية - كما فعل حافظ إبراهيم من قبله - في لغة رشيقة وصياغة بديعة, بل هو يعدو إلى الموضوع نفسه في مناسبة شعرية أخرى, وهو يبدع قصيدة ثانية يسميها: (في تقدم اللغة العربية, والعيب في الجمود), يعلن فيها - بكل الوعي والجرأة في زمانه أن حياة اللغة العربية في تجدّدها, واتساعها للفتوح الباهرة التي بها تكون لغة العصر, صالحة للوفاء باحتياجاته, قادرة على القيام بعلومه وآدابه وفنونه, متسعة للجديد من المصطلحات وألفاظ الحضارة, فهذا هو الطريق لرفعتها, لتقوم بدورها المأمول في توحيد أبنائِها, وتدعيم روح الأخوّة بين أهلها. يقول مطران:

ماذا يريد من الحقيقة مُسقطٌ تكليفَها عن نفسِهِ بتوهّمِ
ماذا يريد من المعالي نائمٌ والنجم مزدهر لغير النّومِ
لنعشْ معاش زماننا ولننتهز فرص النجاح نفُزْ به أو نسْلِم
لن ترجع العربية الفصحى إلى ما كان منها في الزمان الأقدمِ
ما لم يعدْ ذاك الزمانُ وأهلهُ والعادُ, والأخلاقُ حتى جُرْهُمِ
للجاهليِّ لسانُه, ومَن الذي ينفي من الفصحى لسان مُخضْرمِ
إن التجدّد للسان حياتهُ ومن الذي يُحييه غيرُ المُقدَمِ?
في عصرنا للضاد فتحٌ باهرٌ زيدتْ به فخرًا, فهل من مأثمِ?
من فرّق الأخويْنِ يستبقَانِ من طُرقٍ لرفْعتها, أليس بمُجْرمِ?


هذه الدعوة الحائرة إلى التجديد في اللغة, وفتح أبوابها ونوافذها للهواء الجديد, ونبض العصر - لأن حياتها في التجدد كما قال - نطالعها في تقديمه لمطوّلته الشعرية (نيرون) التي بلغ عدد أبياتها 326 بيتا في قافية موحدة, قبل أن يلقيها على مسامع جمهوره, مفصحا عن أفكاره عن هذا التجديد بكل الجرأة والشجاعة والوضوح, وهو يقول: (لقد أردت بمجهود نهائي ختامي أبذله, أن أبيّن لإخواني من الناطقين بالضاد ضرورة نهج مناهج أُخر لمجاراة الأمم الغربية, فيما انتهى إليه رُقيّها شعرًا وبيانًا, وفي لغتنا الشريفة معوان على ذلك, وأيّ معوان, إذا أقلعنا عن الخطة التي صلحت لأوقاتها السالفات, إذ كانت أغراض الشعر فيها قليلة محدودة, ولكنها لا تصلح لهذا الوقت الذي بعدت فيه مرامي الألباب, وصار فيه - بفضل البرق والبخار وسائر أعاجيب الاختراع - كل أفق بعيدٍ قريبا, كأنه وراء الباب.

بل قد أقول وليتني أوفق, في بعض ما سأنشده, إلى إقامة دليل, وإن قلّ في شعري, على أن اللغة العربية التي تجود علينا هذا الجود, وأيديها مغلولة عن العطاء بتلك الأغلال الثقيلة, قادرة - متى فكّت عنها الربط - على فتح أبواب كنوزها التي لا نهاية لها,. ومنح شعرائها من فرائد المفردات وبدائع الجمل ورائع الاستعارات, ما يبقي لها المقام الأول في الإعجاز).

ثم يقول مطران: (أردت - بحق السنْ, وبحق المران المتصّل والارتياض القديم على قول الشعر - أن أتمشّى في طريقي هذا الجديد, بعد أن أكون قد أثبتّ - بنهاية المستطاع - أن الأسلوب الحديث لم يُتخذ لعجزٍ عن النظم بالقافية الواحدة, بل لرغبة في نوع آخر من النظمْ, يفتح في وجْهِ والجِه أقصى الآفاق, ويردّ على اللغة - من الحياة والقوة - ما تعود به عاملاً بين أكبر عوامل الرقيّ في الأمم).

لقد ظلم خليل مطران في حياته وبعد مماته, طغت عليه شهرة معاصريه من الشعراء الكبار: شوقي وحافظ, فتراجع اسمه إلى المرتبة الثالثة, ولم يلتفت الذوق الأدبي السائد, وهو ذوق تربى على الإعجاب بالشوقيات التي أبدعها شوقي والحافظيات التي أبدعها حافظ, لم يلتفت إلى ما في شعر مطران من تجديدِ, ومغامرة شعرية مغايرة, وانفلات من أسْر الموروث الشعري, وانفتاح أكثر رحابة, وتحليق أقوى أجنحة على ما لدى الآخرين - خاصة الفرنسيين - من شعر مختلف وأخيلة مغايرة وألوان من الإبداع الشعري - كاللون القصصي مثلاً - لم يعرفها شعراؤنا, فخاض مجال التجديد, مستعينًا بثقافته الواسعة, وإتقانه للفرنسية والتركية, فكانت فتوحه الرائدة في الشعر العربي الحديث. ولقد كان ارتباط مطران بالتجديد سببًا في اختيار شعراء جماعة أبولّلو له ليكون رئيسًا شرفيًا للجماعة بعد رحيل شوقي أول رئيس شرفي لها في أكتوبر عام 1932. وكان اختيار مطران اعترافًا من هؤلاء الشعراء الشباب الثائرين المجددين بأنه رائد في مجال التجديد يستحق أن يتوّجوه عليهم, وأن يمضوا من ورائه, متابعين ومثابرين.

لكن إحساس مطران العميق بأن شعره لم يصل إلى الناس بالصورة التي وصل بها شعر شوقي وحافظ إليهم, أورثه حسرة وألمًا, وحزنًا طواه بين حناياه, فلم تكن له علاقات شوقي الاجتماعية الواسعة, خاصة بالصحافة, ولا قدرة حافظ في غشيان المحافل والمنتديات والجلجلة بشعره في المناسبات والمهرجانات, كان حيّيا خجولاً مؤثرًا للعزلة والانطواء, فانعكس هذا على شعره, لا يُروّجُ له كما يُروّج لشعر غيره, ولا يلتف من حوله - من المعجبين والمُريدين - أمثال الذين التفّوا من حول شوقي وحافظ, واختلفوا فيما بينهم: أيّ الشاعرين المُقدّم على صاحبه? أيّهما بلغة مطران: المُجلّي أي الأول في السباق وأيهما المُصلّي أي التالي له في المنزلة والترتيب? أما مطران, فلا اختلاف عليه, لأن الجميع وضعوه دائما في مرتبة أخرى, فهو الثالث في الترتيب!

هذه الحسرة وهذا الشعور الحزين, نطالعهما في آخر قصيدة لمطران, وكأنها بمنزلة اللحن الأخير الذي يوقعه على أوتاره, لحن الرضا وسكينة النفس, حين يقول:

ماذا يريد الشعر منّي? أخْنى عليه عُلوّ سنّي
هل كان ما ذهبت به الأيّامُ من أدبي وفنّي?
أحسنتُ ظني, والليالي لم توافق حُسْن ظنّي
ورجعْتُ من سوقٍ عرضتُ بضاعتي فيها بغَبْنِ
أفكان ذلك ذنْبها أم كان ذنبي? لا تسلْني!


----------------------------------
(1) حصاتي: أي رأيي وعقلي.
(2) عداتي: أعدائي.
(3) الذمار: هو الحمى والوطن وما ينبغي على الرجل حمايته.
(4) الحزن: الأرض الصعبة الخشنة والغليظة وعكسها: السهل.
(5) جاول: طارد وصاول.
(6) جلى: سبق وجاء أولا.
(7) المصلّي: التالي في الترتيب بعد المجلّي.

 

فاروق شوشة