إلي أن نلتقي

إلى أن نلتقي

رشوة.. تاريخية

في ساحات التاريخ التي جُبت بعضها قارئا, وبعضها متفرجًا - سواء كانت هذه الفرجة حية في الأسفار, أو شبه حية عبر الشاشات الكبيرة والصغيرة - لم يستوقفني شيء مثل السؤال عن مصير خمسمائة أتان كان لها أثر خطير في مآل الإمبراطورية الرومانية, نعم خمسمائة أتان, أي خمسمائة أنثى من إناث الحمير, وليس المقصود من التعبير أي بعد مجازي, مثل أنسنة الحيوان, أو حيونة البشر.

هذه الأتن الخمسمائة كانت جزءًا أساسيًا من ركب (سابينا بوبيا) محظية الإمبراطور نيرون المفضلة, وكانت تتبعها أينما ارتحلت في أرجاء (إمبراطوريتها) الواسعة, فقد صارت إمبراطورة - عمليًا لا شرعيًا - بما لها من حظوة عند نيرون, وكان لهذه الأتن أكبر الإسهام في هذه الحظوة, لأن سابينا بوبيا كانت تستخدم حليب هذه الأتن لتستحم به كلما أرادت ليصير جلدها أنعم وأطرى, وهو اعتقاد ساد في روما القديمة, ولعله لايزال متداولا في أماكن أخرى من العالم, بالرغم من أن المعطيات المعرفية تشير - فولكلورياً - إلى أن رضاعة لبن الحمير تورث العناد, وأكل لحومها يورث الجلد, وفي قول آخر يمنح الذكاء! ولعل المقصود هنا هو الحمار البري لا الحمار المستأنس, المكروه أكله, وربما المحرم شرعًا, والذي اقترح البعض بحث استثماره - أي لحم الحمار الأهلي - في حل أزمة البروتين ببعض بلاد العرب التي يكثر فيها, وهو يقوم بهذه المهمة فعليا لإسكات جوع سباع وضباع ونمور ونسور حدائق الحيوان, والسيرك, إضافة لمحلات الجزارة التي تؤاخي بين الحيوان والبشر.

المهم, شدت انتباهي أتن (سابينا بوبيا) الخمسمائة, حتى أنني استخدمتها في قصة (تلسين) على الواقع عبر زيارة (باراسيكلوجية) للتاريخ, ولم ينتبه لها غير ناقد واحد, وهذا كثير جدا وجميل جدًا في زماننا.

لم تُشبع القصة فضولي تجاه تراجيديا هذه الأتن, وبالأحرى تجاه حليبها وأثره المنعم والمطري لجلد معشوقة الطاغية. ولاأزال أتساءل: ما العلاقة بين الطغيان ونعومة الأنثى? ولأن لديّ يقينا سيكلوجيا في أن إناث الطغاة هؤلاء لسن إناثا حقيقيات, فثمة شوارب ولحى تختفي وراء نعومة جلودهن, بل إن فيهن شهوة للتسلط الذكوري (البطريركي) يتواضع أمامها تسلط الطغاة الذكور أنفسهم. المسألة إذن صفقة: أنثى الديكتاتور تنعم جلدها وتطريه لترضي رغبات الطاغية التي تكون (سادية) في جوهرها, وخاوية من أي معنى حقيقي للفحولة, ناهيك بفقرها المدقع في حنو الحب وتأمل الجمال! أما الديكتاتور فهو يتنازل في المقابل عن بعض سلطاته لتتسلط بها الأنثى فتحكم وتتحكم.

إذن القضية رشوة, فساد متبادل بين الطغاة ومحظياتهم, والثمن الباهظ تدفعه الشعوب, بل تدفعه الحياة كلها, بما فيها من حيوان وطير وأرض وبحار وأنهر, وتمثلها في حالتنا هذه إناث الحمير اللائي عانين ذلك الإدرار التاريخي القسري, أما ذكور الحمير..فحدّث ولا حرج.

 

محمد المخزنجي