واحة العربي

القلم
قدرة العقل وطاقة القلب وكاتب التمائم والشعر وحيثيات الأحكام

القلم هبة إلهية، أداة الكتابة، وأقرب الأدوات - جميعاً - إلى قلب الإنسان، ويطلق أحيانا على سورة (ن) في القرآن الكريم: سورة القلم تكريماً له، كما جاء في أولى السور التي نزلت على النبي العظيم (الذي علم بالقلم)، ومع صغر حجمه بالنسبة للفأس والسيف والمدفع وكبشه الطبيخ إلا أنه هو القادر على إضاءة المسافة بين السماء والأرض، وفي المقابل يمكنه أن يطفئ المصابيح أيضا، شرس قوي حزين ومراوغ، يختصر قدرة العقل وطاقة القلب في سنِّه المدبب ليصنع الأعاجيب، وكلما تغذى جيدا وتشذب جيداً وشحن جيداً زادت رهافته وبصيرته وخطورته، وعندما تتقلب به الأمور يصيبه الاضطراب والوجل، ولذا فإن القلم يظل طوال حياته ينظر بنصف عين إلى السلطة: يداورها وتداوره حتى يغض أحدهما البصر عن الآخر، وهي- إلا فيما ندر- أكبر أعدائه بعد الجهل، والسلطة الذكية لا تقع في مأزق مع القلم، وأخطر ما يمكن أن يواجه القلم الأنواع الرديئة من الورق، واليد التي استغرقها عدّ النقود، والحقد، والأصابع التي أجادت فتل حبال المشانق، والجوع الشديد، والكتابة دون اقتناع، والرائحة النتنة، والتدليس والتزوير، وجفاف العقل، وقصائد الشعر السّاذج.

ولغرام السلطات به استعارته عنواناً لأخطر إداراتها: قلم المباحث وقلم الشكاوى وقلم المخابرات، ثم هناك- ولا يزال- قلم المحضرين الذين يتولون إبلاغ وتنفيذ الأحكام، لكن الذي يحط من شأن القلم إدمانه كتابة التقارير، والشكاوى الكيدية، ونصوص الأدب فاقدة التألق، والتأشيرات الرقابية، وإنصاته أكثر مما يجب لما يحدث في الفراش، ونكوصه عن قول الحق، وسكوته عن مواجهة الباطل، وكتابة التمائم والأحجبة، والصكوك تحت الإذعان، ورسم حواجب الأنثى ورموشها.

والقلم هو الأداة الوحيدة التي تعيش عمرها محاطة بهالة من الإشارات الخفية المنذرة، ليست من السلطة- بأنواعها- فقط، بل ومن الأخلاق، والمتواضعات الاجتماعية، والتناقضات الوطنية، وأكل العيش، والأصدقاء، والعلاقات الخاصة، والتاريخ المستقر، والتصادم مع الأقلام الأخرى، وكثير ما يفقد القلم قدرته على استقبال هذه الإشارات المنذرة فيداهمه الصراخ والنحيب والانفعال والافتعال تمهيداً لأن يصبح شهيداً.

والقلم يفوق المحراث في عمق الخطوط، والصاروخ في اختراق الأجواء العليا، والدرر في الاستيلاء على قلوب من لهن قلوب، واللسان في النفاق، ومبضع الجراح في التمزيق، والورد في أريجه، كما أن ضجيجه أعلى من أصوات الآلات الموسيقية في الألحان المعاصرة، وأكثر صخباً من أفراح الرعاع، لكن أكثر الأقلام المعاصرة صفاء: أحمد بهاء الدين، وحزنا إنشائيا غامراً: المنفلوطي، وجسارة تتجاوز الحمق: زكي مبارك، وسخرية: المازني ومحمد عفيفي، وطزاجة حامية: يوسف إدريس وزكريا تامر، وسعادة: كل كتاب صفحات التسالي، وعمقا: عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود، واتساع أفق: حيثيات الأحكام القضائية، وشراهة: نقاد الأدب، وتألقا: مصطفى أمين وبعض أفراد مدرسة التابعي، وأجمل قلم تزوج من ريشة هو الذي أثمر صلاح جاهين، وهناك آخرون تحول بيني وبين منحهم بعض الحق: المنافسة، أو الصداقة، أو سوء الفهم، وهي الأمور التي تحاصر قلمي وتشله عن عمله في بعض الأحيان وتجعل إيقاعه بطيئا كإيقاع أقلام الوشم على الجلد.