الأندلس وإعادة تعريف الهوية

الأندلس وإعادة تعريف الهوية

اعتبر الإسبان الحقبة الإسلامية من تاريخ غرناطة لحظة عار، وحاولوا نزعها من ذاكرة التاريخ، وقامت محاكم التفتيش بعمل دءوب من أجل تغيير هوية الأندلس.

قدّمت رواية «ثلاثية غرناطة» لـ«رضوى عاشور» تمثيلاً مفصلاً للتحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى عرفها المسلمون إثر سقوط «غرناطة» على يد الإسبان. دخلت جيوش قشتالة المدينة في أول عام 1492م، فوقع تبادل مفاجئ في الأدوار. لم يعد أبو عبدالله الصغير ملكا. آلَ المُلك إلى فرديناند وإيزابيلا الكاثوليكيَّين، وشُرع في تغيير هوية المدينة. رُفع صليب فضي كبير أعلى أبراج الحمراء ليراه القاصي والداني تأكيداً لنصر ديني نهائي تحقّق بعد حروب الاسترداد الطويلة، ورتّلت صلاة «الحمد» الكاثوليكية، وأصبح مسجد المدينة في حيّ «البيازين» كنيسة «سان سلفادور» وحُظر الأذان. حُبس المسلمون في حيّهم شبه المغلق، وأُحرقت الكتب والمخطوطات في ساحة «باب الرملة»، ونكّل بالمجاهدين. سعد ونصر ولدا السلطان أبي الحسن عليٍّ سمّيا نفسيهما «الدوق فرناندو دي جرانادا» و«الدوق خوان دي جرانادا». ثم أن الوزير يوسف بن كماشة ذراع بني الأحمر «الذي فاوض باسم الأمة» تنصّر، بل ودخل سلك الرهبنة.

اعتبرت الحقبة الماضية من تاريخ غرناطة لحظة عار، وتأسس نزوع جذري لمحو ذاكرتها، فارتسمت خطط محكمة لإعادة تعريف الأندلس بكاملها. ولكبح جموح الأهالي، وتمرّدهم، ينبغي الشروع بسياسات التنصير. لزم ذلك إتلاف الكتب، وحظر الحديث بالعربية، وإلغاء الشعائر الدينية في المساجد إذ تحوّلت إلى كنائس، ومنع كل من الختان وبيع الحناء، وأغلقت الحمامات والمطاعم العربية، ولم يسمح بتسجيل المواليد بأسماء لها صلة بالعرب، وارتفع في الأفق سيف اللاهوت؛ إذ اتهم المسلمون كافة بالضلالة والكفر، ولم تعد أرض الأندلس صالحة لوجودهم.

وإذا كان فضاء السرد قد ازدحم بأسماء عربية في الجيل الأول من شخصيات الراوية، جيل الأجداد، مثل: جعفر، وحسن، ونعيم، وسعد، ومريمة، وسليمة، وحامد، وعائشة، فلا نجد في الجيل الأخير، جيل الأحفاد، غير: إدواردو، وروبرتو، وفرناندو، وكارلوس، وجلوريا، ولوسيّا مورينا، وماريّا بلانكا، وإسبيرانزا، ودييجو، وفرانسيسكو، ولويس. فخلال مائة عام جرى تغيير هوية الأندلس العربية إلى هوية أخرى مختلفة. وفرة أسماء عربية في البداية تقابلها وفرة أعجمية. خيّم الاستعجام والاستبهام في نهايات السرد، ولكي تقرأ رسالة كُتبتْ بلغة الضاد ينبغي البحث عن قارئ تمكّن من تعلّم العربية سرّا، وتوارثها حية في ذاكرته طوال قرن. وبدل التنوّع الخلاق الذي كان يعوم على سطح العالم الافتراضي للسرد، اقتصر الأمر، في نصف القرن الأخير من أحداث الرواية، على بحث في متابعة مصائر بضع شخصيات حاولت أن تتشبث بوجودها في الأندلس على الرغم من كل عمليات المحو الديني والثقافي التي تعرّضت له.

سياسة الاجتثاث

شرع القشتاليون حال السيطرة على غرناطة في حملة اجتثاث شرسة طالت كل شيء، وأول ذلك تخريب ركائز الهوية، فتأسس «ديوان التحقيق/التفتيش» الذي كلّف بمراقبة السجل الكامل لسكان الأندلس. وذهبت أدراج الرياح بنود الصلح بين الإسبان والمسلمين الذي أمضاه المَلِكان، ونصّ على: تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، وإقامة شريعتهم على ما كانت، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت، والأوقاف كذلك، وألا يدخل النصارى دارَ مسلم، ولا يغصبوا أحداً، وألا يولّى على المسلمين نصرانيٌ ولا يهوديٌ ممن يتولّى عليهم من قِبل سلطانهم قَبل، وأن يفتكّ جميع من أُسر في غرناطة من حيث كانوا، وألا يُقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، ويسير المسلمُ في بلاد النصارى آمناً في نفسه وماله، ولا يُمنع مؤذنٌ ولا مصلّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه. جرى التنكّب لشروط الصلح، كما يقع ذلك دائماً بين كل منتصر وخاسر، ولم يمر إلا وقت قصير حتى أصدر المَلِكَان مرسوما بديلا مؤدّاه: لما كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها. قُصد بالحظر أمرين، ترحيلهم إلى شمال إفريقيا، وهو ما جرى فيما بعد لكثير منهم، أو إعادة تأهيلهم بالتنصير كما جرى لمن قرّر البقاء.

المجاهد، والكاردينال

ثم سرعان ما وقع أمر جلل رسم طبيعة التحولات العميقة في بنية المجتمع الغرناطي. وصل غرناطة رجل حليق الرأس إلا «من طوق من الشعر يحيط بالقبّة الجلدية اللامعة، وجهه صارم يضرب إلى صفرة ممتقعة، جبهته عريضة وعيناه صغيرتان تتطلعان في نفاذ محقِّق. له أنف أقنى وشفتان دقيقتان مزمومتان زادت العليا على السفلى امتلاء. جسده نحيل مشدود، ويبدو حين ينشر ذراعيه في ثوبه الأسود الفضفاض، كوطواط بشري هائل». يدعى هذا الرجل الغامض الكاردينال «فرانسيسكو خمينيث دي سيسنيرو». قَدِم بصحبة المَلِكَين، فسرتْ، أول الأمر، إشاعة مفعمة بالأمل، فهذا الأسقف فقيه كاثوليكي جاء من طليطلة للقاء فقهاء المسلمين في غرناطة، وفتح حوار ديني معهم. ليس ثمة مناظرات، ولا جدل لاهوتي عقيم. جاء الكاردينال حاملا معه برهانا مُفحما لم يُعرف من قبل.

نادي المنادي في الناس بأن سيُفرج عن حامد الثغري في كنيسة «سان سلفادور». الثغري، وهو أحد المجاهدين، كان تولّى دفاعا باسلا عن «رونده» ضد القشتاليين، وأردفه بمقاومة مجيدة في قلعة «مالقة» فنحّى واليها المتردّد أمام الإسبان، وقاد بنفسه المقاومة في المدينة، لكنه وقع أسيرا، وطال سجنه لأكثر من عشر سنين، فتلاشى حضوره سوى ذكر يومض من بعيد بوصفه مجاهدا، لكن أسطورته لم تزل تحوم في ذاكرة أهل غرناطة ونواحيها. تردّد بعض المسلمين في دخول الكنيسة التي كانت مسجدا، ولكن الرغبة المتّقدة في إعادة الاعتبار للمجاهد الشهير دفعت كثيرين ليكونوا شهودا على إفراجه، فتوافدوا، وتزاحموا. كانوا يريدون أن يكونوا مع بطلهم في لحظة حريته. رغبوا في أن يحملوه على الأعناق، فهم أهل «جاهته وعزوته». ولايصح أن يخرج من «أسره الطويل وحيداً عارياً من أهله». فتدافع «حشد كبير من أولاد العرب». وغصّ بهم فناء الكنيسة. جاءوا، وقد تعلّقت أرواحهم «بالكلمة التي يقولها، والقرار الذي يتخذه».

ظهر الكاردينال سيسنيرو بثوبه الأسود الضافي في رواق الكنيسة، وجثم على كرسيّ كبير فخم، وصفّق بيديه، فإذا بأربعة من الحراس يظهرون أمام الحضور، يطوقون رجلا ناحلا بأسمال بالية، متعثّر الخطى، مطأطئ الرأس، مكبّل اليدين والقدمين. جرى بصعوبة بالغة التأكّد من هوية الثغري، فقد نالت منه الأيام، وهزُل، وخُرّبتْ ملامحه البشرية، كأنه لم يكن قبل عقد من الزمان نمرا من نمور المقاومة في مالقة. لا مقارنة بين الكاردينال المتربع على كرسي فخم برداء أسود مهيب. والمجاهد الذليل، الناحل، والمتعثّر. فكّت قيوده، بأمر من الكاردينال، وطُلب إليه أن يصارح المسلمين بأمره. فماذا قال؟

تنحنح، وسعل، وتلعثم، ثم روى لهم أنه فيما كان نائما، بالأمس، في سجنه، جاءه هاتف أخبره بأن الله يريد له أن يتنصّر، وأضاف مطأطئ الرأس «هذه إرادة الله ومشيئته». صدح الأرغن بلحن كنسي ابتهاجاً، فجفل الناس، وسالت دموع بعضهم أسفاً، فاقتاد الحرسُ الثغريَّ خارج القاعة. ظن الناس أن الأمر انتهى، لكن ما لبث أن أُعيد الثغري ثانية «كانوا قد غسلوا وجهه وصففوا شعره وألبسوه ثوبا من حرير. مشى الثغري باتجاه مقعد الكاردينال بخطى ثقيلة غير متزنة وكأنه ما زال مقيدا. ركع عند قدمي خمينيث الذي تناول كأس التعميد من يد أحد معاونيه. غمس أطراف أصابعه في الكأس ونثر شيئا من مائه على رأس حامد وهو يتمتم بكلمته المقدسة. اختار حامد الثغري لنفسه اسم جونزاليز فرناندو زغْري».

لم يعد من المتاح الحديث عن مجاهد يدعى الثغري، صار من اللازم الحديث تابع ديني يدعى «زغْري». لاتخفى الصلة بين «الثغري» و«الثغور». فهي المواقع المتاخمة لديار الحرب، يرابط فيها المجاهدون للدفاع عن تخوم دار الإسلام، وغالباً ما تكون آخر تلك الديار، فالثغري، واسمه حامد الزغب، شيخ قبيلة غمارة، هو المرابط دفاعا عن عقيدة آمن بها، ووقع اختباره في قيادة حروب الدفاع عن مالقة، وتروي المصادر عنه قوله حينما رغب بعض الأعيان في التفاوض مع القشتاليين «إني تسلّمتُ المدينة لأحميها لا لأسلّمها». فكان على رأس الفرسان الذين دافعوا عنها ببسالة إلى أن وقع أسيراً.

تخريب الأرشيف الثقافي

لا يفصح السرد، ولا التاريخ، عن الكيفية التي تحوّل فيها الثغري اسماً ومسمّى إلا بلمحات كنائية سريعة. لكن الجميع يعرفون بأن التحولات الثقافية الكبرى تترك آثارها في مصائر الأفراد وفي الجماعات، فقد أجبره الكاردينال سيسنيرو على التنصر امتثالا للقاعدة التي سنّها «ضرورة إرغام شعب غرناطة المسلم على اعتناق الدين المسيحي» فتعرّض «لمعاملة قاسية قبل أن تنهار معنوياته، ويرغم على اعتناق المسيحية». أشرف الكاردينال على ذلك بنفسه، وكان تابعه الشرس «ليون» هو الأداة التنفيذية المرعبة التي جعلت من الثغري موضوع اختبار للمنهج الكاثوليكي في اجتثاث العقائد المخالفة. استأسد التابع وأظهر قدرة فائقة في تحويل مجاهد إلى تابع ذليل يتلقّى ماء العماد، أمام شعبه، من خصمه اللدود. ولكن ليس من الإنصاف تبنّي سياسات لوم الضحايا، والعزوف عن فضح سياسات الجلادين. فماذا عن الكاردينال؟

عُهد لديوان التفتيش بالمهمة الإستراتيجية الهادفة إلى محو الأرشيف العقلي والروحي للمسلمين واليهود في سائر البلاد الأندلسية. نشأ الديوان في قشتالة سنة 1478 عشيّة مقاومة الثغري في «مالقة» بفضل القس «توماس دي توركيمادا» وبعد سنتين تأسست أول محكمة للتفتيش في إشبيلية، واتسع نشاط الديوان بعد أن صدر مرسوم بابوي بتعيين توركيمادا رئيسا له ومنحه سلطة مطلقة في وضع دستور له، والإشراف على تنظيم أعماله، وكانت إجراءات محاكماته مشفوعة بأقسى ألوان التعذيب.

تبنّى ديوان التفتيش سياسة التنصير الإجباري لليهود والمسلمين في غرناطة وسواها من حواضر الأندلس، وعهد الأمر للكاردينال سيسنيرو (ثيسنيروس، سيثنيروس) الذي وفد على غرناطة في يوليو 1499 برفقة الملِكَين، وتمكّن من تحويل الكثيرين إلى المسيحية، وحوّل مساجد غرناطة إلى كنائس. ثمّ رأى أنّ الثقافة العربية تمثل خطرا على جهوده في التنصير، فأمر بجمع كلّ ما استطاع جمعه من الكتب من أهالي غرناطة، ونظّمت منها أكداس ضخمة في ميدان باب الرملة، وأضرم النار فيها، ويقدّر بعض المؤرخين عدد هذه الكتب التي أحرقت بنحو مائة ألف مجلد.

كان سيسنيرو معاصراً للثغري، وفي وقت أهملتْ فيه المصادر العربية ذكر المجاهد، سوى أخبار شحيحة، امتلأت المصادر الكاثوليكية بأخبار الكاردينال. ولد سيسنيرو في عام 1436م. وكان له تاريخ مشهود في خدمة الكاثوليكية قبل أن يتبوأ أسقفية طليطلة، ثم جيء به لإعادة بناء هوية غرناطة، فباشر بتحويل المسلمين إلى نصارى متبعاً وسائل العنف في محو الذاكرة، وقوبل نهجه بالاستحسان في البلاط الملكي، فاستعين به في مهمات سياسية ودينية وعسكرية، إذ أصبح وصيّاً على العرش، ومروّجا للحملات الصليبية في شمال إفريقيا التي قاد فيها جيشاً لاحتلال مدينة وهران، وتبنّى سياسات إحراق المخطوطات العربية، وقد خيّر المسلمين بين المعمودية أو المنفى، وأعلن أنه لا مكان لأحد في المدينة غير النصارى، وكل المساجد صارت كنائس. وتسبب ذلك في تعقيد سياسات الذوبان، إذ لاقت فكرته رفضا معلنا من المسلمين، ولم ينته الأمر إلا في مطلع القرن السابع عشر حينما جرى ترحيل بقيتهم إلى شمال إفريقيا. عُرف سيسنيرو في أوساط المورسكيين بالاستبداد، والتعنّت، شأنه في ذلك شأن معظم المبشرين النصارى في تلك الفترة، وتوفي في عام 1517م. وترسم له صورة جليلة في المخيال الكاثوليكي بوصفه أحد أبرز المدافعين عن المسيحية في مطلع القرن السادس عشر.

أخذ الكاردينال بسياسة العنف، فحينما تمرّد المسلمون على خطته لتحويلهم إلى نصارى سنّ قاعدته الذهبية، التي جرى تبنّيها على نطاق واسع: يعفى كل من تنصّر، ويعاقب الآخرون. كان الكاردينال ممثلا لديوان التفتيش، فأدرك أهمية الأرشيف الثقافي الحامل للذاكرة الجماعية: اللغة، والأدب، والعادات، ولكي يمضي برنامج الاجتثاث إلى نهايته فلا بد من إتلاف ذلك الأرشيف. كانت عملية إعدام الأرشيف طويلة ومريرة، طالت أعماق المسلمين، فنبش في وجدانهم ونواياهم، مدة طويلة، وعوقبوا جماعات بسبب ذلك.

والعالِمُة، والمحقّق

بإزاء المجاهد والكاردينال، وما آل إليه أمرهما، نضع العَالِمَة والمُحقّق اللاهوتي. يتعلّق الأمر، هذه المرة، بـ«سليمة بنت جعفر» حفيدة أبي جعفر الوراق الغرناطي المتولّه بالكتب. كانت طفلة حينما سيطر القشتاليون على غرناطة، وتشرّبت عشق الكتب من جدّها، وورثت كثيرا منها بعد وفاته، فجعلت من غرفتها في البيت مخبأ لها. كان أبو جعفر يريد لحفيدته أن تكون «مثل نساء قرطبة العالِمات». وقد شهدت في طفولتها محرقة الكتب في ساحة باب الرملة، وعلمت بأن جدّها تمكّن من إخفاء الثمينة منها بعيدا عن الأنظار، وانتهت أنفس المخطوطات الطبية إليها، فمضت ليل نهار في استظهارها. جعلت سليمة من غرفتها مخبرا لإنتاج الدواء، ومضت في شفاء الأجساد العليلة، وأصبحت «حكيمة» لغرناطة. مرّ أكثر من ربع قرن على حملات الاستئصال الأولى التي مارسها القشتاليون، فانتهى الأمر بأن اتهمت العالمة بالسحر.

سيقت حفيدة جعفر الورّاق إلى محاكم التفتيش. جرى معها تحقيق مطوّل قاده قاض لاهوتي، واثنان من المحققّين الذين غزاهم التفسير الضيق للكاثوليكية، فأدخلوا العالمة في تضاعيفه عنوة، لا ليتأكدوا من إثمها، إنما ليثبتوا صحة فرضيات اللاهوت الكنسي. وجاء في الاتهام الآتي «إنه في عام سبعة وعشرين وخمسمائة وألف من ميلاد السيد المسيح، وفي يوم الخامس عشر من شهر مايو، وبحضورنا نحن أنطونيو أجابيدا القاضي بديوان التحقيق وكل من آلونسو ماديرا وميجيل أجيلار المحقِقَين في الديوان، بدأ التحقيق فيما شاع ونُمي إلى علمنا من أن جلوريا ألفاريز، واسمها القديم سليمة بنت جعفر، تمارس السحر الأسود وتقتني في بيتها ما يدعو إلى الشبهة من بذور ونباتات وتراكيب تستخدمها في إيذاء الناس.. ولقد اقترفت بممارساتها تلك ما يهدّد الكنيسة الكاثوليكية وأمن الدولة».

أصبحت شافية الأجساد متهمة بإفسادها، فشكّلت خطرا على الكنيسة والدولة. أظهر التحقيق الأولي الذي جرى تحت القسم على «الأناجيل الأربعة» بأن سليمة أصبحت جلوريا ألفاريز، وغيرّ اسم والدتها من «أمّ حسن» إلى ماريّا بلانكا، وعمّد زوجها سعد المالقي باسم كارلوس مانويل، أما ابنتها عائشة، فأصبحت إسبيرانزا. دوهم بيتها، واستولي على كتبها الطبية، وأدويتها، ووجهت لها تهمة السحر. آل مصير عالمة غرناطة إلى أن تكون ساحرة. كان زوجها سعد المالقي قد التحق بالجهاد منذ ست سنوات، لكنه عاد إلى البيت في ليلة لا ثانية لها منذ ثلاث، فحملتْ منه بعائشة. ركّب المحقّقون على هذه المعلومة العابرة تهمة السحر، فحينما سئلت عن عمر ابنتها، قالت ثلاثاً، وحينما سئلت عن مدة غياب زوجها، قالت ستا، ثم استدركت، وأخبرتهم بأنه زارها مرّة واحدة قبل ثلاث سنوات، فحملت منه بابنتها. لم تقل سليمة إن زوجها التحق بالمقاومة، وأسر، وأطلق سراحه، إنما قالت إنه غادر لسوء تفاهم بينهما.

عثر المحققون على ثغرة زمنية جرى تأويلها في سياق لاهوتي، فكيف يتأتى للمتهمة أن تحمل قبل ثلاث سنوات بطفلة فيما مضى على غياب زوجها ست؟ جرى إهمال الاستدراك الذي شدّدت هي عليه. لابد إذن أن يكون الشيطان قد أودع فيها ذلك الجنين في غياب الزوج. ارتسم للشيطان موقع في مسار التحقيق، فسئلت إن كانت تؤمن بوجود الشيطان. أفصحت سليمة عن عدم درايتها بموضوع لم تُشغل به من قبل، ولما طُلب إليها تحديد الجواب، قالت «لا أعتقد أن للشيطان وجوداً» فكل ما يحدث من مهالك له أسباب في الطبيعة.

التيس الشيطاني

لاحظت سليمة بريق تشفّ في عيون المحقِّقَين، فخطر لها أنها قد تُتهم بنكران ما تقول به المسيحية في شأن إبليس، فأسرعت، وقالت «نعم، أعتقد أن الشيطان موجود». علقتْ سليمة في منطقة الإنكار والإقرار. فسُئلتْ فيما إذا كانت تعبد الشيطان بديلا للرّب، فأنكرت بقوة. رفع القاضي يده بورقة، وطلب إليها التقرّب. حمل بيده الدليل الدامغ على جرمها بعبادة الشيطان. كانت ورقة متغضّنة عليها صورة حيوان يمكن أن يكون نعجة أو غزالا. عثر عليها في غرفتها في أثناء التفتيش. في الواقع كانت الصورة رسما يدويا مبسّطا للغزالة التي أهداها إليها سعد قبيل زواجهما، وقد نفقت منذ زمن طويل، ثم نُسي الرسم في غرفتها بين الكتب. لم يتفق المحققون على كون الشيطان هو الأب المباشر لابنة سليمة، فنُسبت لرجل مجهول قام الشيطان بإيداع نطفه في رحمها، فإبليس هو الوسيط، وليس الفاعل، وترتّب على ذلك أنه لايجوز حرق سليمة على هذه التهمة. ولكن القاضي، في نهاية التحقيق، ثبّت ثلاثا من التهم الصريحة التي وردت في اعترافاتها: الإقرار بأن رسم التيس الشيطاني لها، والاعتراف بأنها حملت الطفلة في غياب زوجها، وقولها بأنها لا تعرف إن كان هنالك شيطان أم لا. علّق ماديرا المتحمّس بأن تهمة إنكار الشيطان وحدها كافية لإدانتها بالكفر، فعدم الإقرار بوجوده «هو إنكار لواحد من أسس العقيدة الكاثوليكية».

التنكيل بعالمة غرناطة

ثبت على سليمة بنت جعفر الكفر، واتفق على الإمعان بتعذيبها لأن الساحرات يخفين دائماً أسراراً لاتعرف إلا بمزيد من التعذيب. إلى تهمة الكفر أضيفت تهمة لم تخطر ببال؛ إذ سألها القاضي إن كانت تسري في الليل عبر المسافات على ظهر دابة تطير، فكان جوابها «بأنها لم تسمع أن بشرا تمكّن من ذلك، سوى محمد، نبيّ المسلمين». فطلب القاضي استزادة في التوضيح، فحكت له «عن دابة مجنّحة حملت محمدا من مسجد في مكة، إلى مسجد سواه في القدس». سأل القاضي إن كان ذلك قد حدث فعلا، فأحسّت سليمة بخطر الإقرار بالأعجوبة المحمدية، فراوغت، وقالت «لقد تعمّدتُ وصرتُ نصرانية».

تضخمت هذه النقطة الصغيرة، فلم تعد تهمة الارتداد والمروق تقتصر على تعامل المتهمة مع الشيطان، إنّما امتدت إلى الشك في عقيدتها المسيحية إذ «يبدو أنها بالرغم من التعميد لم تتخل عن دينها المحمدي، وفي هذه الحالة يكون تعاملها مع الشيطان مقصودا للإضرار بالكنيسة الكاثوليكية». فاتُفق على تعذيبها حرقا بالنار. سيقت إلى ساحة باب الرملة وسط الجموع لتنفيذ الحكم. خلال الطريق كانت قد قررت ألاّ تذّل نفسها بالصراخ والتضرّع، فلن تضيف إلى المهانة مهانة أخرى؛ لأن «العقل في الإنسان زينة، والكبر في النفس جلال. بإمكانها أن تمشي الآن كإنسان يملك روحه، وإن كان يمشي إلى نار المحرقة».

بجوار المحرقة حيث تقف عالمة غرناطة تُلي أمام الحشد قرار القضاة «لقد أردنا التأكد من التهم الموجهة إليك، والتحقّق من صحتها أو بطلانها، وإذا ما كنت تمشين في النور أو الظلام، فاستدعيناك للتحقيق، وجعلناك تقسمين أمامنا، وسألنا الشهود، والتزمنا بكل القواعد التي تمليها علينا قوانين الكنيسة. ورغبة منا في تحقيق القدر الأمثل من العدالة، فقد اجتمع مجلس موقّر من علماء اللاهوت، والمتبحّرين فيه، وبعد أن قمنا بفحص ومناقشة كل أركان القضية، وكل ما أدليت به في التحقيقات، توصلنا إلى أنك أنت المدعوة جلوريا ألفاريز، التي كان اسمك قبل التعميد سليمة بنت جعفر متهمة بالكفر، لأنك كنت أداة للشيطان, وخادمة له، تحتفظين بالبذور التي يجمعها وتعدين المركبات الشيطانية التي تؤذي البشر والدواب... وكذلك ثبت ارتدادك عن الكنيسة التي احتضنتك وأرادت الخلاص لروحك، واتضح أنك بالرغم من التعميد مازلت مبقية على دينك المحمدي وولائك لنبي المسلمين... ولكي يعتبر كل ذي عقل ونفس سوية، وينأى العباد عن طريق الكفر، ولكي يعرف الكل أن المروق لا يمكن أن يمر من دون عقاب، فإنني أعلن أنا القاضي أنطونيو أجابيدا، نيابة عن الكنيسة، وأنا جالس هنا وأمامي الأناجيل الأربعة، أعلن حكمي وليس نصب عيني، سوى الرب وشرف العقيدة ومجدها: حكمنا عليك وأنت واقفة أمامنا هنا في ميدان باب الرملة، أنّك كافرة لا توبة لها، عقابها الموت حرقا» وأحرقت سليمة في المكان الذي أحرقت فيه كتب جدها أبي جعفر.

 

عبدالله إبراهيم